السبت ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٩
بقلم إسماعيل هشام عدرا

27مارس

موعدنا يوم 27مارس، فأعد نفسك لتكون رفيقنا في سريتنا...

استفاق أخي الضابط من نومه، يحملق في ما حوله، بعينين راعشتين وقلب واجف، ثم ردد:

موعدنا في 27مارس.. فأعد نفسك لتكون رفيقنا..

بلى.. هذا الموعد الذي حدده لي العقيد المتوفي( فراس) لينقلني إلى سريته.

وقلق أخي لهذا الحلم.. وقصّه عليّ في اضطراب بادٍ، وكان كأنه يبحث عن الطمأنينة لديّ، ويستعين بي على تحليل هذه الرؤى المزعجة.. ولم أزد على قولي له:

ـ إنه أضغاث أحلام!..

ومرّت الأيام.. بل الشهور، وزارنا أخي، مجازاً، لعدة أيام في بلدتنا.. كان أخي في العقد الرابع من العمر، يمتلئ قوة وحيوية وصحة، وكنت أنتقل معه من زيارة صديق لزيارة آخر، ولكن ثمة شيئاً كان يميز أخي، ويترك آثاره الغامضة في نفسي.. فقد كان يفيض بالدعابة المرحة، والنكتة اللاذعة، على غير ما اعتدنا عليه، ويقهقه لأفتر كلمة، أو يعبس ويتجهم لأتفه سبب، ويكتئب ويغتم، حتى بدون مبرر!

وما برح يقلقني ويعصف في نفسي، حتى سألته عن هذا الطارئ الجديد الذي أحال حياته مرحاً.. وانغماساً في الدعابات؟!..

ووجم أخي للسؤال، لكنه ما عتم أن قهقه وقال:

ـ أو تراني أضحك كثيراً؟!

وأجبته:

ـ لأتفه سبب، ولولا الغضاضة، لقلت أنك تضحك بلا سبب.

وضجّ بالضحك لهذا الحكم وأخذ يتندر به ويرويه لزائريه باستمرار.. ويتهمني، ضاحكاً، أنني جردته من التأدب، جرياً على قاعدة: الضحك بلا سبب، من قلّة الأدب!!

وأعترف أنني برمت بأخي، وكدت أحكم عليه بالهذر والرعونة والاستخفاف، بيد أنه كان في بعض ساعاته صافياً، عادياً، فأنكفئ لأبقى في قلقي وحيرتي وتبرمي.

ـ ما أسرع الزمن!.. بعد ثلاثة أيام تنتهي مدة إجازتي، وأبرحكم.. قال أخي ذلك، وأطرق إلى الأرض ثوانٍ، ثم استأنف القول:

ـ من يعلم؟!.. قد يباعد الزمن بيننا، أو قد أرحل عنكم إلى الأبد.. أليس كذلك؟..

وهزني هذا التساؤل المر، وكدت انهار فأستسلم لتصورات سيئة، خاصة وأنني لمحت في عينيه الشفافتين دمعاً يجول في محجريهما، وفي حلقه غصة بادية، تحشرجت معها آخر كلمة من كلماته.

ولم أفسر هذه الظاهرة أكثر من شبوب عاطفة في لحظة وداع ، لكني عقبت على هاجسي:
ـ نفترق إلى الأبد؟!.

أخذ أخي يرمقني بنظرات طوراً وطوراً يرنو إلى اللامحدود فلحظت أطيافاً من اعتمال نفسي محموم ومن تصورات قاتمة ترتسم على وجهه، فتنعكس اصفراراً واربداداً، وتارة أنيناً مكبوتاً، فراعني حاله وحملته على أن يستلقي على سريره، ففعل.. إلا أن أنينه تعالى، وتفصدت جبهته بقطرات باردات من العرق وأخذ يشكو من ألم مبرح، ينتاب قلبه، فيما كنت أهدئ من هواجسه وخاطره، وأطمئنه إلى أن عارضاً من الألم، عابراً، قد انتابه ولن يلبث أن يتلاشى.
وتفاقم المرض، واستدعينا الطبيب على عجل، ليطلع بنتيجة:

ـ أخوك مصاب بضغط في شرايين القلب!..

ـ!!..

ـ ما كنت أحسب بادئ بدء، هاتيك التصورات إلا هذراً أو هذياناً .. أما الآن فلا مفر من مواجهة الحقيقة.. إننا وجهاً لوجه مع الخطر.

وكتب الطبيب وهو يغادر المنزل الوصفة الطبية واضعاً تاريخها:

27مارس!

كدت أصرخ في وجه الطبيب: لا.. ليس اليوم 27مارس، أنت مخطئ يا دكتور، ولكن التقويم المعلق فوق رأس أخي، المسجى على السرير، صفعني بالواقع القاسي..

ـ آه.. إذاً.. لم تكن:" قد يباعد الزمن بيننا، أو قد أفارقهم إلى الأبد" تصورات هاذية كما حسبتها، وكما فسرتها.

27مارس!..

الهزيع الأول من الليل قد انقضى، حين صرخ أخي متألماً، وقد أغمض عينيه:

لا.. لا.. لا أوافق.. لا أريد أن أنقل....

وتنبهت لخطوط المأساة تمتد إلى قلبي تنتزع أخي بلا رحمة.. وهمست لنفسي والألم يعترم كياني:

ـ إذاً فالموعد قد دنا: والحلم قد أصبح حقيقة..

وارتعش أخي من جديد بعنف وقوة، وعيناه ما تزالان مغمضتين:

ـ لا.. قلت لكم أني لا أوافق.. أنا هنا... لا أريد أن أنقل..

وافتتح عينيه، وقد شعّ منهما بريق الموت، وامتدت معالمه إلى سائر أنحاء جسمه..

ـ أخي.. عهدي بك شجاعاً يا أخي.. أبهذه السهولة تستسلم لليأس..؟.. ثمّة ضغط خفيف في شرايين القلب، لا يعتم أن يزول..

كانت عيناه لاتهدأان في حركتهما القلقة المرتعشة واختلاجات قاسية، تهز جسمه هزاً مؤلماً، وقطرات العرق، ما تبرح يتفصد به جبينه الذي آل إلى كمود كالح حزين، وصدره يعصف بلا ثوانٍ..

سألتني أختي، وهي تكفكف دموعاً غزاراً:

ـ نبّه أخاك إلى أن يرفض الرواح مع هؤلاء.. حثّه على التمسك بالبقاء حيث هو..

كدت أفتر عن ابتسامة استهجاناً لهذه الأفكار، ولكن لم لا يكون لها بعض الفائدة؟.. بيد أنني أخذت أردد:" إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون"!..

ومزّق أفكاري وحيرتي صراخ أخي، عقب غيبوبة قصيرة:

لا.. قلت لكم أنني أرفض الانتقال.. أرفض.. أرفض.. أخي.. أخي.. أنجدني إن العقيد فراس يصر على أخذي.. على نقلي.. إنه يستعين بجنوده.. آه.. ابتعد عني يا رجل.. سأشكوك للأركان..

بالله!.. أي شيء أستطيع ان أعمله؟!.. وكيف أمنع "العقيد" من أخذك وأين هو العقيد؟!.. رحماك يا أخي.. هذا كل دفاعي عنك!..

ـ قلت لكم لا.. لا أوافق... بلى. . وعدتكم .. ولكنني.. نعم لا أفي بوعدي.. كلا..

ـ لا تخف أخي.. أحذرّك من أن تستجيب لهؤلاء.. ارفض طلبهم.. وإن عادوا فلسوف أصوب عليهم مسدسي.. فإذا لم يرتدوا فسوف أرديهم.. تشجع.. لاتهن..

الارتعاشات هي هي.. واختلاجات صدره القلق ما تبرح في عنفها وقسوتها، وعيناه تغتمضان طوراً، وتنفرجان عن دموع لافحة ثرّة طوراً آخر، وجبينه الذي استحال إلى سحابة مكفهرة، يخالجها ضباب أربد ورذاذ حار، يوحي إليّ بأشياء يستحيل على المرء استشفاف كنهها...

كان الهزيع الأخير من الليل قد تدفق مسرعاً، يتعثر بدموع أفراد الأسرة وقد تبعثر أفرادها في أنحاء شتّى من منزلهم، وهم بين باكٍ، وجاث، وناحبة، وضارعة، وقانط ومؤمل.. حين افترت شفتا أخي عن ابتسامة مطمئنة، وراح يحدق في ما حوله وهو يردد ببطء:

أخيراً اقتنع العقيد بألّا أمل في نقلي.. فهمس بشيء لرجاله الذين تداعوا لإكراهي على تلبية أمر رئيسهم، ومن ثم استداروا بعواطف مهتاجة، واختفوا.. أه حمداً لله..

ورددنا معه جميعاً: حمداً لله...

شيء ظل مستقراً في ذهنية أخي، حين كان مسجى على سرير الاحتضار ولم يرد على لسانه هو( 27مارس)!!..

انتهى


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى