السبت ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩

1959 السنة التي غيّرت العالم

بقلم: زينب خليل عودة

أصدر الراصد للتوثيق الاعلامى في نشرته التي صدرت مؤخرا عرضا مفصلا عن كتاب-1959: السنة التى غيرت العالم لمؤلفه فرد كابلان وفيما يلي هذا العرض:

الحلقة(1) الإنسان يخترق حدود المكان والزمان

هذا الكتاب يرصد فيه المؤلف أهم ما شهدته سنة 1959 من أحداث كانت فاصلة بحق في التاريخ المعاصر، وفي مقدمتها نجاح السوفييت في غزو الفضاء وفي تحطيم حواجز المسافة والزمن، مما أشعل السباق الفضائي بين كتلتي الشرق والغرب.. ثم يتابع منجزات جاءت أقرب إلى الفتوحات العلمية والبحثية التي أحرزها العقل البشري في عام 1959 وفي مقدمتها شريحة المايكروشب التي طورت استخدامات الحواسيب الالكترونية واضافة إلى التوصل إلى حبة منع الحمل التي أتاحت للبشر إمكانات السيطرة، بشرط أن تكون رشيدة، على عمليات الإنجاب.. هذا فضلا عما شهدته السنة المذكورة من تغييرات سياسية يأتي في مقدمتها ظهور زعامة «مالكولم إكس» بين صفوف مسلمي أميركا من ذوي الأصل الأفريقي، واندلاع ثورة كوبا اليسارية بقيادة فيديل كاسترو، واتساع الهوة الفاصلة بين الأجيال في المجتمع الأميركي ثم المجتمع الغربي والعالمي بشكل عام على نحو ما تجلى بعد ذلك في عقد الستينات.

الفصل الأول من الكتاب يمثل افتتاحية المعزوفة ويكاد يلخص أو بالأدق يبلور بأسلوب التكثيف البليغ مختلف التنويعات التي تتوزع إليها مادة الكتاب ـ وهي تجمع بداهة ـ وعبر أيام سنة بعينها من سنوات القرن العشرين، بين الإنجازات الفضائية والفتوحات العلمية والتحولات السياسية والاجتماعية.. وإن كان يضمها جميعا خيط أو إيقاع موحد تعبر عنه العبارة الموحية التالية: الآفاق الجديدة.. بمعنى استشراف ما يعد به مستقبل البشرية على سطح كوكب الأرض من وعود وآمال. والمعروف في أدبيات السياسة الأميركية المعاصرة أن فكرة الحدود الواعدة وبالتحديد شعار الآفاق الجديدة، هو ذلك الذي رفعه مثقف أميركي شاب ارتقى إلى منصب الرئاسة الأولى في بلاده بعد أن أشاع هذا الشعار معبقا بعطر الأمل في الغد طيلة حملته الانتخابية التي استغرقت زمن عام 1959 بالذات.. وعندما اسلم العام المذكور أيامه إلى يناير من سنة 1960 دخل هذا الشاب إلى البيت الأبيض وسط آمال عراض باسم «جون فيتزجيرالد كيندي» واشتهر عنه الشعار الذي يقول: أقول لكم.. إن الأفق الجديد موجود هنا.. سواء سعينا إلى بلوغه أم لا.

يوضح المؤلف في مستهل صفحات الكتاب أن عام 1959 جاء ليغير المقولة العتيدة التي ظلت ترددها أجيال من الأميركيين.. وهي: غدا يوم آخر. ويسارع المؤلف إلى التعليق من واقع الأحوال الواعدة التي رصدها في بحوثه حول عام 1959 يقول: كان الوعد أيامها هو أن الغد ليس مجرد يوم آخر.. ولكنه كان يعد بانبلاج فجر جديد: يومها كان النجم الصاعد في دنيا السياسة في أميركا هو «جون كيندي» وقد دخل سباق الرئاسة (خلفا لرئيس كان في أقصى خريف العمر هو الجنرال ايزنهاور) وكان شعار المرشح الشاب هو: قيادة من أجل الستينات. كانت تلك، كما يوضح المؤلف، المرة الأولى التي يتم فيها تعريف المراحل والطموحات السياسية لا على أساس الجيل (30 سنة) ولكن على أساس العقد (10 سنوات لا غير) وكان ذلك يعني في آن معا مزيجا من الأمل والخطر.. ولكنه كان يعني التغيير في كل حال.

وربما تجسدت معالم هذا التغيير في أن التقدم في العمر، نحو الكهولة وربما الشيخوخة، لم يعد ميزة للسياسي أو رجل الدولة على نحو ما درج عليه الحال في الماضي..وفي ظل دعاوى الخبرة الطويلة والممارسة المحنكة والتجارب الماضية.. لهذا طرح كيندي شعارا شبابيا وطريفا هو: أنا من مواليد هذا القرن (العشرين). كان ذلك بديهيا حيث كان منافسوه في سباق الرئاسة في عام 1959 من مواليد القرن التاسع عشر بطبيعة الحال. مع ذلك فلم يتردد كينيدي ومساندوه من الإفادة من كاتب أمريكي خرجت أعماله إلى النور مع أواخر نفس القرن التاسع عشر. ففي عام 1893 نشر فردريك جاكسون تيرنر مقاله الشهير بعنوان: الحدود في التاريخ الأميركي.

وفي سطور المقال عمل كاتبه على الربط بين الشخصية الأمريكية وبين اتساع الفضاءات والمسافات من حولها.. بقدر اتساع مساحات القارة الأميركية.. وبمعنى أنه كلما وضعوا حدودا في بقعة من هذه القارة العفيّة الجديدة.. نجمت الحاجة إلى تجاوز تلك الحدود ومن ثم كان التوسع غربا على وجه الخصوص أي من سواحل الأطلسي شرقا إلى حدود كاليفورنيا وسواحل الباسيفيكي.

من هنا تضيف المقالة الكلاسيكية كما يعرفها تاريخهم فإن شخصية الفرد الأمريكي تتسم دوما بالقلق والحركة الدائبة والتوتر بغير انقطاع.. تلك العوامل التي تدفع إلى التماس فرص جديدة «باستمرار» وهي فرص لا تتورع المقالة المذكورة عن تحديد غاياتها فيما يلي: الغزو والاستيطان والتجديد المتواصل. على أساس هذه الخلفية حلّت بدايات عام 1959 الذي جعله مؤلفنا محوره الجوهري لطروحات هذا الكتاب.وقبل أن يفيق الأميركيون والعالم معهم - من احتفالات اليوم الأول من عام 1959 بادرهم يومه الثاني بمفاجأة ألقي إليها الزمان سمعه واهتمامه وهو شهيد.

يقول المؤلف: في يوم 2 يناير عام 1959 فوجئ العالم بأخبار «بونيك» وهي مركبة ـ كبسولة فضائية أرسلها الاتحاد السوفييتي إلى الفضاء الخارجي وحملت الاسم التالي: متشتا. ومعناها: الحلم. جاءت انطلاقة الحلم من كازاخستان وبلغت سرعتها ـ المذهلة بمقاييس 50 عاما مضت ـ 25 ألف ميل في الساعة.. والمهم أن بلغت «متشتا» أو الحلم مدار القمر وخرجت بالطبع من مدار جاذبية الأرض وأصبحت أول طائر من صنع الإنسان يدور حول الشمس وكأنه واحد من الأجرام السماوية.بعد أيام من ذلك الحدث المشهود صدرت مجلة «تايم» لتصف الحدث بسطور تقول فيها: إنه نقطة تحوّل في تاريخ النظام الشمسي الذي يبلغ من العمر عدة بلايين من السنين.

من الفضاء إلى الأرض

لكن الأهم وهو ما يلمحه ويرصده المؤلف هو أن جاء هذا الفتح العلمي في مجال أبحاث الفضاء ليثير مشاعر لم يسبق لها مثيل جمعت بين توتر الكشف وجسارة الاقتحام ثم الخوف من الآتي أو المستور، غير المكشوف. ولم تقتصر هذه المشاعر المختلطة على دنيا العلم بل امتدت آثارها لتشمل ميادين السياسة والمجتمع والثقافة والبحث العلمي بل وعلاقات الجنسين داخل النظام الاجتماعي.. يقول المؤلف أيضا: ساد شعور عميق بأن النجاح في كسر واقتحام حدود وحواجز الفضاء ومقاييس والسرعة والزمن، من شأنه أن يجعل سائر الحواجز قابلة للاجتياز والاقتحام.

هكذا جاءت سنة 1959 لتقول منذ بداياتها ما يلي:

نجحت البشرية في وضع أولى خطواتها عند العتبات الخارجية للفضاء الكوني.. ومن ثم فقد انفتحت أبواب أخرى لعل أهمها أن انكمش الحيز المساحي من كوكب الأرض الذي نعيش على سطحه.. الأمر الذي يتيح أيضا اقتحام وعبور وتجاوز أوضاع وأفكار وأعراف كانت في قرون سبقت في حكم المحرّمات التابوهات.

يلاحظ المؤلف في نفس السياق، أن عام 59 سبقه بشهرين فقط إنجاز كان باهرا في زمانه وحمل بدوره العنوان التالي:
عصر النفاثات
تجسدت إرهاصات هذا العصر الواعد الجديد في أول رحلة بالطائرة النفاثة عبر المحيط الأطلسي بغير توقف قامت بها طائرة البوينغ 707 التابعة وقتها لشركة «بان أمريكان: في طريقها إلى العاصمة الفرنسية باريس.

يومها ترأست مامي ايزنهاور قرينة رئيس الدولة - حفل تدشين الرحلة الأولى العذراء كما يسمونها للطائرة الجسورة.. وألقت على مقدمتها زجاجة كانت مملوءة بمياه المحيط معلنة تعميد الطائرة التي دارت محركاتها على أنغام النشيد الوطني الأمريكي. وفي اليوم التالي كتبت جريدة نيويورك تايمز تقول: ها قد لاحت، بل تحققت إمكانية أن نطوي مساحات محيط متنقلين من قارة إلى أخرى..

ومن عالم إلى عالم غيره في مدى ست ساعات من عمر زماننا، محققين بذلك رغبة طالما تاقت إليها النفوس ولكنها لم تعد مجرد أحلام يقظة.. لماذا. لأن الطائرة النفاثة أصبحت طوع بناننا. لهذا كله جاء عام 59 ليروج فيه الشعار الغريب المستجد بكل مقياس على الأسماع والأفهام: غزو.. الفضاء. ومن ثم اندلع سباق الفضاء بين قطبي الحرب الباردة التي بلغت ذروة لها في ذلك العام وهما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.

عن الجغرافيا الجديدة

ومع هذه المستجدات جاءت أفكار وطروحات ومفاهيم لم يسبق لها مثيل.

كتبت الصحف والمجلات عن ظاهرة غير مسبوقة بدورها اسمها: «الجغرافيا الجديدة» وكانت تقصد جغرافية المجموعة الشمسية وما تضمه وما يجاورها من كواكب ونجوم سابحة كلها في أجواز الفضاء.. وبدأت عبارة العد التنازلي «كاونت داون» ومعها عبارة كل شيء على ما يرام ولخصتها لفظة «أوكي» الأميركاني تنتشر وتذيع في طول العالم وعرضه نقلا بالذات عن وكالة الفضاء الأميركية «ناسا».. وبعدها انتقلت العبارات والشعارات والمفاهيم إلى ماديسون افنيو، الشارع الرئيسي الشهير في قلب جزيرة مانهاتن ـ نيويورك حيث تقيم وتعمل كبرى وكالات الإعلان التي لم تكذّب خبرا كما يقولون، بل اندفعت تزيّن موادها الإعلامية بشعارات «عصر الطيران النفاث»، أو شعارات «عالم المستقبل» أو شعارات «العد التنازلي نحو المستقبل»..

ومن دنيا الفتح العلمي ودنيا الكوزموز الفضائية ودنيا الإعلانات البراقة.. كان لابد وأن تجد هذه الشعارات والمفاهيم الجديدة طريقها إلى الحياة اليومية في أميركا ومنها بحكم التأثر والتأثير إلى أصقاع العالم الخارجي.
دنيا الفن والإبداع الفني كانت في مقدمة الميادين التي تأثرت عميقا بكل هذه المستجدات. لقد اقتحم العلم حدود المسافة والزمن مع بداية عام 1959. لهذا تصور الفن أن بإمكانه اقتحام حدود التقاليد المتعارف عليها، والأوضاع المتفق على توارثها، والأفكار التي كانت على مدار عقود بل قرون مضت موضعا للتوقير إلى حد التسليم.

يقول الكتاب في هذا السياق: نبغت فئة من فناني الكوميديا.. وكانوا يسمونهم «أهل الخُبث الضاحك» لأنهم لم يتورعوا عن الإطلالة من منظور السخرية والتهكم على موضوعات لم يكن جائزا التطرق إليها قبل عام ,1959.

وتغطي مجالات تتنوع مابين الأصل العرقي أو العقائد الروحية أو الأفكار والممارسات السياسية. وجاء الروائيون فكان أن أرخوا العنان وارتضوا لأنفسهم مزيدا من التحرر إلى حد الانفلات في أساليبهم وتصاويرهم والشخصيات التي يرسمونها في سطورهم، وقل الشيء نفسه عن سينمائيين صوروا أفلامهم الطليعية، المتمردة إلى حد التجاوز غير المقبول أحيانا بعيدا عن سطوة هوليوود.. وكذلك الرسامون الذين شقوا طرقا غير مسبوقة في لوحاتهم وتهاويمهم وموضوعاتهم.

نفس التغييرات المتمردة ـ إلى حد الثورة وجدت طريقها إلى عالم الموسيقى والغناء.. التي كان جانبها السلبي يتمثل في قوالب موسيقى الجاز والروك آند رول الصاخبة الزاعقة في معظمها، فيما كان جانبها الإيجابي يتمثل في فسح المجال أمام جماعات من الفنانين المنتمين إلى الملّونين، الأفروـ أميركيين في الولايات المتحدة ممن لا تزال بصماتهم الفنية محسوسة وباقية حتى الآن في مجال الإبداع الموسيقي الأميركي.

بين السلب والإيجاب
هكذا جاءت أوائل هذا العام الأشهر، 1959 لتشهد كل هذه التطورات الفاصلة والحاسمة بحق في عالم النصف الثاني من القرن العشرين. وكان أن صاحبتها ظاهرتان متعارضتان في حياة أميركا والعالم.. الأولى كانت إيجابية والثانية كانت سلبية.

تمثلت إيجابيات الظاهرة الأولى فيما صدر داخل أميركا نفسها من قوانين وأحكام: منها مثلا إصدار لجنة الحقوق المدنية أمرها بإجراء سلسلة من التحقيقات عن حوادث التمييز العنصري في مجالات الانتخابات والإسكان والتعليم.. ومنها أحكام المحكمة العليا برفع القيود عن حرية التعبير والإبداع الأدبي.

من الناحية الأخرى، تمثلت السلبيات في سحابة من الهواجس التي ساورت الناس بشأن تطورات غزو الفضاء.. بما قد تجلبه من شبح حروب الصواريخ العابرة للقارات، ومن ثم تصاعد الحرب الباردة بين معسكري الشرق والغرب وما قد تنطوي عليه من خطر استخدام القنابل الذرية في صراعات الدول والشعوب.
يقول المؤلف مع ختام الفصل الأول من الكتاب: هذا الشعور المزدوج بين آمال بغير حدود ورعب مستبد إزاء خطر الفناء بالصواريخ أو القنابل الذرية كان المنطلق الذي أضفى طابعا خاصا بالغ التميز وأطلق شرارة النشاط الإبداعي الذي شهدته سنة 1959.

إضاءة

هذه الحلقة تبدأ مع إطلاق المركبة الفضائية السوفييتية «ميشتا» بمعنى «الحلم» في 2 يناير 1959 بكل ما شكلته أيامها من خطوات لوصول الإنسان إلى حيث التحليق حول الشمس، حيث سبق هذا الحدث انطلاق أول رحلة بالطائرة النفاثة لتقطع فضاء المحيط الأطلسي من أميركا إلى فرنسا بغير توقف..
وتركز الحلقة على شعار«الآفاق الجديدة» الذي رفعه الشاب «جون كيندي» مرشحا للرئاسة الأميركية، وترصد التأثيرات الناجمة عن غزو الفضاء وتجاوز حواجز السرعة والمسافة على مجالات السياسة والفن والعلاقات الاجتماعية، فيما تؤكد أن هذه الإنجازات انطوت على مؤثرات متناقضة: ما بين إيجابية الأمل في تطوير حياة الإنسان وسلبية التوجس خوفا من اشتداد الصراعات في مجالات الصواريخ والطاقة الذرية.

ولأن المؤلف يحترف الكتابة الصحفية فقد جاءت الفصول الخمسة والعشرون مصاغه بلغة الصحافة التي تتسم برشاقة العبارة وتكثيف المعاني وطلاوة الأداء.

وكل فصل يحمل عنوانا رشيقا بحيث تجمع مادة الكتاب بين دسامة المادة ورصانة البحث العلمي التاريخي وبين قدرة المؤلف على تركيز مادته في فقرات وسطور تتميز أساسا بجاذبية التعبير.
ولا نبالغ حين نقول ان الكتاب يكاد يعزف عملا موسيقيا أقرب إلى كونشرتو التاريخ.. حيث تتوزع المعزوفة إلى تنويعات شتى ونغمات وإيقاعات متباينة.

المؤلف في سطور

«فِرِدْ كابلان» كاتب أميركي ينشر مقالاته ودراساته عن إبداعات الفن، وتأملاته في التاريخ المعاصر وتغيرات الحياة اليومية في كبرى الصحف بالولايات المتحدة وفي مقدمتها نيويورك تايمز وواشنطن بوست وكبرى المجلات مثل نيويوركر الأسبوعية وأتلانتك الشهرية، هذا فضلا عن تحقيقاته البحثية في مجالات السياسة والعلاقات الدولية التي كان ينشرها في «بوسطن غلوب» حيث فاز بجائزة «بولتزر» الرفيعة للصحافة عن تحقيقاته التي كانت تغطي أنشطة وسياسات البنتاجون العسكرية والحياة في روسيا بعد المرحلة السوفييتية.

يحرص كابلان أيضا على المشاركة بالكتابة في مدّونات الحاسوب على الشبكة العالمية ولاسيما في مجالات الإبداع الموسيقي وله كتب منشورة من أهمها كتاب «الحالمون» الذي عرض فيه للأفكار الكبرى التي غيرت الحياة في أميركا من حيث أساليبها وإمكاناتها.

الحلقة 2
القضاء الأميركي يحطم الرقابة وينصف الابداع

هذه الحلقة تركز على ما ورد في الفصلين الخامس والسادس من الكتاب بشأن الصراع بين حرية الإبداع الأدبي وبين سطوة الرقابة الحكومية، وتعرض للمجادلات القانونية التي دارت من أجل رفع مصادرة الرقيب في مصلحة البريد الاتحادية الأميركية لرواية لورنس الشهيرة بعنوان «عشيق الليدي تشارلي» على أساس أن الأهم ليس الإفراج عن عمل أدبي يرى فيه البعض مخالفة لقيم أخلاقية، ولكن على أساس إعمال مبدأ حرية التعبير وانطلاقة الإبداع بعيدا عن سيف الرقابة الحكومي وبدليل أن هذه الحرية أباحت للقراء العاديين الإطلاع على أعمال سياسية كانت خاضعة للمصادرة مثل «دكتور زيفاجو» وأعمال طليعية مثل مسرحية «في انتظار جودو».

بدايات عام 1959 جاءت لتشهد تغييرا جذريا.. إن لم نقل ثوريا في دنيا الأدب والإبداع الفني في أميركا وربما على مستوى العالم بشكل عام. جاء هذا التغيير في غمار احتدام الصراع الذي ينشأ في كل حقبة زمنية بين جيل محافظ ومخضرم وجيل شاب يتطلع إلى الجديد وينعي على الجيل الأقدم تمسكه بأعراف أو تقاليد تجاوزتها حقب التطور، باعتبار أن التطور أو التبدل هما سنن الحياة فوق الأرض ومن خلالهما ترتقي حياة الإنسان إلى مستويات أفضل وأكثر طموحا.
لهذا يتوقف مؤلفنا، مع الفصلين الخامس والسادس، عند ظاهرة الصراع المحتدم بين فريقين أحدهما يبدع العمل الفني ويطمح إلى أن ينشره على الناس.. وفريق آخر يرى في الأعمال الفنية والإبداعات الأدبية ما قد يسئ ؟ من وجهة نظره ؟ إلى أعراف المجتمع أو يخدش الحياء العام. وإذا كنا في زماننا الراهن نتعامل مع أعمال فنية مثل مسرحية «في انتظار جودو» التي كتبها صمويل بيكيت ؟ بمنطق البديهية وبمعنى انها أصبحت جزء لا يتجزأ من «ريبرتوار» أو سجل المسرح العالمي المعاصر..

وبمعنى أنها أضحت عنصرا من عناصر التكوين الوجداني أو حتى المعرفي لمثقفي عصرنا ؟ فإن الجيل الذي عاش قبل 50 سنة من تاريخنا لم يكن قد توصل إلى هذا الإجماع أو شبه الإجماع على مثل هذه الأعمال الفنية.. بل كانت هناك عناصر طليعية تشجعها وتناضل من أجل نشرها وأدائها.. فيما شهدت المرحلة - عام 1959 بالذات - عناصر أخرى كانت ترفضها وتحاربها وتزري بها وتعمل جاهدة على مصادرتها وإبقائها موؤدة وحبيسة الأدراج.

حدث في مارس
هذا النمط الدينامي، والصحّي في تصورنا من صراعات الماضي.. الحاضر والمستقبل يعرضه كتابنا في فصليه الخامس والسادس. حيث تتوقف السطور عند شهر مارس 1959 على وجه الخصوص. والذي حدث بالتحديد في يوم 17 مارس عام 59 أن نشرت مجلة صادرة في مدينة شيكاغو مقتطفات أولية من رواية طليعية كتبها ويليام بوروز بعنوان غريب هو: الغداء العاري.

35 صفحة فقط لا غير من الرواية الجديدة أقامت دنيا الرقابة، حتى في أميركا وأقعدتها لدرجة أن شهد اليوم التالي 18 مارس مباشرة، صدور قرار عن مدير مصلحة البريد بالولايات المتحدة بمصادرة جميع نسخ المجلة الأدبية المذكورة التي كانت قد أرسلت عبر البريد الفيدرالي إلى المكتبات والى بيوت وعناوين المشتركين. وجاء مبرر قرار المصادرة في عبارة تردد إيقاعها المنذر في الأسماع وهي: «صودرت المجلة لأنها نشرت مواد إباحية». ورغم أن وصمة الإباحية كانت، ولعلها مازالت، كفيلة بحجب أي مواد من هذا القبيل عن جماهير المتلقين إلا أن السيرة الشخصية للمؤلف كانت كفيلة بحد ذاتها بأن تحول بينه وبين تلك الجماهير.

لماذا؟ لأن ويليام بوروز، المذكور أعلاه.. كان رجلا غريب الأطوار إلى حد مهلك ورهيب: قبل عشر سنوات من صدور روايته- كان قد غادر مسقط رأسه في نيويورك.. ونزح جنوبا إلى حيث أقام في المكسيك الجارة الجنوبية والفقيرة أيضا للولايات المتحدة.. كان ذلك في عام ,1949. بعدها انغمس هو وزوجته «جوان» في حمأة حياة من اللهو والعبث والشراب المحرم والمخدرات. ذات يوم من عام ,1951. شاركته «جوان» في احتساء كؤوس مترعة بالكحوليات لدرجة أن ذهل كل منهما عن العالم المحيط بهما.. وبعدها انتابتهما حالة من المغامرة بل المقامرة بكل شيء..

وسط هذه الحالة من المجون المخيف بدأ الزوج يتفاخر ثملا بمهارته في التصويب.. وما كان من الزوجة الغارقة في حمأة الشراب سوى أن تحدّته قائلة: هل تذكر الحكاية السويسرية الشهيرة عن «ويليام تل» الذي تحداه الأعداء أن يصوب سهامه نحو ولده الصغير، ثم وضعوا فوق رأس الصبي تفاحة.. واستطاع ويليام تل أن يرشق السهم في التفاحة وأنقذ بهذه المهارة الفائقة حياة الصغير. هنالك بادرها الزوج بأنه أمهر تصويبا حتى من «ويليام تل» ذاته. ما كان من الزوجة إلا أن ناولته مسدسا ثم وضعت على رأسها زجاجة فارغة وتحدّته أن يطلق رصاصة على الزجاجة.

وبالفعل ضغط الأديب ويليام بوروز على زناد المسدس.. وانطلقت الرصاصة فلم تصب الزجاجة بسوء.. وإنما لقيت الزوجة مصرعها في الحال! طبعا قدموه إلى المحاكمة. وعندما رأت المحكمة المكسيكية أن أديبا أميركيا ارتكب هذا الفعل.. أصدرت حكمها على أساس أن السيد بوروز مدان بتهمة الطيش الجنائي لا أكثر ولا أقل.. ومن ثم حكمت عليه بالسجن.. 13 يوما(!) عاد بعدها إلى أميركا إنسانا محطما ليكتب رواياته المغرقة في تصوير، بل تفضيح، سوءات النفس البشرية.

حكاية عشيق الليدي
ورغم أن هذه الكتابات لم تكن لترقى إلى المستوى اللائق بالأعمال الأدبية المحترمة، إلا أن قرارات مصادرتها ومن جانب سلطة حكومية يُعتد بها ويخشى بأسها.. جاءت لتثير قضية الصراع بين سطوة الرقيب وحرية التعبير.. فما بالك وقد شهدت نفس الفترة من شهر مارس 1959 خطوة أهم وربما أكثر جسارة لأنها تعلقت بعمل أدبي له قيمته الفنية وكان قد أصدره أديب بريطاني كبير له مكانته بين كُتّاب أواخر عصر الرواية الفيكتورية في انجلترا.. وهي حقبة الإبداع الأدبي التي شكلت الجسر الزماني الواصل بين أواخر القرن التاسع عشر والعقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين. أما الأديب هو الروائي ديفيد هربرت لورنس (1884-1930).

روايته المختلف عليها حملت اسمها الشهير التالي: عشيق الليدي تشارلي. عندما صدرت هذه الرواية عام 1928 بكل مشاهدها الصريحة بل الجارحة أحيانا من حيث التعرض للعلاقات الحميمة بين الرجل والمرأة.. تعرضت لقرارات تجمع بين الرفض.. الإدانة.. المصادرة.. وأحيانا إصدارها وقد خضع نصها وفصولها إلى عمليات شتى من الحذف والاستبعاد والتعديل والابتسار. وعندما حل يوم 17 مارس سنة 59 تَوجّه الناشر الأميركي «بارني روسيت» إلى أحد المحامين يكلفه بالمضي في الإجراءات القانونية اللازمة لنشر رواية «الليدي تشارلي» وقال للمحامي بالحرف الواحد: «أريدك أن تدافع عني في حالة ما أقدم مسؤولو الحكومة الاتحادية على مصادرة نُسخ الرواية وإلقاء القبض على العبد لله».

ويعلق مؤلف كتابنا على هذه النقطة (ص43) قائلا: كان د.ه. لورنس قد كتب ثلاث نسخ أو صيغ أو طبعات من روايته في أواخر عقد العشرينات ولكن الصيغة الثالثة لم تجد طريقها قط للنشر لا في أميركا ولا في موطنه بانجلترا. والحق أن كانت هي النسخة أو الصيغة الأوفى من الرواية الحافلة بالمشاهد الساخنة كما قد نسميها.. لذلك كانت الرواية مدرجة باستمرار على قائمة الكتب الخاضعة رسميا للمصادرة فور العثور عليها، سواء كانت مرسلة عبر البريد من الخارج أو كانت مودعة في قعر حقيبة مسافر يعبر الجمارك إلى داخل إقليم الولايات المتحدة. كان الناشر «روسيت» يريد أن يغيّر هذا كله.

وكان بحكم نشأته من أبوين ينتميان إلى حركة المقاومة الأيرلندية انسانا متمردا على سكون الأوضاع.. ومطالبا بأن تتاح حرية الحكم على الأشياء للبشر من موقع الثقة في عقلية المواطن الحر الرشيد بعيدا عن أشكال الحجر أو الوصاية.

في انتظار جودو
بدأ روسيت نشاطه بنشر أجزاء من المؤلفات الرائدة للروائي الأمريكي الأشهر هنري جيمس (1843-1916).. بعدها قرأ في جريدة نيويورك تايمز عن مسرحية تنتمي إلى فصيل أدبي طليعي حمل من يومها اسم «مسرح العبث» وكان عنوانها: «في انتظار جودو». حصل الناشر على نسخة بالفرنسية من المسرحية ثم شد رحاله إلى باريس كي يجتمع إلى مؤلفها صمويل بيكيت، واتفقا على نشر المسرحية الطليعية في أمريكا. وكان مقدم الاتفاق هو مبلغ 200 دولار(!) مقابل الحصول على حقوق نشر المسرحية بالإنجليزية.
عاد الناشر إلى نيويورك ونجح في إصدار المسرحية بعيدا عن سطوة الرقباء وبدورها حققت المسرحية نجاحا فنيا وماليا واسع النطاق. هذا النجاح في «تمرير» عمل مسرحي مثير للأفكار ويمكن أن يحوز معارضة من جانب العناصر المحافظة في المجتمع.. حتى في الغرب، كان بمثابة التمهيد التدريجي والمنطقي أمام الدعوى التي رفعها الناشر «روسيت» للاعتراض على إخضاع رواية لورنس التي ألمحنا إليها لسلطة الرقابة والمنع والمصادرة.
في هذا السياق يعرض كتابنا لتفاصيل الإجراءات القضائية التي قطعها سير الدعوى المرفوعة ولمرافعات المحامين التي دفعت أساسا بضرورة الثقة في نضج الناس ورشد القارئين، وعلى أساس أن طريق المنع أو الوصاية أو المصادرة له بداية ولكنه ليس له نهاية، اللهم إلا التضييق على حرية الفكر وانطلاقة الإبداع.. فضلا عن أن الباب مفتوح بداهة للرد على الأعمال الصادرة ونقدها وتفنيدها بل ودحضها إن لزم الأمر.. على أن يكون المضمار هو كتاب مقابل كتاب.. وفِكْر في مواجهة فِكْر وليس في مواجهة سيف السلطة ولا صولجان الدولة. هنا يتوقف المؤلف مع خواتيم الفصل السادس عند يوم بعينه من أيام 1959 العام الذي تدور على محاوره مقولات هذا الكتاب، وهو يوم الحادي والعشرون من يوليو.

كلمة القضاء
في ذلك اليوم، جلس القاضي بريان على منصّة المحكمة الاتحادية في ضاحية مانهاتن من أعمال نيويورك وأصدر حكمه على الوجه التالي: «على مصلحة البريد الفيدرالية أن ترفع قرارات الحظر والمصادرة، وأن تلغي أي قيود تكون قد فرضتها على النسخ المرسلة بريديا من رواية «عشيق الليدي تشارلي». ويعلق مؤلفنا مرة أخرى قائلا» بعد ذلك لم تعد مصلحة البريد الاتحادية في طول الولايات المتحدة وعرضها تمتلك أي سلطة تعلن بموجبها أن هذا العمل الأدبي أو ذلك الإنتاج الفكري مرفوض بدعوى أنه مبتذل أو شائن أو مخالف للأعراف ومن ثم فلا ولاية لها تخولها مصادرة العمل ولا توقيف ناشريه».

صحيح أن ارتفعت أصوات شتى، في أميركا وخارجها تنتقد هذه الأحكام على أساس أنها تنافي التمسك بالقيم الأخلاقية وأنها تفسح المجال أمام تجاوزات الأدباء والفنانين حدود اللياقة والحشمة والأخلاق.. لكن الرياح كانت تهب في اتجاه مغاير على نحو ما يوضح مؤلف كتابنا: كانت سنة 1959 تشهد بداية تغيير جذري في تقييم الثقافة ومنتجاتها ومبدعيها.. وفي صيف العام المذكور تصدرت رواية لورنس إياها قائمة أكثر الكتب الأدبية مبيعا ورواجا على نحو ما نشرته جريدة «نيويورك تايمز» وباع منها الناشر روسيت 110 ألف نسخة.. وعندما أعيد إصدارها في طبعة شعبية باعت أيضا مليوني نسخة وهو رقم هائل بمقياس خمسين عاما مضت من عمر زماننا المعاصر.

سوء أدب
يحترس المؤلف حين يقول موضحا ما يلي: رغم أن هناك من دمغ كتاب «عشيق الليدي» بسوء الأدب.. إلا أن الفرد العادي في أميركا رجلا كان أو امرأة كان يرى في الأساس أن لا يجوز لموظفين للحكومة أن يسيطروا أو يفرضوا الرقابة على ما يقرأ الناس. وربما كان الناس على حق.. فقد أفسحت هذه الحرية المجال لنشر أعمال كان مهما الإطلاع عليها وفي مقدمتها رواية الأديب الروسي باسترناك بعنوان: «الدكتور زيفاجو» وهي عمل إبداعي سياسي في الأساس أخضعه الكرملين الشيوعي للمصادرة في تلك الفترة. و.. هذا ما كان من أمر الأدب بين أهل الإبداع وبين أهل الحكومة منذ ربيع عام

الحلقة(3) عاصفة الرعب النووي تهب على أميركا وحلفائها

هذه الحلقة تجمع عبر الفصلين الثامن والتاسع من الكتاب بين رصد المتغيرات التي طرأت على الإبداع الفني والمستجدات التي حدثت في مجال العلم التطبيقي. حيث عرضت لسيرة نخبة من فناني الكوميديا الذين كانوا طلائع الأسلوب الجديد في فن السخرية، لا من خلال المسرحيات الفكاهية المتعارف عليها، ولكن من خلال فن «الكوميديا الواقفة» التي تعتمد على فنان وحيد يرصد المفارقات والتناقضات في دنيا السياسة والإدارة والفكر والشأن العام. ثم تعرض الحلقة لمرحلة الرعب النووي التي سادت أميركا مع أواخر الخمسينات خوفا من حرب نووية يشّنها الخصم السوفييتي.. في حين تحتم سطورها بإطلاق المركبة الأميركية «بايونير» بعد إطلاق المركبة الروسية «لونيك» بشهرين مؤذنة باندلاع السباق بين معسكري الشرق والغرب على أجواز الفضاء الخارجي.

في عقد الخمسينات كانت مدينة سان فرانسيسكو مقصدا للموهوبين في فن «الكوميديا الواقفة» بالولايات المتحدة.. وهي نوع من الأداء الضاحك الذي لا يتطلب سوى ممثل موهوب في فن الإضحاك.. لا من خلال دور في فيلم أو مسرحية ولكن من خلال الوقوف وحيدا على خشبة مسرح محدود المشاهدين وبعدها ينطلق في سرد الطرائف وإلقاء النكات وتقليد شخصيات المشاهير. ولا بأس من تعليقات ساخرة وأحيانا تهكمية على الأحداث العامة بما في ذلك قرارات السلطات الحاكمة وسلوكيات رجال الدولة وكبار الساسة والمشرّعين.

من كندا جاء الى سان فرانسيسكو شاب موهوب في فن الكوميديا اسمه «مورت سال»: كان والده كاتبا مسرحيا.. فاشلا كما يصفه مؤلف كتابنا، وعاشت أسرته تعاني شظف العيش خلال أزمة الكساد الكبير التي نزلت باقتصادات أميركا وجاراتها على امتداد عقد الثلاثينات.. ثم بدأ الفتى يجرب حظه، مثل عشرات من جيله في دنيا الإضحاك.. وخاصة في مجال الكوميديا الواقفة على نحو ما ألمحنا.
على أن «سال» بدأ اسمه يلمع عندما اختار مزيدا من التركيز على دنيا السياسة بكل مفارقاتها وتناقضاتها حيث لم يتورع عن الغمز واللمز بحق أعضاء الكونجرس وأركان الإدارة الحاكمة على السواء.

الصراع على أشده
كان ذلك في بدايات عقد الخمسينات.. يومها كان الصراع الدولي على أشده بين الروس والأميركيين.. فيما كانت الولايات المتحدة تعاني ما وصفوه بأنه حقبة.. أو فلنقل لعنة المكارثية.. تلك النزعة التي قادها السناتور مكارثي تحت شعار القضاء على خطر الشيوعية التي تصور مكارثي وأعوانه أنها تسللت إلى حياة أميركا وفكرها.. ويومها أيضا رفعوا لهذه المطاردة الشريرة شبه المجنونة شعارا قالوا فيه: « نحن نحارب الأنشطة اللا أميركية».. بمعنى المعادية لصالح أميركا وفكرها وتوجهاتها. وتحت هذا الشعار.. انتعشت المكارثية وطاردت صفوة المفكرين والمبدعين والفنانين في بلادها بدعوى أنهم شيوعيون مستترون.

ولم يفت هذا كله على حسّ التهكم الساخر عند الكوميديان «مورث سال» الذي اشتهرت عنه مقولة كان يرددها في المونولوجات التي كان يقدمها لجمهوره.. وهي: عجيب أمرنا مع خصومنا.. كلما وضع الروس أميركيا في السجن.. سارعت لجنة مكارثي إلى الرد.. بأن تبادر إلى أن تضع في السجن.. أميركيا آخر».

كان نقاد الفن يرون في هذا النوع من الكوميديا إرهاصا بأن المجتمع الأميركي، ومن ثم مجتمع العالم يتعرض لتيارات التغيير.. وهي التيارات التي ذاعت معها شهرة هؤلاء الفنانين حتى أن «مورث سال» إياه كان يتقاضى نحو 7 آلاف دولارا أسبوعيا وهو مبلغ، يؤكد المؤلف، كان يشكل دخْل أسرة أميركية بأكملها في السنة وطبعا بمقاييس ذلك الزمان.

لم يكن هذا النجاح ليفوت مصممي حملة السناتور المثقف جون فيتزجيرالد كيندي الذي كان يستعد أيامها لخوض معركة الرئاسة الأميركية.

وعندما حل عام ,1959. اتصل مخططو الحملة الانتخابية طالبين من الكوميديان «سال» أن يكتب عددا من الطرائف والنكات التي يرصعون بها خطابات المرشح جون كيندي خاصة وهو يطرح نفسه ممثلا ورمزا لجيل الشباب بعيدا عن جيل الكهول والمخضرمين القدامى في معمعة السياسة الأميركية.
ولأن «سال» كان فنانا مطبوعا وموهوبا فقد استجاب للطلب وسمع الناس.. الشباب الأميركي بالذات.. خطابات لمرشحهم كيندي تحفل بالطرافة وتشهد لصاحبها السناتور الشاب بخفة الدم وطلاوة الحديث.

في هجاء كيندي
لكن لأن «سال» كان فنانا مطبوعا وموهوبا فقد دفعت به آفة، أو حتى لوثة، الفن الى الاستمرار في التنكيت والسخرية لدرجة أن بدأ ينقلب على ولي نعمته فإذا به يوجه سهام السخرية والتهكم الى كيندي شخصيا!
هكذا بدأ عام 1959 بنكات وطرائف حببت الناس في جون كيندي مرشحا.. وانتهى العام المذكور بنكات وطرائف وسخريات من نفس المرشح الذي فاز بالطبع في الانتخابات.
بعد هذا الفوز.. ومع مطالع عام 1960 أمر الرئيس كيندي معاونيه فقرروا طرد «مورث سال» نهائيا من دائرة الحظوة المقربة إلى وجدان الرئيس الجديد وكانوا يسألون الفنان عما آلت عليه الأحوال فيجيب قائلا:

 أنا أهاجم كل الناس.. تلك هي مهنتي.
ويعلق مؤلف كتابنا قائلا:
ومع منتصف الستينيات.. جاءت النهاية الحزينة.. صحيح أن «مورث سال» ورفاقه قدموا تعريفا مغايرا ومفهوما مستجدا لفن الكوميديا.. وصحيح أن بلغوا ذروة هذا المرتقى في عام ,1959. لكن الأحداث والملابسات والتطورات ما لبثت أن دفعت بهذه النوعية من الفنانين إلى المصير المحتوم.. وهو: أن لم يعد بوسعهم إثارة الضحكة ولا حتى البسمة من جانب المشاهدين أو المستمعين.

التفكير المستحيل
لكن غروب شمس هؤلاء الفنانين سبقتها ظاهرة شروق شمس جاءت خيوطها الوهاجة من الناحية الأخرى تماما من حياة أميركا. كان ذلك بالتحديد في ربيع عام 1959.

عن هذه الظاهرة المستجدة.. والجادة أيضا يحدثنا الفصل الثامن من هذا الكتاب ويكفي أن يحمل الفصل العنوان التالي: التفكير في ما يستحيل التفكير فيه

والمقصود مباشرة هو:
التفكير والتدبر.. التعامل والتحوط بشأن الحرب النووية من حيث علومها وخوض غمارها وصد غوائلها والبقاء بعدها على قيد الحياة. في هذا الإطار لمع اسم «هيرمان كاهن»: كان عمره في ربيع 1959 نحو 37 عاما.. كان متخصصا ضليعا في علم الفيزياء.. قرر يومها أن يجوب الولايات المتحدة في كل أنحائها يلقي محاضرات وينشر صنوف التوعية والتنبيه بالنسبة للحرب النووية.. عمل زميلا في مؤسسة «راند» البحثية الشهيرة التي استمدت اسمها من عبارة «البحث والتطوير» في اللغة الإنجليزية وأنصّب معظم تركيزها على تطوير التسلح وارتياد آفاق وإمكانات الطاقة النووية.
أيامها قرر العالم الفيزيائي الشاب أن يأخذ اجازة من «راند» وأن ينطلق في محاضراته التحذيرية إزاء خطر ماحق وشامل وداهم لأمن أمريكا والشعب الأمريكي.
ومن عجب أن 1959 كانت سنة الوساوس والهواجس التي أقضّت مضاجع مواطنيه إزاء أشباح ما يمكن أن نسميه مع سطور كتابنا بأنه خطر أو كارثة الفناء النووي.

في هذا السياق يقول مؤلف الكتاب (ص64):
في تلك الفترة بالذات أدلى مسؤولو الدفاع المدني الاتحاديون بشهادة أمام الكونغرس أكدوا فيها أن من شأن هجوم نووي (روسي طبعا) حتى ولو كان من حجم متوسط أو معتدل أن يشهد السوفييت وهم يلقون 263 قنبلة هيدروجينية على 70 مدينة و151 قاعدة جوية في أميركا بما يفضي إلى مصرع 23 مليون مواطن أميركي والى إصابة 26 مليون آخرين بجروح قاتلة مع تدمير ما يبلغ نصف مساكن الشعب الأميركي.. هذا بالإضافة الى أن التجارب النووية التي كان يجربها وقتها الجانبان السوفييتي والأميركي في الفضاء تلحق أضرار التلوث الإشعاعي بأجواء كوكب الأرض وموارده ويكفي أنها ترفع مستوى تلوث الحليب بنسبة تصل الى 90 في المائة.

سيناريوهات من الخيال

هكذا ؟ وعلى نحو ما يسهب في بيانه هذا الفصل المهم من الكتاب - كان الأميركيون منذ 50 عاما.. وفي سنة 1959 بالذات، كانوا في حال من الرعب الشديد إزاء ما كانوا يصورّونه بأنه خطر سوفيتي بالغ الفداحة إلى حد رهيب: بل كان الغرب في مجموعة يخشى من هجوم بقوات وإمكانات سوفييتية كاسحة مما يهدد الحياة والحضارة في أوروبا وأميركا.

هذه المخاوف التي بلغت ذروتها في عام 1959 اختلط فيها الإحصاء المحسوب مع سيناريوهات الخيال وامتزجت فيها الحسابات والتوقعات العسكرية المنهجية مع شطحات التصور القائم على أساس كوابيس ظلت تؤرق أهل الغرب في أوروبا وأميركا، يستوي في ذلك صانع القرار عسكريا كان أو مدنيا ما بين نخبة العلماء والمفكرين وعامة الناس.
لم يكن صدفة إذن أن تعقد جلسات مطولة مع مقتبل عقد الستينيات بين أهل العلم وصناع السينما. ويروي المؤلف في حاشية الفصل الثامن كيف أن المخرج الكبير «ستانلي كوبريك» تأثر بتلك المقولات عن صور الفناء أو الإفناء النووي.. وخاصة ما أصبح يعرف باسم «آلة يوم القيامة ؟ نهاية العالم» وذلك في فيلمه الذي أنتجه عام 1964 بعنوان: «الدكتور سترانحيلوف» حول عواقب الصراع النووي.. وقد عقد كوبريك صداقة وطيدة مع أستاذ الفيزياء «كاهن» وبلغت هذه المؤثرات الحد الذي جعل المخرج الموهوب يقتبس فقرات كاملة لحوار الفيلم ومشاهده من كتاب «كاهن» الذي ذاعت شهرته في تلك الأيام وقد صدر تحت عنوان «الحرب الحرارية النووية».
وفيما كان هذا الرعب النووي الذي اجتاح عقول ووجدان أهل الغرب يشكل جانبا سلبيا من حالة الذعر التي سادت أواخر الخمسينات من القرن الماضي.. فقد جاءت سنة 1959 لتشهد الجانب الإيجابي من هذه الحالة أو هذه الظاهرة.
هذا الجانب يشهد بدوره للنخب الأميركية التي لم يسبب لها الرعب حالة من العجز عن التصرف.. ولكن دفعها من جانب آخر إلى الانصراف نحو العمل والانطلاق إلى عالم الابتكار والتجديد كي تكون طرفا فاعلا وقادرا على الصمود في منافسة تحدد الفرق بين الحياة والحضارة وبين الدمار والفناء.

الحلقة(4) وحش الكتروني تحول إلى كائن رقيق يخدم البشرية

في هذه الحلقة نعرض لتطورات دخول أميركا السباق مع المنافس الروسي من أجل ارتياد الفضاء.. مع الإشارة بالذات إلى عملية انتقاء رواد الفضاء الأميركيين الذين خاضوا اختبارات ومن ثم تصفيات إلى أن استقر الأمر على 8 رواد من واقع 110 من أمهر الطيارين في السلاح الجوي بالولايات المتحدة.
وتشير الحلقة إلى أن حلم النزول على القمر كان قد راود مفكرين وأدباء منذ القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ما بين الفرنسي فيرن إلى الإنجليزي ويلز.. ثم تتحول الحلقة إلى ملابسات اختراع رقيقة - شريحة المايكروشب التي أحدثت تطورا باهرا في دنيا الحاسوب (الكومبيوتر) منذ بداياته على شكل كائن شبه خرافي في أعوام الخمسينات. وتختتم الحلقة بإشارة إلى الزائر الشاب القادم من جزيرة اسمها كوبا تجاور جنوبي الولايات المتحدة المطل على البحر الكاريبي.

كان بديهيا منذ 50 عاما أن يحتكر السباق الفضائي كل من الكتلتين الكبيرتين في عالم ذلك الزمان وهما الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية. من هنا نعرف من سطور الفصل التاسع أن يوم التاسع من أبريل عام 1959 كان يوما فاصلا في «روزنامة» الاستكشاف الأميركي لأجواء الفضاء الخارجي.
في 9/4 من العام المذكور دعت وكالة «ناسا» الفضائية الأميركية إلى مؤتمر صحفي استهدفت فيه تقديم أول رواد اختارتهم أميركا كي يحلقوا في الفضاء الخارجي. كانوا 7 رواد تم اختيارهم لحساب البعثات الأولى إلى الفضاء.. كانت الوكالة الفضائية قد بدأت العملية بحشد 110 من أمهر الطيارين العسكريين الذين خضعوا لاختبارات الفحص واللياقة البدنية والنفسية، وفي فبراير 1959 تم اختصار هذه القائمة لتضم 69 طيارا فقط، ومن ثم عاودوا الاختصار طبقا لنتائج اختبارات أدق وأصعب ليصبح العدد 56 طيارا مرشحا.
هؤلاء المرشحون اخضعوا بدورهم إلى عملية تصفية نهائية تألفت بنودها مما يصفه المؤلف بأنه كان «بطارية» اختبارات جسمانية وعقلية وسيكولوجية إلى أن حصلت وكالة ناسا على مجموعة السبعة المنتقاة. يومها حارت البرية في توصيف أو تسمية هؤلاء السبعة. بادرت الصحافة إلى حل المشكلة فأطلقت على هؤلاء السبعة الوصف التالي: رجال الفضاء. وبديهي أن صادفت تلك التسمية ما صادفته من انتشار وشيوع بكل اللغات.
بيد أن إدارات العلاقات العامة داخل وكالة ناسا أوضحت أنها تفضل تسمية أخرى هي: ملاحو الفضاء. وكان أهل العلاقات العامة يلمحون بهذا إلى التراث الكلاسيكي القديم الموروث عن مضامين الميثولوجيا عند الإغريق، وبخاصة ما يتعلق برحلة أسطورية حملت بطلها «جاسون» على متن السفينة «أرغوناوت» عبر البحار المجهولة والمحيطات غير المأهولة بحثا عن «الجزّة الذهبية».

وهي جزء من خروف أسطوري يشكل الحصول عليها رمزا لأشواق البشر إلى ارتياد المجهول: كان على أميركا والعالم.. بقدر ما كان على هؤلاء السبعة المختارين الذين ذاعت أسماؤهم في الدنيا أن ينتظروا نحوا من عشر سنوات قبل أن يتمكن الإنسان من النزول فوق سطح القمر.
يقول المؤلف في هذا السياق (ص73): كان المجال الفضائي الذي تتلألأ في أجواءه نجوم السماء يشكل باستمرار جزء من حلم التحليق إلى هذه الفضاءات على مدار قرن سبق من عمر الزمان الحديث: بدأ هذا الحلم منذ أيام القرن التاسع عشر حين نشر الفرنسي جول فيرن كتابه بعنوان «من الأرض إلى القمر» عام 1865، ومع مفتتح القرن العشرين نشر الإنجليزي ه.ج ويلز كتابه بعنوان «أول رجال في القمر» عام 1901.

بداية اسمها سبوتنيك
صحيح أن الأمر على مدار السنوات الخمسين الأولى من القرن العشرين ظل في حدود الحلم والشوق ورؤي الاستشراف وحسابات التوقع لكن الأصح أن جاءت سنة 1957، وبالتحديد جاء شهر أكتوبر من ذلك العام فإذا بالأحلام وقد كادت تشارف أرض الواقع وإذا بالأشواق وقد قاربت مضمار التجسيد والتحقيق.. لماذا؟
كان السبب هو إطلاق الاتحاد السوفيتي في أكتوبر 1957 أول مركبة فضائية خلع عليها الكرملين اسم «سبوتنيك» وعرفتها الصحافة العربية بأنها القمر الصناعي ؟ والأصح هو الاصطناعي السوفيتي. وفي كل حال جاء إطلاق السوفييت قمرهم «سبوتنيك» عام 57 ومن بعده سفينتهم «لونا» إلى الفضاء الخارجي في عام 59، ثم جاء إطلاق الأميركان سفينتهم بايونير في بدايات صيف العام المذكور ؟ جاء هذا كله ليشكل اختراقا أو فتحا أو حتى فتحة يطل منها إنسان كوكب الأرض على مجالي الكون المودعة أسرارا وغوامض في أجواز الفضاء.

وبقدر ما أن هذه الفتوحات ألهبت خيالات الشعراء والروائيين المبدعين، فإنها شكلت مزيدا من التحديات أمام علماء المختبرات والاختصاصيين في علوم الحسابات الدقيقة.. أو هي علوم الضبط والتدقيق بشكل عام.

لقد ظل الإنسان عبر التاريخ شغوفا بحكاية العدّ والإحصاء وظل مشغولا بأمر الأرقام وحساباتها. شهد تاريخ الحضارات والثقافات العريقة إنجازات وأضافات بل فتوحات باهرة منذ أيام المصريين القدماء إلى أيام البابليين إلى نظريات الرياضي الإغريقي فيثاغورث إلى أن كان الإنجاز الباهر في علوم الجبر والحساب الذي تم على يد عالم الرياضيات المسلم «أبوبكر الخوارزمي» عليه رحمة الله.
مع هذا كله.. يؤكد المؤلف أن لعبة الأرقام كانت باستمرار من المعضلات الصعبة أمام الإنسان، وكان على الإنسان أن يحشد قدراته الذهنية وبحوثه العلمية كي يتغلب على سطوة الأرقام.. أو فلنقل كي يسقط الأرقام من علياء سطوتها أو طغيانها على نحو ما يقول عنوان الفصل العاشر من هذا الكتاب.
كائن رقيق غيّر العالم
والمهم أن عامنا إياه 1959 شهد فتحا مبينا في مجال علوم الضبط والدقة والرياضيات والحسابات بشكل عام. فلما كان يوم 24 مارس عام 1959، وفيما كان القوم يحتفلون بالمعرض التجاري السنوي في مدينة نيويورك فوجئ رواد المعرض بذلك الإعلان الذي أذاعته مؤسسة «تكساس انسترمنتس» وكانت إحدى أهم شركات الالكترونيات بأميركا في تلك الفترة.
يحكي المؤلف عن هذه الواقعة (ص77) يقول: يومها أعلنت شركة تكساس المذكورة للالكترونيات عن طرح أداة سوف تنطوي على تغيير العالم بشكل جذري وعميق على نحو ما فعلته سائر المخترعات الخطيرة التي شهدها العالم في سنوات القرن العشرين.. هذه الأداة هي: الدائرة المتكاملة الصلبة التي ما لبث العالم أن عرفها واستخدمها تحت الاسم الشائع التالي:
الشريحة (المايكروشب). ويستطرد المؤلف قائلا: بغير المايكروشب إياها لم يكن مقدرا للعديد من الأدوات والأجهزة المستجدة على حياة البشرية أن تتواجد وتعمل وتفيد الناس.. أجهزة من قبيل الحاسوب (الكومبيوتر) الشخصي وشبكة الانترنت العالمية.
وينطبق نفس الشئ على أي جهاز أو أداة يستخدم التكنولوجيا الرقمية (ديجيتال) بل ينسحب على أجهزة أو أدوات بسيطة في بساطة الآلة الحاسبة التي نحملها في جيوبنا. ومن عجب أن شريحة المايكروشب إياها لم تأت كما قد نتصور على يد فريق من العلماء أو كوكبة من الباحثين والاختصاصيين. لقد جاءت على يد رجل واحد كان يعمل بمفرده.. ولم يكن مختصا بعلوم الفيزياء أو الجوامد بل كان مهندسا اسمه بالكامل «جون سان كلير كليبي».
درس صاحبنا الهندسة ونال درجة الماجستير من جامعة وسكونسون واهتم بعمليات تصغير الأدوات والأجهزة المستخدمة ما بين المكاتب والمؤسسات والبيوت وساعده على ذلك أو فلنقل تحدّاه ما سبق إليه في عام 1947 «ويليام شوكلي» الذي توصل في تلك السنة إلى اختراع جهاز الترانزستورز في مختبرات «بِلْ» فأنجز بذلك ما يصفه مؤلف كتابنا بأنه ثورة في عالم الالكترونيات.
والمهم أن «كليبي» عكف على فكرة التوصل إلى شظية المواد الصلبة البالغة الرقة من حيث السماكة ولكنها تجسد دائرة متكاملة في عالم الالكترونيات. وقد أمضى صاحبنا شهور الصيف من عام 1958 عاكفا على فكرته في المختبر الذي يعمل فيه من مؤسسة تكساس للالكترونيات. كان قد اختار العمل رغم حرارة الصيف بعد أن فارقه زملاؤه من المهندسين والفيزيائيين لقضاء أجازاتهم الصيفية.
وحش اسمه الكومبيوتر
وفي 12 سبتمبر عام 1958 اجتمع مدراء المؤسسة الالكترونية حول طاولة متواضعة داخل مختبر التجارب العلمية الذي شهد جهود «كليبي» ومحاولاته المضنية.. هنالك اطلعوا على اختراع رقيقة المايكروشب التي توصل إليها. وبعد الإعلان عن الاختراع في معرض نيويورك، كما المحنا، أعلن الاختصاصيون أن هذا الكائن الدقيق المستجد على عالم الالكترونيات والحاسبات الالكترونية هو أهم حدث علمي منذ اختراع الترانزستور.

من ناحية أخرى، يوضح مؤلف الكتاب (ص81) أن الحاسوب (الكومبيوتر) كان وقتها جهازا مستجدا على دنيا العلم والاختراع.. كان آلة يحوطها خليط من الاستغراب أو الطرافة وكأنه كائن قادم من كوكب غريب.. في مقتبل عقد الخمسينات كانت الولايات المتحدة بأسرها لا تضم سوى 20 جهاز حاسوب الكتروني، وكان معظم هذه الأجهزة موجها للأغراض العسكرية.. وفي عام 1954 احتفلت الأوساط المعنية بالتوصل إلى الحاسوب الأميركي العام أو الشامل تحت اسم «يونيفاك»..
وكان الجهاز أقرب إلى شكل وأداء الوحش.. الالكتروني: طوله 8 أقدام وتشغيله يقتضي 8 آلاف أنبوبة، وعرضه يتطلب مساحة تبلغ 220 قدما مربعا أما وزنه فلا يقل عن 5 أطنان بالتمام والكمال.. (قارن ولو للحظة أشكال وأوزان وخفة وطلاوة الحاسوب الشخصي الذي تستخدمه في هذه الأيام) لا عجب أن يضيف المؤلف موضحا أن هذا الكائن شبه الخرافي كان يستعصي امتلاكه لفداحة شأنه ثمنا وحجما واحتياجات في التشغيل على معظم المؤسسات ولو في أميركا، لدرجة أن جاءت سنتنا المحورية في هذا الكتاب فلم تجد في عام 1959 سوى عدد قليل للغاية من شركات أميركا هي التي استطاعت بقدرة قادر كما قد يقال ؟ أن تمتلك واحدا من ذلك النوع الرائد من أجهزة الحواسيب.
وعندما استثمروا اختراع المايكروشب استطاعوا أن يضفوا التغييرات المرتقبة على الحاسوب فكان أن توصلت شركة آي. بي.إم إلى جهاز أخف وزنا وأصغر حجما وأعلى من حيث الكفاءة في إجراء أعقد العمليات الحسابية. وحمل صفة الجهاز رقم 1401 الذي استغرق إنجازه كل السنوات الست الفاصلة بين اختراع شرائح أو رقائق المايكروشب في عام 1959 وبين التوصل إلى الحاسوب 1401 في عام ,1965.
وساعد على تمويل العمل خلال تلك السنوات الحاسمة والفاصلة تلك الإمكانات التي حشدها الزبون الرئيسي لهذا النوع من كائنات الحساب الالكتروني.. وكان الزبون ممثلا في المجال العسكري بدوائر البنتاغون وممثلا في المجال المدني بالإدارة المسؤولة في الحكومة الاتحادية عن الضمان الاجتماعي المقدم لملايين المواطنين.

زائر من كوبا
وفيما كان الاختصاصيون قد اجتمعوا في مارس من عام 1959 يتداولون في أمر شريحة المايكروشب ويعقدون على اختراعها آمالهم الطموحة العراض.. كان مطار العاصمة الأميركية واشنطن يستعد في منتصف شهر أبريل من نفس العام لاستقبال ضيف طويل القامة له لحية كثة يدل شعرها الفاحم على ما يتمتع به الزائر من صحة وقوة وشباب..

كانت الطائرة قادمة من إحدى الجزر المجاورة لسواحل ولاية فلوريدا ؟ جنوبي الولايات المتحدة.. كانت جزيرة وادعة في مياه البحر الكاريبي يقصدها السراة ورجال الأعمال الأميركيون للترويح عن النفس في صالوناتها ومغانيها ودور اللهو المنبثة في أنحائها.. ويقصدها البعض الآخر لأغراض تهريب الممنوعات أو التهرب من الضرائب..
ولكن حين جاء عام 1959 تغيرت الدنيا وأصبحت الجزيرة حديث عالم ذلك الزمان، وأصبح الزائر الشاب اسما على كل لسان: الجزيرة اسمها كوبا والزائر اسمه فيديل كاسترو.

الحلقة(5) رفاق باندونغ أشعلوا الغضب في البيت الأبيض

هذه الحلقة تتناول جهود الخارجية الأميركية في استثمار وتطوير ما أصبح يعرف باسم «القوة الناعمة» لقطبي الحرب الباردة الروسي والأميركي.. وفي هذا الإطار اهتمت أميركا بتعليم اللغات الأجنبية لدبلوماسييها ومتابعة نتائج مؤتمر باندونغ الذي كان باكورة اجتماعات حركة عدم الانحياز مع ما أسفرت عنه قمة باندونغ من عقد مؤتمر تضامن الشعوب الآسيوية ـ الإفريقية في القاهرة وهو الحدث الكبير الذي استرعى اهتمام زعيم جماعة المسلمين ذوي الأصل الإفريقي في أميركا التي عرفت باسم «أمة الإسلام»..

كما تعرض الحلقة لما شهدته هذه الفترة من تطوير وتفعيل نضالات حركة الحقوق المدنية المطالبة بإنصاف مواطني أميركا من الملونين الذين عانت أجيالهم من صنوف الظلم والاضطهاد وعدم المساواة.. إلى أن اشتد ساعد حركتهم على يد زعماء ذكرت الحلقة في مقدمتهم مارتن لوثر كينغ ومالكولم اكس.

جاءت سنة 1959 بظاهرة غير مسبوقة.. يلخصها عنوان الفصل الخامس عشر من الكتاب في العبارة التالية: لغة الدبلوماسية الجديدة. ولأن الكتاب يركز أصلا على المجتمع الأميركي، ولأن المؤلف يتصف أصلا بالمهارة والخبرة الصحافية، فهو لا يتورع عن مصارحة قارئه في مستهل الفصل المذكور بأكثر من حقيقة كانت أمرا واقعا على مستوى السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي بالولايات المتحدة في الهزيع الأخير من عقد الخمسينات من القرن العشرين.

من هذه الحقائق ما يلي:
إن أميركا كانت تشرع في تلك الفترة في استعراض عضلاتها كقوة فاعلة تريد أن تؤثر وتقود على مستوى العالم.
ومنها أيضا: إن أميركا لم تكن في تلك الفترة أيضاً مؤهلة بصورة جيدة من أجل الاضطلاع بهذا الدور.
يقول المؤلف في هذا الخصوص: لم تكن الولايات المتحدة.. شعبا أو ساسة، ولا حتى على مستوى مبعوثيها الدبلوماسيين تعرف سوى النذر اليسير عن بقية عالم ذلك الزمان.. ثم يردف المؤلف قوله: في ربيع عام ,1958. تم إجراء دراسة استقصائية رسميا تكشف عن أن أقل من نصف موظفي ومسؤولي السلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية الأميركية كانت لديهم القدرة على أن يتكلموا لغة أجنبية.
برنامج عاجل للغات
إزاء هذه الحقيقة سارعت الخارجية الأميركية بإنشاء برنامج مكثف وعاجل لتعليم اللغات الأجنبية في إطار المعهد الدبلوماسي التابع لها.. وما ان حلّ خريف عام 1959، وهو كما نكرر محور طروحات الكتاب الذي بين أيدينا، حتى اقتصر الأمر على نسبة 15 في المئة فقط من ملاك موظفي الخارجية الأميركية هم الذين كانوا يفتقرون إلى المهارات اللغوية المطلوبة للعاملين في السلك الدبلوماسي خارج الحدود.

ماذا عن الشرق الأوسط؟
يجيب الكتاب موضحاً (ص 125) أن «هارولد هوسكنز» مدير المعهد الدبلوماسي وقتها اعترف صراحة أن الأمر بحاجة إلى عمل مستفيض بالنسبة لتعلّم وإجادة اللغات المحلية في الشرق الأوسط.. مضيفاً أن الأمر ينطبق كذلك على مناطق أخرى مثل إفريقيا وآسيا بوصفها أصبحت مؤثرة على ميزان القوى في غمار منافسات الحرب الباردة التي كانت مستعرة وقتها بين معسكري الشرق والغرب.
مرة أخرى كان الأمر بحاجة إلى أنشطة دبلوماسية لابد وأن تبذلها أميركا في طول العالم وعرضه.. يقول المؤلف في هذا السياق: كان ثمة هدف محوري يتطلب من سياسة أميركا الخارجية وقتها أن تجذب سائر الأمم والشعوب بعيدا عن تيار الشيوعية حيث يقف (ما كان يوصف بأنه) معسكر العالم الحر..
هنا يضيف المؤلف: هذا هو السبب الذي أصاب المسؤولين الأميركيين بقدر لا يخفى من التوتر الغاضب أو هذا السخط المتوتر إزاء صعود ظاهرة حملت من يومها اسمها الشهير: حركة عدم الانحياز. وقد تألفت كما يوضح كتابنا (ص126) من قادة وزعماء الثورات الوطنية الكاريزميين الذين أرادوا أن يشقوا طريقا مستقلا عن كل من واشنطن وموسكو.. وكثير من هؤلاء القادة كانوا في الشرق الأوسط وفي إفريقيا وآسيا حيث كان دبلوماسيو أميركا ؟ كما أوضحنا ؟ يعانون في معظمهم من ضعف القدرات اللغوية.

هواجس القلق
أكثر من هذا.. زادت هواجس القلق في دوائر واشنطن. لماذا؟
لأن موسكو بدت وكأنما شمرت عن ساعد العمل من أجل اجتذاب هؤلاء الزعماء، ومن ثم اجتذاب شعوبهم إلى صف روسيا فيما بدت كفة المنافسة ترجح لصالح الكرملين.
ثم كان هناك درس باندونغ الذي استمع إليه العالم قبل سنة 59 بخمس سنوات.
هنا يعود بنا المؤلف إلى مشروع حلف «سياتو» الذي كان قد دعا إلى إنشائه وزير خارجية أميركا الأسبق جون فوستر دالاس ليحل محل الفراغ الذي خلّفه انسحاب الاستعمار الفرنسي من منطقة الهند الصينية في جنوب شرقي آسيا. يومها بادرت حكومات عدة في المنطقة إلى رفض هذا المشروع على أساس أن لا تحل وصاية أميركية محل الهيمنة الفرنسية، وتصدرت هذه المقاومة حكومات وطنية كانت قائمة في الهند وسريلانكا وبورما واندونيسيا.. وأسفرت هذه المقاومة السياسية عن روح جديدة كان لها أصداؤها على مستوى العالم كله.
يقول مؤلف الكتاب: لم تمض سنة على هذا الرفض حتى جاءت سنة 1955 لتشهد دعوات وجهت إلى زعماء 25 دولة أخرى من آسيا وإفريقيا وكانوا في مجموعهم يشكلون أكثر من نصف سكان عالم تلك الفترة ؟ إلى حضور مؤتمر جامع في باندونغ، اندونيسيا، حيث كان مولد حركة عدم الانحياز، وحيث صدرت «وثيقة باندونغ الختامية» كي تدين «الاستعمار بكل أشكاله ومظاهره» وبذلك شكلت الوثيقة انتقادا موجها إلى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة على السواء.
ولم يفت هذا التجمع من زعامات العالم الثالث على اهتمام جماعات الملونين ذوي الأصل الإفريقي في أميركا. ثمة جمعية للسود الأميركيين غطت وقائع مؤتمر باندونغ وعاد مندوبها ليكتب قائلا في وضوح قاطع ما يلي: جاء انعقاد باندونغ ليشكل نقطة تحّول في تاريخ العالم.. جاء بمثابة تحد واضح لا لبس فيه ضد التفوق الأبيض.. وكان تحديا من جانب شعوب العالم من ذوي البشرة الصفراء أو السمراء.
البغض يولد البغض
يعلق المؤلف على هذه الأحكام قائلا: كان التمييز العنصري ضد ذوي البشرة السوداء يشكل عارا في أميركا.. وكان مفعما بسلوكيات الفصل بين البيض والسود الذين تعرضوا لصنوف القمع الوحشي بل والقتل على هوية اللون فضلا عن ضروب اللامساواة السافرة الصارخة. وقد ألقى هذا كله ظلالا قاتمة على ادعاءات الأمة (أميركا) بشأن الحرية والديمقراطية..

وعلى الجانب الآخر كان النشاط المحموم للدعايات الشيوعية التي لم تتورع بالطبع عن تضخيم أي حادثة من هذا القبيل تقع في أميركا.. وإذا ما كانت وقائع ونتائج باندونغ ستعمد إلى جعل المسألة العنصرية قضية مطروحة ضمن صراع الحرب الباردة.. فمن شأن ذلك أن يزيد من صعوبة الفوز في هذه الحرب أمام الولايات المتحدة.

في ضوء هذا كله كان المشهد العنصري في داخل أميركا يتغير ضمن مسارين أساسيين يعرض لهما المؤلف في سطور الفصلين 16 و17 على الوجه التالي:
أولا مسار «مارتن لوثر كينغ»: الزعيم الشاب الذي لم يكد يبلغ الثلاثين في عام 1950، ولكنه اختار أن يزور الهند بعد أن تأثر من قراءاته بفلسفة زعيمها غاندي بشأن عدم العنف والمقاومة السلبية والتقى هناك بالزعيم نهرو الذي حدثه عن «مسيرة الملح» التي قاد فيها غاندي مع مريديه جموع الشعب الهندي احتجاجا على احتكار سلطات الاحتلال البريطاني لمادة الملح في هند ـ الثلاثينات.. بعدها عمل الزعيم الأسود مارتن لوثر كينغ على تطبيق هذه الدروس التي شكلت دفعة قوية لحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة.
ثانيا مسار «مالكولم اكس»: الفتى الأسود الذي شرح الله صدره لاعتناق الإسلام.. فكان أن حّوله الإسلام من حياة العنف والضياع والانحراف في حارات الشقاء والتعاسة بأحياء السود الأميركيين إلى حيث أصبح زعيما من أركان جماعة «أمة الإسلام» التي تأسست على يد «اليجا محمد». والمهم أن سنة 1959 بالذات هي التي شهدت أول عمل إعلامي وضع هذه الجماعة الرائدة من مسلمي السود في الولايات المتحدة في بؤرة اهتمام الحياة والناس والسياسة والشأن العام في أميركا.
حدث ذلك على وجه التحديد يوم 13 يوليه عام 1959. في ذلك اليوم أذاع التلفزيون الأميركي على حلقتين برنامجا وثائقيا عن جماعة أمة الإسلام بعنوان: «البغض المولود من البغض». ونجح البرنامج التلفزيوني في التعريف بالجماعة. وأصبح اسم «مالكولم اكس» ذائع الصيت في الداخل والخارج.

لقاء مع عبدالناصر
هنا تبادر فتسأل مؤلف كتابنا: أين كان مالكولم اكس في يوليو 1959؟ وها هو يجيب على الفور:

كان مالكولم اكس في زيارة للقاهرة ومنها إلى رحلة زار فيها السعودية ولبنان والسودان على مدار ثلاثة أسابيع. ثم تحكي سطور كتابنا أصل الحكاية (ص143 وما بعدها) على النحو التالي:

في سنة 1957 بعث مؤسس «أمة الإسلام» ببرقية تهنئة إلى الرئيس المصري (الزعيم العربي) جمال عبدالناصر يشيد فيها باستضافة ناصر لمؤتمر تضامن الشعوب الإفريقية ـ الآسيوية في القاهرة.. باعتبار أن انعقاد هذا المؤتمر جاء في إطار متابعة قرارات مؤتمر باندونغ وحركة عدم الانحياز.

ويضيف المؤلف قائلا: وأجاب ناصر على البرقية.. وبعدها تواصلت المراسلات بين الطرفين إلى أن وجه جمال عبدالناصر دعوة إلى «اليجا محمد» لزيارته في القاهرة..
وما كان من اليجا إلا أن طلب إلى مالكولم اكس أن يقوم بالزيارة نيابة عنه و.. هكذا انطلق مالكولم في رحلته التي التقى فيها بعبدالناصر إلى جانب زيارة عواصم عربية أخرى وفور عودة مالكولم إلى نيويورك.. لم ينقطع هاتفه عن الرنين بالليل وبالنهار: كان هناك الصحفيون والمراسلون الذين لم يكد يسمعوا قط عن اسمه بل ولا على جماعة «أمة الإسلام» من الأفرو- أميركيين الملونين الذين اعتنقوا ديانة محمد عليه الصلاة والسلام قبل أن يذاع برنامج مايك والاس على شاشات التلفزيون.. وكلهم كانوا متلهفين على أن يحدثهم ماكولم اكس عن رحلته إلى الشرق الأوسط وزيارته إلى ديار الإسلام فضلا عن أفكاره التي كانت تبعث رسائل شتى في وجدان عامة الأميركيين.
والمهم أنه بقدر ما غيّرت رحلة الهند ولقاء نهرو كثيرا من أفكار مارتن لوثر كينغ عن حركة الحقوق المدنية للسود في أميركا.. جاءت رحلة القاهرة واللقاء مع عبدالناصر وغيره من قيادات المسلمين على ارض إسلامية في الشرق الأوسط لتغير، أو بالأدق تصحيح افكار مالكولم اكس عن عقيدة الإسلام وتعاليمه، حيث محمد عليه السلام هو خاتم الرسل وحيث الإسلام هو ديانة التوحيد بقدر ما أنه دعوة لتحرير الإنسان وتكريم الإنسان والارتقاء بالبشر فوق أوضاع الطبقة أو لون البشرة أو جذور الأعراق إلى مستوى تحقيق العدالة وتفعيل الكرامة وتحقيق المساواة.
والمهم أن مالكولم اكس حرص على الربط بين هذه المعاني السامية من واقع التعاليم الروحية للإسلام وبين مشاركته كزعيم أميركي ملوّن في دفع حركة الحقوق المدنية إلى الأمام.

الحلقة(الأخيرة) انكمشت الأرض حتى صارت قرية

في هذه الحلقة الأخيرة يختم المؤلف متابعته لخصائص عام 1959 الذي توافينا في الوقت الحالي ذكراه الخمسون.. وتركز الحلقة على أنه العام الذي توصّل إلى الأقراص الدوائية التي أتاحت إمكانات السيطرة على عمليات التكاثر والإنجاب فيما أصبح يعرف بعد ذلك باسم تنظيم أو تخطيط الأسرة.

وتتابع الحلقة عبر الفصل الخامس والعشرين وهو الفصل الختامي من الكتاب ما شهدته الولايات المتحدة والعالم من مقولات عن اختصار المسافات عبر كوكب الأرض سواء بفضل الطيران النفاث أو مع احتدام السباق الفضائي بين القطبين الروسي والأميركي مما اعتبره المؤلف إرهاصا بظاهرة العولمة التي بدأت بمقولة القرية الكونية مع الستينات وتجسدت فعلا بفضل منجزات التشبيك الالكتروني مع عقد التسعينات من القرن العشرين.«اندروميدا تتحرر من قيودها».. هذا هو عنوان الفصل الرابع والعشرين وهو الفصل قبل الأخير من كتابنا. فمن هي اندروميدا.؟باختصار شديد هي اسم يعرفه دارسو الميثولوجيا.. الأساطير أو الخرافات التي تحفل بها كلاسيكيات التراث الموروث عن حضارة اليونان. وترمز اندروميدا إلى الأنثى فائقة الجمال.. لكن شاءت أقدارها أن تدخلها ضمن صراعات بين البشر والأرباب المعبودين لدرجة أن قيدّوها على نحو ما تقول الأسطورة وقيدوا فيها خصوبة الأنثى التي لم تعد لها سيطرة على التكاثر أو الإنجاب. لكن ها هو الفصل 24 من الكتاب يبشر بأن أندروميدا تحررت من قيودها.

والمعنى أن لاحت تاريخيا فرصة السيطرة أو التحكم في قرار وعملية الإنجاب. لهذا يفتتح الفصل بالسطور التالية (ص221):

قرب نهاية ديسمبر من عام 1959 تمت مقابلة (يمكن وصفها بأنها تاريخية) بين اثنين من علماء أميركا هما: الدكتور أروين ونتر مدير البحوث الطبية في شركة سيرل الصيدلانية في شيكاغو، والدكتور جون روك أستاذ الطب في جامعة هارفارد وكان يعد في طليعة اختصاصيي بحوث الخصوبة في طول الولايات المتحدة وعرضها.

مكان اللقاء كان مكتب إدارة الأغذية والعقاقير الطبية في واشنطون وهي الدائرة الاتحادية المسؤولة عن اعتماد كل ما يستجد في عالم الأغذية والأدوية بفضل الاكتشافات أو التطويرات أو الاختراعات

حكاية انفويد
أما سبب اللقاء، وكان سببا تاريخيا بالغ الخطورة بدوره، فيتلخص فيما يلي بإيجاز شديد في طلب الموافقة على عقار جديد توصل إليه الباحثان الطبيّان ويحمل الاسم التالي «انفُويد».
كان هذا بداهة هو الاسم العلمي أو العنوان الطبي المطلوب تسجيله وإقراره واعتماده. أما الاسم المأهول.. الشعبي إن جازت التسمية فهو ببساطة ما يلي: حبة السيطرة على الحمل.. أو حبة منع الحمل أو حملة تنظيم الإنجاب.

ويقول مؤلف الكتاب في هذا السياق، إنه كان من شأن موافقة الإدارة الاتحادية المختصة في الولايات المتحدة أن تشكل تتويجا لما أمكن أن تنجزه سيدتان بلغتا وقتها سن الثمانين من العمر هما: مرغريت سانجر وكاثرين ماكورمك.

الأولى قادت حملات متحمسة منذ بدايات القرن العشرين تدعو إلى أن تنال المرأة الحق في تنظيم ما يخصها من حالات الحمل وعمليات الإنجاب. والثانية اقتنعت بهذه الدعوة فكان أن مولت محاولات تطوير العقار المنشود إلى حيث التوصل إلى الحبة الدوائية التي التمست القبول من الدائرة المعنية مع الأيام الأخيرة من ديسمبر عام 1959.

على أن سطور هذا الفصل من الكتاب توضح بإسهاب بحثي من جانب المؤلف مدى صعوبة الطريق ومدى فداحة العقبات التي صادفت العاملين في هذا المجال، سواء من حيث استبعاد إمكانية تنظيم الإنجاب أو من حيث علاقات هذه الجهود ونتائجها بالتعاليم الدينية أو الأعراف الاجتماعية.

مشادة في مكتب حكومي

أكثر من هذا كانت هناك عقبة بيروقراطية لا تتصل لا بالجانب العلمي التقني ولا بالجانب الديني الأخلاقي.. بل تتصل ببساطة بطبيعة أداء الإدارة الأميركية المختصة باعتماد العقار الجديد بكل نتائجه الخطيرة بل الثورية كما قد نسميها. والمشكلة أن كانت إدارة الأغذية والعقاقير الاتحادية في واشنطن فقيرة في عدد الموظفين الاختصاصيين، بل خائرة القوى أو تكاد تكون بفعل ما تلقته وقتها من طلبات باعتماد أدوية وعقاقير حديثة الاكتشاف بلغ عددها وقتها ـ كما يبين المؤلف (ص228) أكثر من 4 آلاف طلب.

من هنا كان على أستاذيْ الطب أن ينتظرا أكثر من ساعة ونصف إلى أن أتيح لهما لقاء الموظف المختص. زاد على ذلك أن كان المذكور طبيبا شابا مختصا بأمراض النساء اسمه «باسكال دي فيلبس»، فما بالك إن كان صاحبنا موظفا غير متفرغ لدى الإدارة، فضلا عن افتقاره إلى رخصة لممارسة الطب من جانب هيئة البورد الأميركي الكلية الاحترام.. حاول الطبيب المبتدئ الشاب أن يجادل الأستاذين صاحبْي الاكتشاف فلم يجد ما يثيره سوى اعتراضات الكنيسة الكاثوليكية.. فما كان من الدكتور «روك» إلا أن رد عليه قائلا:

ـ يا فتى.. لا تحاول أن تبيع لي كنيستي: أنا أوْلى بها.
يستطرد المؤلف قائلا:
ـ كان لابد وأن تصل المقابلة إلى ختامها حين جمع الشاب دي فيليس المذكرات قائلا:
ـ حسنا.. سوف أراجعها مرة أخرى وسوف تسمعان مني بعد ذلك.
هنالك أمسك الدكتور روك ياقة الموظف المختص قائلا:
ـ بالعكس.. أنت سوف تحسم الأمر في التو واللحظة.
عن هذا الموقف حكى الدكتور روك بعد ذلك موضحا أن الموظف الشاب امتثل وقرر قبول الطلب وسارت الأمور في الطريق المعتاد. وكان طبيعيا أن استغرقت إدارة الاعتماد المختصة نحوا من خمسة أشهر أخرى لتفحص البيانات والدراسات مع استشارة عدد كبير من أهل الاختصاص.. وبعدها أصدرت قرارها باعتماد العقار الجديد الذي عرفه الناس شعبيا باسم «حبة منع الحمل».. وكان ذلك يوم 11 مايو عام 1960.

الآفاق الجديدة

يحاول المؤلف أن يختصر هذا التميز وهو الذي جعل من عام 1959.. ربما في ذكراه الخمسين هذه الأيام.. محورا.. هل نقول بطلا، تحتفل به سطور هذا الكتاب.. هذا الاختصار يورده المؤلف مع سطور الفصل الختامي.. الخامس والعشرين من فصول هذا الكتاب.. وعنوانه كالتالي: آفاق جديدة.

من جانبنا نوافق مؤلفنا على هذا العنوان على ضوء ما سبق وعرضته السطور، فضلا عن استعراضنا التحليلي لمضمونها، من إنجازات تمت على مدار عام 59 وأصبحت في حكم التحولات الجذرية ـ التاريخية أحيانا ـ في مسار التطور الإنساني.

بين سطور هذا الفصل يرصد المؤلف بدايات الظاهرة التي تقول بانكماش أو تقلص مساحة كوكب الأرض.. هي الظاهرة التي لخصّتها مع مطلع عقد الستينات العبارة المنسوبة إلى أستاذ نظريات الإعلام الأشهر «مارشال ماكلوهان» في مقولته عن القرية العالمية.. أو الحّلة الكوكبية (غلوبال فِلدِج) أو أن العالم أصبح مجرد قرية الكترونية..

وبديهي أن كان في هذا إرهاص بظاهرة العولمة (غلوباليزم) التي تجلت بوضوح أشدّ مع سنوات عقد التسعينات من القرن العشرين خاصة وقد أمكن تطوير أدوات الحاسوب الالكتروني ما بين الستينات إلى تلك التسعينات التي أتيحت فيها امكانات التشبيك على مستوى المعمورة.

في سنة 1959.. يضيف مؤلف الكتاب.. ساد هذا الشعور بأننا نعيش على سطح كوكب صغير أو أنه أصبح صغيرا بعد أن تقلصت المسافات، لا بين الأقطار وحسب، ولكن بين قارات اليابسة ومساحات البحر المحيط. كان هذا على المستوى الأفقي كما قد نقول. أما المستوى الرأسي فقد تعرّض لنفس ظاهرة التقلص أو الانكماش بعد أن اخترقت السفن الفضائية مدار الجاذبية الأرضية ودارت حول الشمس.. وبدأت تطرق أبواب أو أجواز النظام الشمسي ذاته.. ثم تتطلع بالطموح العلمي والأحلام المقنّنة إلى ملامسة سطح القمر (وهو ما تحقق بعد سنة 1959 بعشر سنوات بالتمام والكمال).

الشعلة في أيد جديدة

هكذا تمت عمليات الاختصار سواء للمسافة الأفقية أو الرأسية أو لقوانين السرعة أو الجاذبية أو الحركة سواء فيما بين مواقع كوكب الأرض أو بين محيط هذا الكوكب وما يحدق به من أجسام فلكية وأجرام يصدق عليها القانون الرباني.. وكلٌ في فلك يسبحون. كان هذا هو الجانب العلمي والاستشرافي لما جاء به عام 59 من آفاق أو حدود جديدة يتطلع إليها البشر. أما على الصعيد الاجتماعي السياسي بالذات.. فقد تمثلت خصائص عام 59 في مقولة إنه العام الذي أتيحت فيه الفرصة للشباب.. الفتوة.. العنفوان.. الأمل.. التطلع نحو الغد.. بكل ما تحمله هذه الألفاظ والمسميات من معان ودلالات..

وكانت الولايات المتحدة على نحو ما يشير المؤلف.. هي الأرض التي تلقت بذور هذا التطلع الشبابي نحو المستقبل.. وقد عبّر المشهد السياسي الأميركي عن هذا التطلع في العبارة التي اشتهرت في أيام 1959.

وهي: زلقد انتقلت المشكلة إلى أيد جديدة. وبشكل عام كانت هي أيدي جيل من الشباب، وبشكل خاص انتقلت مقاليد الأمور في القرار السياسي الاستراتيجي الأميركي إلى يد «جون فيتزجيرالد كينيدي» الذي اختاره مواطنوه لشغل منصب الرئاسة الأولى بالولايات المتحدة مع الأيام والأسابيع الأخيرة من عام 1959.

كان الرئيس الجديد الشاب يجسّد شيئا وصفه الكاتب نورمان ميلر بأنه «حلم الحياة للأمة» وكان ميلر يرى ويكتب أيضا أن الأميركيين طالما عاشوا حياة مزدوجة ما بين أسلوب طاف على السطح يتسم بالروح العملية والسلوكيات الواقعية بما يبعث على الملل إلى حد لا يكاد يصدَّق، وما بين نهر عميق الأغوار بموج تحت السطح برغبات وأشواق عاتية ورومانسية فريدة يتميزون بها عن الآخرين.

وعود الغد الآتي

لذلك كان اختيارهم للسياسي المثقف الشاب جون كينيدي تعبيرا عن نزعة مبطنة من الخيال أو الحلم المخبوء.

وفي كل حال لم يكن المرشح الشاب ومن ثم الرئيس الجديد سوى وعد بالتغيير يطمح الأميركيون إلى تحقيقه، سواء بالتفوق على المنافس السوفيتي في معمعة الحرب الباردة أو في إحراز نقطة لصالحهم في سباقات الفضاء التي اشتدت في عام ,59. أو بالتغلب على مواريث التفرقة العنصرية التي طالما استبّدت بالمجتمع الأميركي.

ورغم أن الرئيس كينيدي لم يحقق الكثير من هذه الوعود، ولا استطاعت رئاسته أن تجسد معظم المعقود عليها من توقعات، إلا أن حقبة الفرص المجهولة والمخاطر التي مازالت في «علم الغيب» كما أسماها الرئيس نفسه.. ظلت تتعايش مع جموع الأميركيين مع انقضاء أيام 1959 وكأنها تعدّهم لسنوات الستينات التي مازالت حوليات التاريخ الحديث في الولايات المتحدة والعالم تصفها بأنها «عقد التمرد».

وهو أيضا عقد التطرف مابين تحقيق الإنجازات الباهرة مثل النزول على سطح القمر، وفي المقابل أزمة التورط في صراع أودى بحياة مئات الآلاف من البشر في حرب بغير طائل أشعلت أميركا أوارها في أدغال فيتنام. في كل حال أيضا.. فقد كانت البشرية في عام 1959 تكاد تقف عند حافة الغد، وكان هذا الغد يوما (أو عهدا) جديدا كان كفيلا بأن يجترع معجزات بقدر ما يسبب كوارث وفي غضون لحظات خاطفة.. هو ذلك الغد الذي ما برح يلاحقنا في أفكارنا وأحلامنا حتى كتابة هذه السطور.

بقلم: زينب خليل عودة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى