الاثنين ٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
مساقات
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

2- الأدب الإلكتروني التفاعلي وسؤال المرحلة

هذا الجزء الآخر من ورقة بحثٍ قدَّمتها ضمن البرنامج الثقافي لسوق عكاظ 13، بمدينة الطائف، مساء الخميس 21/ 12/ 1440هـ= 22/ 8/ 2019م. أستكملُ به ما انتهَى إليه الجزء الأوَّل:

http://www.al-jazirah.com/2019/20190907/cu11.htm

3- في الرواية:

من المعروف أن المؤلِّف الأميركي والناقد في الأدب الإلكتروني، (ميشيل جويس Michael Joyce)، أصدر أوَّل "رواية تفاعليَّة" في العالم، بعنوان "الظهيرة، قصة Afternoon, a story"، 1987، مستخدمًا برنامج المسرد Story space، وهو برنامجٌ لكتابة هذا النوع من النصوص. ثمَّ ظهرت برامج أخرى، كبرنامج اسمه: "الروائي الجديد"، وصولًا إلى التقنيات الراهنة على اختلافها.

وفي العالم العربي تجربةٌ معروفةٌ للأردني (محمد سناجلة)، من خلال روايةٍ بعنوان "ظلال الواحد"، 2001، و"شات"، 2005، ورواية أخرى بعنوان "صقيع". وكان قد أطلق موقعُ (اتحاد كتاب الإنترنت العَرَب)، رواية "شات"، وغيرها.(1)

ولا تختلف "الرواية التفاعليَّة" عن "القصيدة التفاعليَّة"، في أنها توظِّف خصائص البرمجيَّات الإلِكترونيَّة لإنتاج نصٍّ سرديٍّ متفرِّع، يسمح بالربط بين النصوص، والأعمال الفنِّيَّة، عبر وصلاتٍ وإيقونات، ترتبط بنصوص، أو بصورٍ ثابتةٍ أو متحرِّكة، أو بأصواتٍ حيَّة، أو بموسيقى، أو بأشكالٍ جرافيَّةٍ متحرِّكة، أو بخرائط، أو برسومٍ توضيحيَّة، إلى غير ذلك. في غابةٍ متداخلةٍ بين المتون والحواشي، وما يرتبط بالموضوع، أو يضيئه.

4- آفاق النـقد:

يُعَدُّ كتاب (سعيد يقطين)، تحت عنوان "من النصِّ إلى النصِّ المترابط، مدخلٌ إلى جماليَّات الإبداع التفاعلي"(2)، الكتابَ العَرَبيَّ الأوَّل، فيما نعلم، في هذا الموضوع.

والسؤال المتبادر إزاء هذا الحراك الأدبي والنقدي:

تُرى ماذا يمكن أن يضيف النصُّ الإلِكترونيُّ التفاعليُّ إلى المشهد الأدبيِّ العَرَبي، حسب نموذجَيه المشار إليهما؟

يبدو أن النصَّ الإلِكترونيَّ التفاعليَّ لا يشتغل على البنية الداخليَّة للنصوص، بمقدار اشتغاله على طريقة عرض النصوص. ويمكن القول، إذن: إنه وريث محاولاتٍ تفاعليَّةٍ سابقة، لن أُعَرِّج عليها في السياق الغربي، بل في تجارب بعض العَرَب المحدثين، وذلك محاولة منهم لإحداث ضروبٍ من الحواريَّات النصوصيَّة. وهناك غير اسمٍ خاضَ مثل هذه التجربة عبر أعمال كاملة، يمكن أن يشار منها، مثلًا، إلى: (الشاعر علي الدميني)، من السعوديَّة، في مجموعته الشِّعريَّة بعنوان "رياح المواقع"، (1987)، التي أبدَى فيها جرأةً لافتةً في التجريب، والإفادة من الأجناس الأدبيَّة والفنيَّة، منتقلًا من (الاستعارة-القصيدة) إلى ما أسميته، في مقاربة سابقة بـ"الاستعارة-الديوان"(3). وكذا فعلَ الشاعر (علاء عبد الهادي)، من مِصْر، في مجموعته الشِّعريَّة "الرغام: أوراد عاهرةٍ تصطفيني"، (2000)، ومجموعته "شَجِن"، (2004)، ومجموعة "مهمَل.. تَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ بِظِلّ"، (2007). غير أن تلك التجارب إنَّما كانت تحاول ما تحاول على الوَرَق، في حين تخطو التجارب الإلِكترونيَّة التفاعليَّة إلى نوعٍ جديد، يتخاطب مع العين والأذن مباشرة، وعبر تقنية العصر الإلِكترونيَّة.

إنَّها محاولاتٌ تستهدف تقديم النصِّ الأدبيِّ إلى جيلٍ ما عاد يتعامل مع الوَرَق، دَعْ عنك أن يَفْرُغ لقراءة ديوانٍ شِعريٍّ أو رواية. وفي هذا مسعًى لنَقْل النصِّ الأدبيِّ بطريقةٍ مدهشة، وطريفة، تتواصل مع حساسيَّةٍ إنسانيَّةٍ راهنةٍ في التعبير والتلقِّي، مثَّلتْ منذ أكثر من عِقدَين من الزمن انقلابًا تاريخيًّا في التراسل المعلوماتي، صاحبَ الثورة الكُبرَى في الاتصالات وتقنية المعلومات، ولاسيما بعد بروز الشبكة العنكبوتيَّة "الإنترنت"، وسيلةً كونيَّةً أُولَى في بثِّ المعلومة، ضِمن منظومةٍ تُؤْذِن بنهايات عصر المدوَّنات الورقيَّة، أو على الأقل بوضعها على الرفِّ، مفسِحةً الميدان واسعًا لنوافذ إبستمولوجيَّة لا نهائيَّة، بفضاء العالم أجمع.

وبذا فإنَّ النصَّ الإلِكترونيَّ التفاعليَّ يتَّكئ بالضرورة على شِعريَّاتٍ معاصرةٍ شتَّى إلى جانب شِعريَّة الكلمة- وهي شِعريَّات ما تزال غُفلًا من التناول النقديِّ- وتُطَوِّعها للتعامل مع قارئٍ مختلفٍ تمامًا، من جيل متصفِّحات الحواسيب وشاشات الجوَّالات، لا جيل الصحائف والدواوين.
وعليه، فإن هذه التجارب- على قلَّتها- تُمثِّل رافدًا للحركة الأدبيَّة، الآنيَّة والمستقبَلة، في عصرنا الإلِكترونيِّ هذا، الذي يُشاع أنه لم يَعُد عصر أدب؛ لتأتي هذه النصوص فتنغرس في نسيجه العالمي؛ كي تُثبِت أن الأدب- وقد صحبَ رحلةَ الإنسانيَّة منذ الأزل- قادرٌ على مسايرة العصور، وصولًا إلى روح الإنسان أَنَّى كان.

وإذا كان شأن القصيدة الإلكترونيَّة التفاعليَّة كما وصفنا، فإنه يمكن أن يضاف في شأن الرواية الإلكترونيَّة التفاعليَّة ما يحمله جنس الرواية، بطبيعته أصلًا، من طاقات أكثر مواتاة للتفاعل، وهو ما يجعل النصَّ الروائيَّ الإلكترونيَّ التفاعليَّ أكثر ثراءً بعوالم حيَّة، ما كان للرواية الورقيَّة قِبَلٌ بها. إن التقنية هنا تُحوِّل الرواية إلى فيلمٍ سينمائيٍّ على نحوٍ جد يد، يجعل المتلقِّي بطلًا من الأبطال، لا مجرد مشاهد.

يبقَى القول:

1- إنَّ التقنية لا يمكن أن تكون مطيَّةً لنصوص خداج. فلا يُغني عن القصيدة ولا عن الرواية كونُهما إلِكترونيتَين تفاعليتَين شيئًا في عالم الأدب، ما لم تكونا أوَّلًا على درجةٍ جيِّدةٍ، من حيث جنسهما الأدبي. لتضيف التقنيةُ التفاعليَّةُ على جماليَّاتهما جماليَّاتٍ جديدة.

2- إنَّ النصَّ التفاعليَّ قد يغدو منزلَقًا إلى شتات النصِّ وتلاشيه بين يدَي متلقِّيه، ضائعًا بين النوافذ والإيقونات. قد يحدث ذلك كثيرًا، ما لم يأخذ المبدعُ من تلك الوسائل التعبيريَّة بمقدار ما يناسب عمله، دون إسراف. وإلَّا آلَ الأمر إلى ضربٍ من العبث الشكلاني، الذي عرفَه الأدب العَرَبيُّ قديمًا، خلال عصور الانحطاط الأدبي، من تحميل النصوص بأغلال المحسِّنات، أو تحويل العمل الأدبيِّ إلى ميدان لهوٍ وتلاعبٍ بالكلمات والأشكال والزخارف، على حساب المعنى، والرسالة، والقيمة الأدبيَّة.

3- إنَّ مستقبَل الأدب الإلِكترونيِّ التفاعليِّ ما يزال مرهونًا بحالة التقانة العَرَبيَّة المتواضعة، والقلقة، والمهدَّدة، لسببٍ أو لآخَر. وما لم تتأسَّس أنظمةٌ شبكيَّةٌ مأمونة، ولها صفة الثبات والاستمرار في عالمنا العَرَبي، فسيظلُّ النشاط في هذا الميدان، إبداعًا ونقدًا، في إطار التنظير، واستشراف المستقبل المنشود، وغير المتحقِّق، هاهنا والآن. ذلك أن وجودَ نصٍّ أدبيٍّ تفاعليٍّ خارج شبكة "الإنترنت"، أو باشتراطات تقنية خاصَّة غير متوافرة لغالبيَّة المتلقِّين، لا معنى له (تفاعليًّا). من حيث إن التفاعل هنا ليس بتفاعل عناصر النصِّ بعضها مع بعض فحسب، ولكنه أيضًا تفاعل المتلقِّي مع النصِّ، بالتعليق، أو الإضافة، أو النقد. ثمَّ إنَّ من ضِمن القنوات التفاعليَّة لتلك النصوص ارتباطها بخلايا الشبكة العنكبوتيَّة نفسِها، بمفاتيحها المعلوماتيَّة، وإلَّا بات النصُّ- الذي يسمَّى تفعاليًّا- مغلَقًا على نفسه، وغير تفاعليٍّ أصلًا، بما تعنيه هذه الكلمة من دلالة في هذا العصر.

(*) يمكن الاستماع إلى ملخَّص الورقة البحثيَّة عبر موقع "اليوتيوب"، على الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=XC4085k_8qA

(1) هذه الأعمال لم أعد أستطيع التوصل إليها بالبحث على شبكة "الإنترنت". وكنت قد اطَّلعتُ عليها منذ حين. وهي على كلِّ حال تتطلَّب لقراءتها وجود برنامج (الفلاش ميكروميديا).

(2) (الدار البيضاء: المركز الثقافي العَرَبي، 2005).

(3) انظر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (2005)، حداثة النصِّ الشِّعريِّ في المملكة العربيَّة السعوديَّة: قراءةٌ نقديَّةٌ في تحوُّلات المشهد الإبداعي، (الرياض: النادي الأدبي)، 97.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى