الثلاثاء ٨ شباط (فبراير) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

1- ذكرياتُ عشِّنا القديمِ

أقولُ:

قبلَ أن تُعمّقْ إيمانَك بالصّلاةِ عمِّقْ إيمانَك بالحياةِ..
الحبُّ بدايتُه سِرٌّ جميلٌ، ونهايتُه لغزٌ مُؤلِمٌ..
ثمّة خلطٌ لأوراقِ التَّاريخِ الحديثِ.. فعلَينا أن نُلمْلِمَ وريقاتِنا قبلَ الرَّحيلِ..
حنينٌ لا ينضبُ

إنَّ أجملَ منزلٍ يهواهُ الفؤادُ هو ذلكَ المنزلُ الّذي عاشَ فيهِ ذكرياتِ طفولتِه، ولو كانَ كوخاً حقيراً أو خيمةً باليةً أو بيتاً من حجرٍ وطينٍ، ولا يُمكنُ أنْ تُنسيكَ تلكَ الذِّكرياتِ رفاهيةُ بيتٍ جديدٍ، ولو كانَ قصْراً مُنيفاً، وقدْ تغنّى الشُّعراءُ والأدباءُ بذكرياتِ منازلِ طفولتِهم القديمةِ أكثرَ ممَّا تَغنَّوا بجمالِ منازلِهم الحديثةِ، وكانَ حنينُهم لا ينقطِعُ إلى ملاهِي الطُّفولةِ، حيثُ الجمالُ والعفويَّةُ والصَّفاءُ، والصِّدقُ والبراءةُ والنَّقاءُ، فهَا هو شاعرُنا أبو تمَّامٍ الطَّائيُّ يُعبِّرُ عن حنينِه إلى حُبِّهِ الأوَّلِ الّذي يَظلُّ أجملَ ذكرياتِ الهَوَى، كمَا يَظلُّ الحُبُّ والحنينُ إلى أوَّلِ مَنزلٍ لظَىً في أعماقِ الرُّوحِ تُؤجِّجُ لهيبَ الشَّوقِ إلى ذكرياتِ الطُّفولةِ كلَّما خيَّمَ علَيْها ضبابُ السِّنينَ:

نقِّلْ فؤادَك حيثُ شِئْتَ منَ الهَوى
مَا الحُـــبُّ إلَّا للحَبــيبِ الأوّلِ
كمْ مَنزلٍ في الأرضِ يألفُـهُ الفَتَى
وحنِينُــهُ أبَـــداً لأوّلِ مَنـــــزِلِ

ومن ذلكَ قولُ ميسونَ بنتِ بحدلَ زوجةِ معاويةَ الخليفةِ الأمويِّ:

لَبَــيْـتٌ تـخـفِـقُ الأرواحُ فـيـه
أحــبُّ إليَّ مــن قــصــرٍ مُــنـيـفِ
ولُبْــسُ عــبـاءةٍ وتـقَـرُّ عـيْـنِـي
أحــبُّ إليَّ مــن لِبْــسِ الشُّفــوفِ
وأكْـلُ كُـسَـيْـرَة فـي كِـسْرِ بَيْتي
أحــبُّ إليَّ مــن أَكْــلِ الرَّغـيـفِ
وأصــواتُ الريــاحِ بــكــلِّ فَــجٍّ
أحــبُّ إليَّ مــنْ نَــقْـرِ الدُّفُـوفِ
عبقُ التَّاريخِ

يتربَّعُ منزلُ الطُّفولةِ وسطَ قريتِنا (حُوّير التُّركمان) الّتي تُسبِّحُ للسَّماءِ على سجَّادةٍ تتعرَّجُ تعرُّجَ التِّلالِ ووديانِها، وهيَ ترتَدي عباءتَها القَرويَّةَ متَّجِهةً بصلواتِ بيوتِها من خلالِ شُرفاتِها وأبوابِها ونوافذِها نحوَ القِبلةِ، حتّى لتخالُ منازلَها صفوفاً منَ المؤمنينَ الأتقياءِ تتوجَّهُ بتراتيلِها إلى السَّماءِ مباشرةً دونَ أنْ تبرحَ مكانَها هُنيهةً؛ لأنّ الجبالَ المحيطةَ بهَا منْ كلِّ صوبٍ تكتُم علَيْها هبَّاتِ الرّياحِ العاصفةِ، فتتَصاعدُ أنفاسُ الحياةِ والكائناتِ عبرَ النَّافذةِ السَّماويَّةِ الّتي تنهالُ علَيها بزُرقتِها حبَّاً، وبضيائِها عشقاً وهياماً، حتّى وصفَها ضيفٌ لبنانيٌّ ذاتَ يومٍ، فقالَ بلهجتِه اللُّبنانيَّةِ: (العَمَى كيف بتشُوفُوا الرَّبّ من الطِّيئَة؟! – الطَّاقة أو الفَتْحة)!!

لكنّ هذهِ القريةَ المُتواريةَ في أحضانِ الوَادي بينَ الجبالِ، لم تختبِئْ خوفَ أعاصيرِ الغدرِ الّتي حاقَتْ بِها عبرَ الزَّمنِ، ولم تتَوارَ رهْبةَ عواصِفِ الدَّهرِ ونوازلِ المِحنِ، فوقفَتْ شامخةً شموخَ جبالِها معَ جارتيَها (بيت ناطر وحرمل) أمامَ الوحوشِ المفترسةِ الّتي غدرَتْ بكلِّ القُرى الّتي تحملُ عبقَ الشُّموخِ الإسلاميِّ، ولم يبقَ من ذكرياتِ ذلكَ التَّاريخِ إلّا أسماءُ عقاراتٍ وقُرىً يصعبُ على أقلامِ المزوِّرينَ تشويهَ حقائقِها؛ لأنَّها تمتلكُ ألفَ لسانٍ وآلافَ الذَّاكرينَ، وما زالَتْ هذهِ الأسماءُ نجوماً لامعةً في سماءِ الذِّكرياتِ تهمسُ في أذنِ الأيَّامِ أحاديثَ رجالٍ وأقوامٍ بنَوا هُنا حضارةً، إن اندثرَتْ أنفاسُ أبنائِها، فلنْ تندثرَ أوابدُ الدَّهرِ في أذهانِ السَّاهرينَ على حدودِ التَّاريخِ كلّما غفَا غفواتِه، إنّها قرىً تتكلَّمُ بأسماءِ أصحابِها عشّاقاً (عاشِق عُمر)، أو بأسماءِ تضاريسِها (حزُّور) أو بأسماءِ محاكمِها (حارةُ السَّرايا) أو بأسماءِ بساتينِها (الحكر: بساتينُ بيتِ قطريب) أو بأسماءِ بيوتِها (بيت عُتق – بيت ناطِر) أو بأسماءِ قبورِها فوقَ الجبالِ (مقبرةُ التُّركمان)، أو بأسماءِ أراضيْها أو أحداثِها (الدّوغرلية.. قُرطْمان..)، أو بأسماءِ عائلاتِها (بيتُ أصلان)، أو بأسماءِ صبايَاها الجميلاتِ (قِزْحِل: كلُّها صبَايا).. إلى آخرِ ما يَصعبُ أن تُحْصيَه الذَّاكرةُ المعتلّةُ بالإهمالِ والنِّسيانِ!
كان منزلُنا مثلَ منازلِ قريتنِا الأخْرى منْ حيثُ التَّصميمُ والبناءُ والمكوِّناتُ، دارٌ عربيَّةٌ مسوَّرةٌ بجدارٍ منَ الحِجارةِ على ارتفاعٍ بسيطٍ، تَعلُوه أكداسٌ منَ الشَّوكِ والبَلّانِ والعُلَّيقِ الّتي تحجبُ رؤيةَ المارّينَ على الأزِقَّةِ ()، كمَا أنّها تُعرقلُ حركةَ التَّسلُّقِ إلى الدَّاخلِ أمامَ الحيواناتِ وغيرِها، وتُطِلُّ الدَّارُ على ساحةٍ صغيرةٍ من خلالِ بوَّابةٍ خشبيَّةٍ تنْفتحُ نحوَ الدَّاخلِ لتكشِفَ عن ساحةِ الدَّارِ الّتي تتوسَّطُها شجرةُ توتٍ ضخمةٍ تَحْكي قصصَ الأجدادِ وتؤرِّخُ لأعمارِهِم في العملِ والكفاحِ، وهي تحتَضِنُ مساحةَ الدَّارِ والأزقَّةِ المجاورةِ بأغصانِها المتدليَّةِ عليْها بحبٍّ وحنانٍ، وتجُودُ بحبَّاتِها على مدارِ الصَّيفِ لكلِّ مَن تشتَهي نفسُه ثمارَ التُّوتِ، فتمتدُّ إليْها الأيادِي لتَهزَّ أغصانَها برفقٍ، فلا تبخلُ بعطائِها ثماراً على كلِّ زوَّارِها، كمَا لا تجِدُ حرَجاً في العطاءِ، حينَما تُلْقي ببعضِ أوراقِها طعاماً للماعزِ أو الأغنامِ الّتي تستَظِلُّ في ظلِّها، فهيَ أمٌّ رؤومٌ للإنسانِ والحيوانِ.. للكِبارِ والصِّغارِ، للضُّيوفِ وأهلِ الدَّارِ، يجتمعُ تحتَ أفيائِها الأحبَّةُ، الأقاربُ والأصدقاءُ، ويتناولُ الجميعُ طعامَ الإفطارِ أو الغداءِ أو العشاءِ، ويحتسونَ كؤوسَ الشَّايِ السَّيلانيِّ، وفوقَ أغصانِها تُزقزِقُ عصافيرُ الدُّوريّ، ومنْ فروعِها تتدلَّى حبالُ الأراجيحِ؛ لتتَناغمَ معَ هزَّاتِها أغاريدُ الطُّفولةِ، ونحنُ نطيرُ معَ الهواءِ، ونعانقُ أغصانَها، ومعَ كلِّ تطايرٍ في الهواءِ تمتشِقُ أيديْنا النَّاعمةُ حبَّاتِ التُّوتِ، وتنتَشِي لحظاتُنا بالحُبورِ بينَ مرحٍ ولهوٍ وغناءٍ وفاكِهةٍ!

ثمّ يستقبلُكَ بيتٌ ترابيٌّ كبيرٌ من الحجرِ والطّينِ ببوَّابةٍ خشبيَّة منَ الأمامِ ونافذةٌ صغيرةٌ من الخشبِ والزُّجاجِ تُطلُّ على مِصطَبةٍ مرتفعةٍ تُعرِّشُ فوقَها داليةٌ من العِنبِ الأسودِ، تَفرشُ أغصانَها على أخشابٍ تحملُها أربعُ قوائمَ؛ لتُشكِّلَ خيمةً من الخُضرةِ، تتدلّى من بينِ أوراقِها عناقيدُ العنبِ كأمٍّ حانيةٍ تُدلّي أثداءَها وهيَ تعطفُ على رضيعِها لتمدَّهُ بقُوتِ الحياةِ، وتظلُّ هذهِ المِصطبةُ مجلساً عامراً بالحصيرِ واللَّبَّادِ والمساندِ طوالَ أيَّامِ الصَّيفِ، وفي اللَّيلِ تتحوَّلُ المصطبةُ إلى فندقٍ ليليٍّ للنَّومِ حينَ تُفرشُ بفُرشٍ وألحِفةٍ من صوفِ أغنامِنا، بعدَ أن تنتَهي أحاديثُ الأهلِ والجيرانِ وتُلملِمُ نهاياتِها حكاياتُ (الشَّاطرِ حَسَن) ومغامراتُ الأبطالِ الّتي تُعشِّشُ في أذهانِ الرِّيفيّينَ، وتمثِّلُ في أذهانِهم قصصَ البطولةِ الّتي يستمدُّونَ منْها بيارقَ الشَّجاعةِ في تحدِّي ألغازِ الطَّبيعةِ الّتي لم تكنْ لتَخلوَ من مخاطرِ الوحوشِ المفترسةِ كالضِّباعِ والذِّئابِ وعفاريتِ الجِنِّ الّتي كانَت تُروى من قبلِ أناسٍ يدَّعونَ مشاهدتَها، ويؤلِّفُون حولَها رواياتٍ وحكاياتٍ لا تَنضُبُ، ولكنَّ ذلكَ لم يكنْ ليُخيفَنا، ونحنُ نحتضِنُ بعضَنا إخوةً وأخواتٍ تحتَ الألحِفةِ، وعيونُنا تراقِبُ النُّجومَ المُتلألئةَ في كبدِ السَّماءِ، نَعدُّها بأصابعِنا، وكلٌّ منّا يقتسِمُ تلكَ النُّجومَ بينَ كبيرةٍ وصغيرةٍ.. ثمَّ تغفُو عيونُنا ونَغرقُ في أحلامِنا، ويأتي الصَّباحُ ليطويَ جميعَ تلكَ الحكاياتِ، فلا ضباعَ ولا سباعَ ولا ذئابَ ولا عفاريتَ، وإنّما ثمَّةَ أحاديثُ العملِ والكّدِّ في الحقولِ والبساتينِ، فلا بطولةَ إلّا في أكُفِّ الفلّاحينَ، وهي تمتشِقُ مقابِضَ المحاريثِ وفي أيديْهم سياطٌ تهزُّ الرِّياحَ، وعلى أفواهِهم كلماتٌ قويَّة كالصَّخرِ تُرعبُ الوحوشَ وتُبعِدُ الشَّياطينَ، وضحكاتٌ تمتزجُ مع سحُبِ السَّجايرِ العربيَّةِ أو الحمويَّةِ، فتصدحُ في الهواءِ الطَّلقِ لتملأَ الأفقَ الممتدَّ بينَ انحناءاتِ الأوديةِ والرُّبا مرحاً يغرسُ في أعطافِها أنفاساً متجدِّدةً للحياةِ!

وكانَ إلى جانبِ البيتِ التُّرابيِّ الكبيرِ حظيرةٌ لأغنامِنا وماعزِنا وأبقارِنا تُشاطرُنا حكاياتِها وأغانيَها طوالَ أيَّامِ الرَّبيعِ والصَّيفِ، وإلى مَقربةٍ منْها يتربَّعُ تنُّورُ الخبزِ تحتَ سقفٍ ترابيٍّ يحملُهُ عمودانِ خشبيَّانِ من السِّنديانِ العتيقِ، حُفِرَت عليهِما جيوبٌ تُودَعُ فيه أعوادُ الثِّقابِ وقِنِّينةٌ من زيتِ القُطرانِ، وإلى زاويةٍ قريبةٍ تتكدَّسُ أكوامُ الحطبِ والجَلّةِ (أقراصٌ مصنوعةٌ من روثِ الأبقارِ ممتزجةٌ بالتِّبنِ) تُوقدُها يَدا أمّي كلَّما همَّت لإعدادِ خبزِ التَّنُّورِ، وكنَّا نتحلَّقُ حولَها أنا وأخواتِي نَنتَهِبُ الأرغفةَ الأُولى مع أقراصِ الشَّنكليشِ ورؤوسِ البصلِ اليابسِ أو أوراقِ البصلِ الأخضرِ أو باقاتِ الرَّشادِ الَتي نحصدُها من الحاكورةِ قربَ البيتِ، لكنَّ ألذَّ وأروعَ أرغفةٍ تطِيبُ لأذواقِنا تلكَ الأرغفةُ المحمَّصةُ المحمَّرةُ، ولا سيَما في بردِ الشِّتاءِ إذ تمتلئُ أحشاؤُنا بدفْءِ الرَّغيفِ، وتنْتَشي أوصالُنا بحرارةِ نارِ التَّنُّورِ، وتسْكرُ جوارحُنا برائحةِ الخبزِ والدُّخانِ وندَى الضَّبابِ ورذاذِ حبَّات المطرِ!

وحينَ تَهمُّ بالدُّخولِ إلى منزلِنا التُّرابيِّ الكبيرِ تستقبلُكَ في الدَّاخلِ مِصطبةٌ أُخرى هيَ المجلسُ الشَّتويُّ والفندقُ والمطعمُ والمَقْهى والمسرحُ، قدْ فُرشَتْ بالحصيرِ والسَّجَّادِ واللَّبَّادِ وقطعٍ من جلودِ الأغنامِ والخواريفِ، تُحيطُها مساندُ مُستوردةٌ من المدينةِ، وإلى جانبِ المصطبةِ ممشىً تتوسَّطُه موقدةٌ شتويَّةٌ تلفظُ أنفاسَ دخانِها نحوَ الخارجِ عبرَ البَواري المعدنيَّةِ، وينتَهي بكَ المَمْشى إلى القسمِ الدَّاخليِّ الّذي خُصِّصَ للمؤونةِ، فتقفُ أمامَكَ خزانةُ الطَّعامِ (النَّمليَّةُ الخضراءُ اللَّونِ) وهيَ تفترُّ عن ابتسامةٍ رقيقةٍ كلَّما فَتَحتْ أبوابَها لترسمَ لكَ ملامحَ عالمٍ منَ الخيالِ، إذْ تصطفُّ القَطرَميزاتُ كجُنودِ سليمانَ، تختصُّ كلُّ واحدةٍ منْها بنوعٍ من الطَّعامِ، منْها المكدوسُ، ومنها المُربَّياتُ، ومنها الزَّيتونُ، ومنها الجُبنةُ والشَّنكليشُ وغيرُها العديدُ الّذي لا تُجيدُ وصفَه إلّا صاحبةُ الإبداعِ الّتي حبَاها اللهُ قدراتٍ تعجزُ عن وصفِها يراعَتي وكلُّ يراعاتِ الأدباءِ!

ثمَّ يتلقَّاكَ خلفَ النَّمليَّةِ عنبرُ الحبوبِ الّذي يجلسُ في زاويةٍ كما يجلسُ خوفُو في هرمِه، ويفتحُ فاهُ من الأعْلى ليتلقّى حبوبَ القمحِ بشغفٍ ونهمٍ لا يعرفُ حدّاً للامتلاءِ، لكنّه يلفظُ أنفاسَ طعامِه في الشِّتاءِ من فتحةٍ أماميَّةٍ كلّما امتدَّتْ إليها يَدا أمّي لاستخراجِ حبوبِ القمحِ من أجلِ إرسالِها إلى الطَّاحونةِ لإعدادِ طحينِ الخبزِ.. وإلى جانبِ ذلكَ العنبرِ الطِّينيِّ يبسُطُ جثَّتَه عنبرٌ متطاولٌ من الخشبِ والتُّوتياءِ، مقسَّمٌ إلى عدّةِ أقسامٍ: قسمٌ للطَّحينِ، وآخرُ للبرغلِ، وثالثٌ للعدسِ، ورابعٌ للحُمُّصِ، وخامسٌ للكشْكِ، وسادسٌ للتَّصدُّقِ، وسابعٌ لغدراتِ الزَّمانِ ونوائبِ الدَّهرِ!
وفي وسطِ البيتِ ينهضُ عمودانِ قويَّانِ منَ السِّنديانِ يحملانِ سقفَ البيتِ التُّرابيِّ المصنوعِ من الخشبِ والبلَّانِ وفوقَها الطّينُ المجبولُ بالتِّبنِ، يُعرجَلُ في الشِّتاءِ بحجرٍ أسطوانيٍّ يُدعى (المِدْحلة) كلّما بدأتْ قطراتُ المطرِ تدلِفُ علَينا بلونِ التُّرابِ المعتَّقِ، ويُسمَّى هذانِ العمودانِ (السَّامُوك) وتُعلَّقُ عليهِما الجيبيَّةُ الّتي تُودَعُ فيْها الإبرُ والخِيطانُ والأزرارُ والقدَّاحاتُ وغيرُها، وإلى جانبِها يتسلَّقُ الفانوسُ على مسمارٍ، أو السِّراجُ الزّيتيُّ الّذي يُعمي أبصارَنا بدخانِه كأنّهُ قطارُ الحجازِ المُسيَّرُ بالفحمِ، ومعَ تقدُّمِ الحياةِ جلسَ على السَّاموكِ مصباحٌ جديدٌ يُدعى (اللِّكْس)، راحَ يبثُّ أضواءَه عبرَ قميصٍ حريريٍّ، لا أدْري كيفَ يتحمَّلُ تلك الحرارةَ المتولِّدةَ من الضَّوءِ المُشتعلِ من ضغطِ زيتِ القطرانِ، بالرّغمِ من رقَّتِه ونعومتِه، إذ تستطيعُ أنْ تعبثَ به نفخةٌ من فمِ أحدِنا ونحنُ صغارٌ، فما بالُكَ بنفخةِ فلَّاحٍ يتطايرُ أمامَها طبقٌ منَ القشِّ، لكنَّ صانَعَه أدركَ سرَّ ضعفِ القميصِ، فأحاطَه بزجاجةٍ أجنبيَّة هي الوحيدةُ الّتي تقاومُ شدَّةَ الحرارةِ، أمَّا الوطنيَّةُ منْها فلا تستطيعُ المقاومةَ إلّا لأيَّامٍ ثمَّ تلفظُ أنفاسَها بالكسرِ؛ لتكشفَ لكَ عن سرِّ المقاومةِ الوطنيَّة الهشَّةِ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى