الخميس ١٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٧

200 مليون دولار لتشجيع الشعر الترفيهي في أميركا

واشنطن: محمد علي صالح

تبرعت، الشهر الماضي، روث للي، حفيدة ايليا للي، مؤسس شركة «للي» لصناعة الادوية في انديانابوليس (ولاية انديانا)، بمائتي مليون دولار لمجلة «بويتري» (شعر). وقالت في خطاب التبرع: «اريد بعث الحياة في الشعر الاميركي. اريد مساعدة الشعر والشعراء لمواجهة غزو التلفزيون والفيديو والانترنت». لكن هذا التبرع السخي، أوصل النقاش حول الشعر إلى أماكن لم تكن منتظرة أو متوقعة في أميركا، خاصة بعد الكلام عن ضرورة أن يصبح الشعر ترفيهياً كي يقبل الناس عليه.

لا يعرف عن «روث للي» غرامها بالشعر، لكن يبدو انها تقرؤه، وهي الهادئة الى درجة الانعزالية، والصامتة الى درجة البكم، ولها حصة كبيرة من ثروة الشركة التي تنتج دواء "بروزاك" للمصابين بالقلق والاحباط، ودواء "سياليس" للمصابين بالعجز الجنسي.

سألت ليف غروسمان، وهي صحافية في مجلة "تايم": "هل يقدر الدولار على انقاذ الشعر؟" وكأنها تسأل: هل تقدر الرأسمالية على انقاذ ما هزمته الرأسمالية؟ يبدو ان حضارة التكنولوجيا، والسرعة، واللهو، لم تترك ساعة يختلي فيها انسان بديوان شعر، ويستمتع بقوافيه وأوزانه.

لكن، كان رئيس تحرير مجلة "بوتيري" اسعد انسان على سطح الارض يوم عرف بهدية بليونيرة مصانع الادوية. وقال ان المجلة كادت تتوقف بسبب زيادة ديونها. وبسبب عدم قدرتها على جذب احسن الشعراء والمحررين. وبسبب عدم اهتمام الناس بالشعر والشعراء. والسبب الاخير هو اهم الاسباب.

قصائد في المدرسة

اهمل الاميركيون الشعر، وبات لا يدرّس بصورة منتظمة في غير المدرسة الثانوية. هناك فقط، يقرأ، ويحفظ، ويحلل في انتظام وباهتمام.

ورغم ان القراءة إلزامية لأنها مقررة، ورغم ان كثيرا من الشعر ينسى، تبقى، هنا وهناك، قصيدة او قصيدتان او بيت او بيتان، يتذكرهم الانسان بقية حياته.

اما غير ذلك، يكاد الشعر يموت، لولا قصيدة في ملحق اسبوعي في جريدة "واشنطن بوست"، ومؤتمرات يعقدها شاعر الكونغرس (وظيفة رسمية)، إضافة إلى مسابقة سنوية لتلاميذ المدارس الثانوية في كل الولايات.

وقبل ثلاثة شهور، نظمت جامعة جورج واشنطن (في واشنطن العاصمة) "بوتيرى لاود" (الشعر عاليا). وهي المسابقة السنوية لإنشاد الشعر التي يشترك فيها تلاميذ وتلميذات المدارس الثانوية.

وأنشد أحدهم أبياتا من "الالياذه"، وربما هي اقدم قصيدة مكتوبة، منذ سنة 600 ق. م. وهي قصيدة الشاعر اليوناني هوميروس، التي سجل فيها حروب اثينا وطروادة، وكتب قصيدة ثانية مشهورة: هي "الادويسة"، ولم يتذكر واحد من هؤلاء الاميركيين قصائد الملك جلجامش، ربما لأنها ليست اوروبية. وهي اقدم القصائد الشرق اوسطية، تركها البابليون على ألواحٍ من الطين. ولم يتذكروا قصيدة "ماهارافاراتا"، اقدم قصيدة هندية، منذ ذلك الوقت، واطول قصيدة حتى الآن: 74000 بيت. ولم يتذكروا "المعلقات السبع"، اقدم قصائد العرب التي وصفتها "بريتانيكا" (دائرة المعارف البريطانية) بأنها "اكثر الشعر فصاحة، ومعنى وأصالة". وأشارت الموسوعة إلى اول ترجمة لها بالانجليزية للسير البريطاني بلنت، وزوجته آن (سنة 1903).

بدأ الشعر العربي جاهليا، ثم انشد للاسلام، عكس الشعر الاوروبي الذي بدأ دينيا، ثم صار رومانسيا وعلمانيا.

وفي القرن الثالث عشر، خلط دانتي اليغيري، كاتب قصيدة "الكوميديا الالهية" الخيال بالدين، وفي القرن السادس عشر، حول وليام شكسبير الشعر الى خيال من روايات، وفي القرن الثامن عشر تخصص كيتز في الرومانسية.

لكن، استمر تأثير الدين والروحانيات على الشعر في اميركا لمدة طويلة بعد نهايته في اوروبا. وظهر هذا في قصائد اشهر شعراء اميركا: ت. س. اليوت. كتب عن الرومانسية، لكنه، ايضا، اعاد الشعر الى عصر دانتي، قبل سبعمائة سنة، وألف قصائد عن الحيرة، والقلق، والبحث عن اليقين.

ولا يذكر اليوت، إلا وتذكر قصيدته "اربعاء الرماد" التي اهداها الى زوجته "فيفيان" وهو فيها حائر وجد اليقين. ومطلعها:

"لماذا ينشر الصقر العجوز جناحيه؟ ولماذا اتحسر على انحسار القوة؟ لأني اعرف انني لن اعرف. لأني لن اعرف ان الزمن هو الزمن. ولن اعرف ان المكان هو المكان. أسأل الله ان يرحمني."

أبيات مرتبة كأيام الأسبوع

يقول الذين يدرسون الشعر المقارن، ان الشعر الاميركي يختلف عن غيره بانه "عملي"، يهتم بأشياء واقعية، ويرتب نفسه مثل الحروف الابجدية، ومثل شهور السنة، ومثل ايام الاسبوع. يقولون انه "واقعي" اكثر منه "رومانسي." وربما لم يكتب شعراء عن الوطنية والفخر بوطنهم مثلما فعل الشعراء الاميركيون. ورغم مضي اكثر من خمسين سنة على ت. س. اليوت، تظل في الشعر الاميركي لمسات دينية لا توجد في الشعر الاوروبي.

اقدم شاعر اميركي اشتهر هو ادوارد تايلور الذي انشد قصائد حرب الاستقلال، وربط بين الحرية والفضيلة (الدينية). انشد: "يا الهي، انشر رحمتك، واجعلني قادرا على فهمك." وتمعن، في حيرة، في حشرة تقبض على ذبابة: "اخذتها بساقها، وخنقتها في حلقها، وعضتها في عنقها، عضة قاتلة."

واستفاد السود من الشعر: ليحكوا مأساتهم خلال مائتي سنة من تجارة الرقيق، وليطلبوا العون من الله وهم يناضلون للانعتاق. وأنشدت (سنة 1773) العبدة فيليس ويتلي: "يقولون ان لوني قبيح. تذكروا ان الزنوج سود مثل قابيل. جاءهم الخلاص للحاق بالركب الملائكي."

اميرسون واليوت وآخرون

ولم ينس رالف اميرسون (توفي 1882) الروحانيات ايضا.

كان شاعر المثقفين الاخلاقيين الذي ربط بين الوطنية والتدين. وانشد في "تراتيل كونكورد" عن النضال ضد الاحتلال البريطاني: "فوق الجسر الذي اوقف الفيضان، رفرف علمهم مع نسيم ابري. هنا وقف المزارعون. بعد ان اطلقوا طلقة سمعت في كل العالم."

وعاصر اميرسون نقيضه: ادجار الان بو (توفي 1849). وهو عكس اميرسون، قاد الحركة الرومانسية، كان عربيدا، وطرد من جامعة فرجيينا (لكنهم وضعوا له فيما بعد تمثالا لا يزال هناك). وعاش حياة فقر وفوضى. ووجد ميتا في زقاق في بولتمور.

وفي كتاب "المبدأ الشعري "(بويتيك برنسبل)، اعلن نهاية القصيدة الطويلة. وفتح الباب امام الشعر غير المنتظم. وهو اول من قال: "الفن من اجل الفن".

عكس اميرسون قبله، وعكس اليوت بعده، قال انه لا توجد صلة بين الشعر والاخلاق والنصائح والوعظ. وقال ان الشعر الجيد هو العمل الفني الجيد. لهذا، يعتقد انه احترم خارج اميركا اكثر من داخلها. (انتقده اليوت، وقال انه: "في ذكاء شخص قبل فترة المراهقة").

لكن لا يذكر بو، إلا وتذكر قصيدة "الدورادو" (البحث عن مدينة من الذهب). والتي انشد فيها: "فارس شجاع، بالليل والنهار. يغني في رحلة طويلة. يبحث عن الدورادو. لكنه كبر في السن. وأحاط الظلام بقلبه. وظل يسأل: اين الدورادو؟ اين الدورادو؟ حتى قابل رجلا قال له: وراء الجبال. جبال القمر. في وادي الظلام."

أشهر قصيدة أميركية

نشرت جريدة «بولتيمور اميركان» سنة 1814، اشهر قصيدة اميركية حتى اليوم، وهي قصيدة «دفاعا عن قلعة ماكهنري». وكانت بريطانيا، قد غزت الولايات المتحدة قبل ذلك بسنتين، (كانت مرت اربعون سنة على استقلالها عن بريطانيا). وزحفت القوات البريطانية من الشمال، عبر حدود كندا، واحتلت واشنطن العاصمة، واحرقت البيت الابيض بعد ان هرب منه الرئيس جيمس ماديسون، وانقذت زوجته دولي، قطعا فنية نادرة عندما حملتها معها. ولم تنسحب القوات البريطانية الا بعد مقاومة اميركية باسلة. وكانت معركة «قلعة ماكهنري»، في ولاية ماريلاند، هي المعركة الفاصلة، شاهدها فرانسيس كي (كان محاميا في واشنطن، وتطوع في المقاومة)، وكتب قصيدة مطلعها: «قل هل ترى، مع ضوء الفجر الباكر، كيف رحب بنا في آخر وميض الشفق؟ من هو صاحب الشرائط العريضة والنجوم البراقة (في العلم الاميركي) التي ترفرف ببسالة خلال القتال المميت الذي شاهدناه فوق القلعة؟ عندما اكد، خلال الليل، وهج الصواريخ الاحمر، والقنابل التي تنفجر في الهواء، ان علمنا لا يزال مرفوعا. قل ألا يرفرف علم النجوم فوق ارض الاحرار ووطن الشجعان؟»

كلام في الفخر والحرية

وهكذا، تأثر الشعر الاميركي بعاملين رئيسيين: الثقافة الاوروبية التي جاءت مع المهاجرين الاوائل، والنزعة المسيحية الواضحة في الحياة الاميركية. ومال هذا الشعر الى تقديس اميركا وحريتها وجمالها. فقد كتبت كاثرين بيتز، سنة 1919، قصيدة «اميركا الجميلة» (التي اصبحت النشيد الوطني). وجاء في اول مقاطعها: «ايتها الجميلة. ذات السموات الواسعة. وامواج القمح الصفراء. وعظمة الجبال البنفسجية. فوق سهول البرتقال. اميركا، اميركا، ليصب الله نعمته عليك». وكتب جون ماغي، شاعر وطيار حارب في الحرب العالمية الثانية سوناتا «تحليق عال» (كانت قصيدة الرئيس رونالد ريغان المفضلة). وجاء فيها: «الى اعلى، الى اعلى، نحو السماء الزرقاء. تسلقت الجبال برشاقة وخفة. حيث لا يطير نسر ولا صقر. ووجدت معبدا في الفضاء، ورفعت يدي نحو الله».

استثمار في الشعر

بعد اسبوعين من تبرع بليونيرة مصانع الادوية بمائتي مليون دولار لمجلة "بويتري" لإحياء الشعر، اختار رئيس تحريرها رجل الاعمال جون بار، ليرأس لجنة تصرف المائتي مليون دولار لاحياء الشعر. لكن، لماذا رجل اعمال؟

صحيح ان بار نشر ستة دواوين شعرية، لكن لم يكن الشعر مهنته. ولم يخيب بار توقعات الذين انتقدوه، وأصدر بيانا قال فيه: "لم يمت الشعر الاميركي، لكنه يتجه نحو الموت. هناك ركود ثقافي في وطننا، والسبب هو ان الشعر لا يساير العصر. هذا عصر الترفيه، واللهو، والمتعة. ألا يشاهد الشعراء الافلام والفيديوهات؟ الا يتابعون اخبار الممثلين والممثلات؟ الا يعرفون ان الاميركيين يريدون كل شيء سهلا وسريعا؟" وقال بار انه سيشجع الشعر الترفيهي. وثارت عاصفة كبيرة. وسارع سيدني ويد، رئيس اتحاد الكتاب الاميركيين، وقال: يدعو مثل هذا الكلام الى الضحك. عبر التاريخ، لم يؤلف الشعراء القصائد للترفيه عن الناس. ثم، ما هي القصيدة الترفيهية؟"

هل هي قصيدة شبه اباحية، او اباحية؟ قصيدة شبه جنسية او جنسية؟

رد بار، رجل الاعمال الذي يريد ان "يستثمر في الشعر": "المشكلة هي استعلاء الشعراء. يعتقدون انهم احسن من كتاب الروايات، واحسن من الصحافيين لانهم يكتبون كتابة معقدة، ولانهم يسيطرون على اللغة، ولانهم يلعبون بالكلمات والعبارات." واضاف: "صحيح انهم يعرفون اللغة اكثر من غيرهم، لكنها فقط لغة الشعر."

أربع زوجات وجنازة

قبل سنتين، صدر فيلم "اربع زوجات وجنازة"، واستغرب كثير من الاميركيين لأن في الفيلم قصيدة طويلة (ربما كانوا ظنوا ان الشعر مات). وفي الحقيقة، اشتهر الفيلم لاسباب، منها هذه القصيدة. اسم القصيدة "احزان جنازة"، وألقتها ارملة في المقابر حزنا على زوجها. ومن ابياتها: "اوقفوا الساعات. اقطعوا اسلاك التلفونات. امنعوا الكلاب من ان تنبح. ارموا لها عظاما. لا اريد النجوم. امسحوها. ارموا القمر بعيدا. اطفئوا الشمس. جففوا مياه المحيطات. اوقفوا المرور. ضعوا شريطا اسود على ذراع الجندي. اجمعوا المعزين. احضروا الكفن. كان شمالي، وكان جنوبي، وكان شرقى، وكان غربي. كان ايام عملي، وكان ايام عطلتي. كان شمسي، كان قمري، كان كلامي، كان اغنيتي. اعتقدت ان الحب يعيش الى الابد. اخطأت. لا فائدة من اي شيء." وهكذا، اصبحت هذه اشهر قصيدة اميركية حديثة. ليس لانها احسن، ولكن لأنها عرضت في فيلم ترفيهي. لم تكن قصيدة ترفيهية، لكن الفيلم ترفيهي، ويبدو ان الناس، لهذا السبب، تذكروها، ورددوها.

نهاية الشعر؟

كانت مجلة "بويتري" قد اجرت، قبل سنتين، استفتاء اوضح ان تسعين في المائة من الاميركيين لا يعرفون من هو بايرون (ربما اشهر شعراء بريطانيا)، ومن هو اليوت (ربما اشهر شعراء اميركا). وقالت نفس النسبة انها لم تقرأ قصيدة منذ حصص الشعر في المدرسة الثانوية. وقالت نفس النسبة انها ليس متأكدة من ان الشعر شيء هام في الحياة. وقالت دانا جيونا، رئيسة وقف الفنون والاداب الحكومي: "كانت كل جريدة تنشر قصائد في ملحقها الادبي الاسبوعي. وكان يوم ميلاد شاعر مشهور مثل عيد وطني." وقال كرستيان ويمان، رئيس تحرير مجلة "بوتيري"، ان هناك اكثر من سبب:

اولا، شهد القرن العشرين بداية الحداثة، وشهد، في نفس الوقت، نهاية الشعر التقليدي.

ثانيا، اختلف الناس حول ما هو الشعر: هل هو ادب او فن؟ قتلوه وهم يتجادلون حول معناه.

ربما بار، الذي يريد الاستثمار في الشعر، على حق. ينتقد الشعراءَ عددٌ كبير من الشعراء انفسهم.

وكتب، مؤخرا، تيد بيسون، من شعراء الكونغرس، كتاب "ورشة تصليح الشعر"، قال فيه: "الشعر تواصل، والهدف منه الوصول الى الناس. لكن، كثيرا من الشعر معقد وصعب حتى صارت صورة الشعر هي التعقيد والغموض، وصارت قراءته شيئا يخيف بالنسبة لكثير من الناس. لماذا لا يكتب الشعراء عن أناس يعيشون معنا؟ عن ذبّاح دجاج في مزرعة للدواجن؟ عن حمال طوب في عمارة تشيد؟ عن استاذ فلسفة يدرس تلاميذه؟"

ربما يكون هذا هو الشعر الترفيهي المطلوب.

تعليق ديوان العرب: متى يغار الأغنياء العرب فيتبرعون لديوان العرب، ما يساعدها في تطوير مشاريعها وترجمتها على أرض الواقع؟ ألا يوجد بيننا ولو روث للي واحد؟؟
واشنطن: محمد علي صالح

عن الشرق الأوسط


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى