الخميس ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٧
بقلم فاروق مواسي

يُقدِّم الخير ويُقابل بالشر

لا أتحدث هنا عن جزاء سِنِمّار أو عن موضوع "لا تصنع المعروف في غير أهله"، بل سأستمر في الموضوع الذي تناولته في الحلقة السابقة "عذيرك من خليلك من مرادي"،حيث ختمت الحلقة بقول عمرو بن معْدِ يكرِب:

يَبْرون عظمي وهمّي جبرُ عظمهمِ
شتانَ ما بيننا في كل ما سبب
أهوى بقاءَهمُ جُهدي وأكثر ما
يهوَون أن أغتدي في حفرة الترب

تذكرت في هذا السياق قصيدة أحببتها وحفظتها- هي للمُقَنَّع الكِنْدي وردت في (الأمالي، ج1، ص 276) للقالي، حيث يدافع الشاعرعن نفسه حيال أهله وذويه الذين اتهموه بالإسراف والغرق في الديون:

يقول أبو علي القالي:

"وقرأت عَلَى أَبِي بَكْرِ بن دُرَيد للمقنع الكندي:

يُعاتِبُنِي فِي الدَّيْنِ قَوْمِي وإِنَّما
دُيُونِيَ فِي أَشْيَاءَ تَكْسِبُهُم حَمْدَا
ألمْ يرَ قومي كيفَ أوسرُ مرّةً
وأعسرُ حتى تبلغَ العسرةُ الجَهْدَا
فما زادني الإقتارُ منهمْ تقربًا
ولا زادني فضلُ الغِنى مِنْهُمُ بُعدَا
أسدُّ بهِ ما قدْ أخلُّوا وضيَّعوا
ثغورَ حقوقٍ ما أطاقُوا لها سدَّا
وفي جَفنةٍ ما يُغلقُ البابُ دونَها
مكللةٍ لحمًا مدفقةٍ ثُرْدا
وفي فرسٍ نهدٍ عتيقٍ جعلتُهُ
حجابًا لبيتي ثم أخدمْتُهُ عبدَا
وإنَّ الذي بيني وبينَ بني أبي
وبينَ بَني عمِّي لمختلفٌ جدَّا
أراهُمْ إِلَى نصري بطاءً وإنْ هُمُ
دعَوْني إِلَى نصرٍ أتيتُهُمُ شدَّا
فإنْ يأكلوا لحميْ وَفَرْتُ لحومَهُمْ
وإنْ يهدموا مجدي بنيتُ لهمْ مجدَا
وإنْ ضيعوا غيبيْ حفظتُ غيوبَهمْ
إنْ همْ هوُوْا غَيِّيْ هَوِيتُ لهم رُشدا
وإنْ زَجروا طيرًا بنحسٍ تمرُّ بي
زجرتُ لهم طيرًا تمرُّ بهمْ سَعدا
ولا أحملُ الحقدَ القديمَ عليهمُ
وليسَ رئيسُ القوم من يحملُ الحقدا
لهم جلّ مالي إنْ تتابعَ لي غنىً
وإنْ قلَّ مالي لم أكلفْهمُ رِفدا
وإني لعبدُ الضيفِ ما دامَ نازلاً
وما شيمةٌ لي غيرَها تشبهُ العبدا

الشاعر في قصيدته يعمد إلى تعليل أسباب ديونه، فيجعل كرمه ومواقفه نحو أهله والدفاع عنهم سببًا في هذه الديون، فلا مجال إذن للعتاب بعد استجلاء الحقائق.

يعاتَبَنِي قومِي فِي كَثْرَة ديوني وَلم يعلمُوا أَنَّهَا من أجلهم، وأنها تكسبهم حمدًا، فأنا أبذل المال فِي أُمُور الْخَير، وهي تعود بالمنفعة عليهم.

إنهم شهداء علي إذ أكون تارة غنيًا وطورًا أكون فقيرًا جدًا- فقرًا يشق علي تحمّـله. فحبي لقومي يظل حبًا خالصًا دون غرض، وأنا لا أتذلل لهم عند الحاجة، فعزة نفسي تأبى علي ذلك، ومن جهة أخرى لا أبتعد عن قومي وأهلي عندما أغتني، فأنا في خدمتهم مهما بلغت من مكانة .

وهكذا أصبحت مدينًا، وذلك لأنني كنت أدفع أموالاً لم يستطع أبناء قومي دفعها، إذ كان أصحاب الحقوق يطلبونها منهم، فيعجز أهلي عن دفع هذه الثغور. (شبه الحقوق بالثغور- أي بالفتحات ومداخل العدو، فإن دخل العدو منها كانوا سببًا للمشاكل)، وهأنذا أسد الديون عنهم، فيُثقل كاهلي بالدَّين.

ثم يأخذ الشاعر بوصف شجاعته وكرمه مما يكلفّه ذلك إنفاقًا:

فيصف لنا كبر حجم مائدة الطعام التي تقدم للضيوف (جفنة- وعاء كبير)، فيكون الباب مشرعًا لاستقبال الضيوف، فالجفنة تحوي تدفق الثريد (كسر الخبز والمرق) ويتوّج اللحمُ الجفنةَ ويكون عليها كالإكليل.

وها قد أعد فرسه النهد الضخم العريق في أصالته وقد ربطه أمام داره حجابًا وحماية لبيته، وجعل له خادمًا خاصًا لرعايته.

هنا يبدأ الشاعر في تبيان أوجه الخلاف بينه وبين بني عمه، ويقول إن ما بينه وبينهم "لمختلف جدًا"، فلا يعجبُنَّ هؤلاء من كثرة ديونه:

إذا كانوا يتباطأون ويتلكأون في نصرته والدفاع عنه ===== فهو يأتي لنصرتهم بكل طاقته.

إذا كانوا يأكلون لحمه- أي يغتابونه لقسوتهم ==== فهو يحفظ سيرتهم ويجعل ذكرهم حسنًا.

إن يهدموا أمجادي ويقللوا من شأنها ويشوهوا سمعتي ==== فأنا أبني لهم المجد وحسن السيرة، إذ أرى سيرتي في سيرتهم.

إذا كانوا لا يردون الإساءة لي في غيابي === فأنا أرد وأصد من يذكرهم بسوء.

إذا كانوا يحبون الضلال لي وأن أتخبط في حياتي === فأنا أحب لهم الرشاد والهداية.

إذا كانوا يتوقعون الشر لي (عند زجر الطير- هو البارح) === فأنا أتوقع لهم الخير والطير السانح.

وكل هذه المهام التي أقوم بها بالغة التكلفة، ولا تأتي مجانًا، ولهذا غدوت اليوم على أنا ما عليه...

إزاء كل هذه الممارسات السلبية التي يقوم بها أبناء عمي فأنا أفعل لهم كل إيجاب، ذلك لأنني لا أحمل الحقد القديم عليهم، فقلبي صاف نحوهم، سرعان ما أنسى الإساءة، كالأب لا يحقد على أبنائه مهما فعلوا، وأنا لا أتجمل بذلك، إذ أن كبير القوم من طبعه ألا يحمل حقدًا.
(بهذا المعنى يلتقي مع عنترة في قوله:
لا يحمل الحقدّ من تعلو به الرتب...)

يمضي الشاعر في الموازنة فيقول:

أنا أدفع لأهلي معظم أموالي مهما توالى علي الثراء = بينما أذا قل مالي لا أرجو منهم أي عطاء ولا أكلفهم به.

يرسّخ في ختام القصيدة معنى كرمه فيقول:

أنا عبد للضيف ما دام مقيمًا في منزلي. نعم أنا عبد له، ولكن ليست لي أية صفة أخرى من صفات العبودية.

الشاعر:

المُقَنَّع الكِنْدي (ت. 690 م)

محمد بن عُمَير الكندي:

شاعر أموي مقلّ، من أهل حضرموت. كان له شرف ومروءة وسيادة.

وكان مُقنعاً طول حياته، و"القناع من سيما الرؤساء"- كما يقول الجاحظ في (البيان والتبيين، ج3، ص 102).

قال التبريزي في تفسير لقبه: المقنع الرجل اللابس سلاحه، وكل مغطٍّ رأسه فهو مقنع، وزعموا أنه كان جميلا يستر وجهه، فقيل له: المقنع.

وفي القاموس والتاج: المقنّع، المغطى بالسلاح أو على رأسه مغفر أو خوذة.

ورد في (الأغاني- ج17، ص 113) أن اسمة محمد بن ظَـفَـر بن عُمير الكندي.

يقال إن سبب القصيدة أن المقنع أنفق جميع ما خلَّفه أبوه من مال، فاستعلاه بنو عمِّه عمرو بن أبي شَمِر بأموالهم وجاههم.

هَوِيَ بنتَ عمِّه عمرو، فخطبها إلى إخوتها، فردُّوه وعيَّروه بتخرُّقه وفقره وما عليه من الدَّين.

(الأغاني، م.س ، ص 114)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى