السبت ٢٢ تموز (يوليو) ٢٠١٧
بقلم عمرو صابح

65 عاماً على ثورة 23 يوليو 1952.


أنا لست هنا عن طريق الحكم ولكن عن طريق الثورة
الحكم هو البحث عن الذات والثورة هى البحث عن الشعب
وأنا اخترت طريق البحث عن الشعب .. طريق الثورة
أنا اخترت طريق الشعب .. طريق الثوار وهو الطريق الصعب.
جمال عبد الناصر

22 يوليو 1952
ضابط شاب فى الرابعة والثلاثين من عمره ، يحمل رتبة مقدم أركان حرب بالقوات المسلحة المصرية ، ويعمل كمدرس لمادتي الإستراتيجية والتاريخ العسكرى بالكلية الحربية ، تم تكريمه كأحد أبطال حرب فلسطين عام 1948 ، لبسالته فى القتال ودوره البطولى أثناء حصار الجيش المصري فى الفالوجة ،متزوج ولديه أربع أطفال – لم يكن قد أنجب أبنه الأصغر عبد الحكيم بعد- يمتلك مسكناً محترماً وسيارة حديثة ولا يعانى من أى مشاكل حياتية أو مادية على الإطلاق.

بكل المقاييس كان الضابط "جمال عبد الناصر" ، يعيش حياة مستقرة ، ولو لم يفجر الثورة بعد هذا التاريخ بيوم واحد، وانتظم فى المسار الطبيعى لعمله لأصبح بعد عدة سنوات لواء بالجيش المصري ، يحمل رتبة الباشاوية ، ولعاش حياة مرفهة يتمتع فيها بكل مزايا منصبه.
إذا فما الدافع الذى جعله يؤسس تنظيم سري لقلب نظام الحكم فى وطنه ، مادام لا يُعانى من شئ؟!

فى مذكرات زوجته السيدة "تحية كاظم" ، قد نجد بعض الإجابات ، على امتداد صفحات المذكرات المكتوبة بعفوية وصدق ، نلاحظ ان جمال عبد الناصر قبل الثورة ، لديه إحساس طاغى بآلام المجتمع ، وبالظلم الطبقى السارى فيه.

تحكى السيدة تحية فى مذكراتها ، واقعة تمت قبل ميلاد ابنهما خالد ، عندما قرر الطبيب الذى يتابعها خلال فترة حملها زيادة ثمن أتعابه بصورة لا يستطيع المواطن العادى وقتها تحملها ، وعندما يعلم جمال عبد الناصر بذلك يغضب ويقول لتحية:
نحن نستطيع تحمل الزيادة ، ولكن ماذا يفعل الفقير هل يموت لعجزه عن العلاج ودفع ثمن الدواء؟!

وفى مكان أخر من المذكرات ، تقول السيدة تحية أنها قبل الثورة ، وبعد علمها ببعض مما يخطط له زوجها تسأله:
لماذا تفعل كل ذلك ؟ فنحن لا نعانى من شئ ، وأخشى أن يفشل سعيك فأتشرد أنا وأولادك ويضيع مستقبلك.
فيرد عليها جمال عبد الناصر: بأنه لم ولن يكون فى يوم من الأيام أنانياً منشغلاً فقط بمستقبله ومستقبل أبناءه ،بينما يعانى أبناء وطنه الفقر والحرمان.
فى مذكرات صلاح الشاهد مدير المراسم برئاسة الجمهورية "ذكرياتى بين عهدين"، نقرأ الواقعة التالية:
وصلت لصلاح الشاهد ذات يوم حقيبة مليئة بالحلي والمجوهرات ، هدية للرئيس جمال عبد الناصر من ثري عربي ، وقد رفض الرئيس قبولها وطالب صلاح الشاهد بإرجاعها لصاحبها ، وإبلاغه رفض الرئيس تلقى هدايا ، وعندما يعيدها الشاهد للثري العربي يرفض ويلح فى أن يقبلها الرئيس الذى يغضب، ويقول لصلاح الشاهد:
"لقد كنت أحيا حياة كريمة قبل الثورة،ولم يكن ينقصني شئ ، ولم أقم بالثورة لأمتلك المجوهرات والأموال ، إن بإمكاني الآن مضاعفة راتبي عشرات المرات ، ولكنى لن أفعل ذلك لأن لدى مبادئ وحلم أريد تحقيقه لحساب الجميع ، وليس لحسابي الشخصى أو حساب أسرتى."
هذه الوقائع وغيرها كثير قد تمثل مفاتيح لفك ألغاز شخصية جمال عبد الناصر تلك الشخصية المتفردة بالغة العمق والتعقيد فى تاريخنا العربي كله.
امتلاك حلم للجميع ،الزهد فى متع الحياة الزائلة ، التجرد والعمل بإخلاص لخدمة ما يؤمن به من أهداف ، الطموح والقدرة على التحدى، تلك الطاقة النفسية الهائلة على اجتياز الآلام وتخطى الصعوبات ،الرغبة الدائمة فى تحقيق المزيد من النجاحات ،اليقين بقدرات الشعب المصري وبإمكانات مصر كقوى كبرى.

شكلت تلك الصفات ملامح شخصية جمال عبد الناصر وصبغت فترة حكمه التى حفلت بالتحديات وبالمعارك المتواصلة دفاعاً عن استقلال مصر وحرية إرادتها لذا تظل فترة حكم جمال عبد الناصر حقبة استثنائية فى التاريخ العربي الحديث ،فيها كنا على موعد مع التاريخ وبعدها وبالانقضاض على مبادئها خرجنا من التاريخ.

65 سنة تمر تلك الأيام على قيام ثورة 23 يوليو 1952 ، التى حكمت مصر خلال الفترة من 23 يوليو 1952 حتى 7 نوفمبر 1973 ، يوم لقاء الرئيس السادات بوزير الخارجية الأمريكى وتعهده له بتصفية الثورة وتركة جمال عبد الناصر ، وهو ما نفذه السادات وخلفاءه بالفعل ، لذا يمكننا التمييز بين سياسات الجمهورية الأولى التى حكمت مصر، فى الفترة من اندلاع ثورة 23 يوليو 1952 حتى لقاء السادات بكيسنجر فى 7 نوفمبر 1973 ، وسياسات الجمهورية الثانية التى دشنها الرئيس السادات منذ 7 نوفمبر 1973 ، والتى مازالت تحكم مصر حتى الأن.

بمقاييس الزمن عاش عبد الناصر حياة قصيرة ، فقد رحل عن 52 عاما و 8 أشهر و 13 يوما ، ظهر فيها على مسرح التاريخ حاكماً لمصر لمدة 18 عاما مثلت فصلا استثنائيا فى التاريخ العربى كله . 
رحل عبد الناصر ولم تكتمل رسالته ، وبعد وفاته انقضت قوى الاستعمار العالمى متحالفة مع ذيولها من قوى الثورة المضادة والرجعية العربية على وطننا العربى لبتر تجربته ، والقضاء على نتائجها و تشويه ذكرى الثورى الفذ
الذى تركنا و نحن فى أشد الحاجة إلى صموده وصلابته وبعد نظره فى مواجهة قوى الهيمنة العالمية ، التى لا ترى الوطن العربى إلا كمصدر للبترول وسوق لتصدير منتجاتها .
رفض عبد الناصر أن يكون وكيلا للمصالح الامبريالية الأمريكية ، لم يبادر أمريكا بعداء ، بل كان كل حلمه أن يضمن استقلال وتنمية الوطن العربى من أجل مصالح الشعوب العربية ، وليس لصالح الإستراتيجية الأمريكية العالمية .
نبعت خطورة مشروع وتجربة عبد الناصر من وجوده فى مصر أكبر وأهم قطر عربى يستطيع التأثير فى مصير الوطن العربى والعالم الثالث والعالم كله ، لذا شنت القوى الاستعمارية حروب ضارية ضد عبد الناصر و ثورته ومشروعه النهضوى وأفكاره فى حياته وبعد وفاته وحتى الآن .

أثبتت انتفاضات الربيع العربي بُعد نظر جمال عبد الناصر ، وجذرية أفكاره خاصة فى الحالة المصرية ، فلولا قيادته للثورة فى 23 يوليو 1952 ، ولولا مواقفه الحاسمة خلال أزمة مارس 1954 ، لفشلت ثورة 23 يوليو ولتحولت لمأساة كما حل بانتفاضة 25 يناير 2011 بمصر ، لذا بدون أى تحيز إيديولوجي ، ثورة 23 يوليو 1952 هى الثورة الوحيدة فى التاريخ العربي الحديث التى تستحق مسمى الثورة ، وتنطبق عليها المعايير العلمية لمعنى كلمة "ثورة"، فقد استطاعت تغيير المجتمع بالكامل وعلى كل الأصعدة تغييراً جذرياً ، ولم يكن هذا ليتحقق لولا وجود جمال عبد الناصر الثورى الفذ الذى رسم خريطة طريق حولت الانقلاب العسكرى الناجح لثورة شاملة.
إن مسار ثورة 23 يوليو 1952 ، ورؤية عبد الناصر الإستراتيجية لمصير مصر المرتبط بمصير الأمة العربية كلها، يحتاج منا لمراجعة فى ظل التخبط والفشل الذى أصاب انتفاضة 25 يناير 2011 فى مصر .

فى فجر يوم 23 يوليو 1952 ، يفجر جمال عبد الناصر الثورة المصرية، فالضابط الشاب الذي حارب في فلسطين عام 1948 ، وحوصر في الفالوجة، عاد من الحرب ساخطا على الأوضاع السياسية في وطنه وفى الوطن العربي كله، عاد حالما بقلب تلك النظم الحاكمة المفلسة والعميلة ، والتى رأى أنها صنعت الهزيمة قبل أن تنتصر إسرائيل فعلا على أرض المعركة ، وتغتصب 78% من مساحة فلسطين.

لمس جمال عبد الناصر مأساة فلسطين على الأرض عن قرب ،وأدرك الهدف الحقيقى من زرع إسرائيل في قلب العالم العربي ، وأيقن أن أمن مصر القومى موجود خارج حدودها ، لذا عندما كتب كتابه الشهير ( فلسفة الثورة ) ، حدد الدوائر التي سوف تتحرك من خلالها السياسة الخارجية المصرية من خلال الدائرة العربية ثم الدائرة الأفريقية ثم الدائرة الإسلامية.

ومن خلال العمل عبر تلك الدوائر ، وأولها الدائرة العربية حدد جمال عبد الناصر هوية وانتماء مصر العربي ، وعقب استقرار الأمور للرئيس جمال عبد الناصر على الصعيد الداخلى في مصر قام بتكليف أجهزته بدراسة أوضاع الوطن العربي ، ووضع الخطط لتحريره من الاستعمار ، إيمانا منه أن حرية العرب من حرية مصر ، وأن استقلال مصر سيظل منقوصا طالما لم تتحرر كل الدول العربية.
عندما قرأ دافيد بن غوريون مؤسس إسرائيل كتاب (فلسفة الثورة) لجمال عبد الناصر، قال أن هذا الكتاب أسوأ من كتاب (كفاحي) لهتلر، لأن قيام النظام الجديد في مصر بدور قيادي نشط في الوطن العربي سيدفع بالأمور تجاه الحرب مع إسرائيل.

يبرز الوجه العربي الصرف لمصر الثورة التي تدعم وتساعد كل حركات التحرر العربية ماديا وإعلاميا ، وتخوض حرب ضروس ضد قوى الاستعمار القديم في الوطن العربي، فتقود إذاعة "صوت العرب "- التى أفتتحها عبد الناصر فى 4 يوليو 1953 – شعلة تحرير الوطن العربي كله ، فتنفجر ثورة الجزائر عام 1954 في وجه فرنسا ، وتخوض مصر حرب ضروس ضد حلف بغداد في نفس العام، وعندما ترفض الولايات المتحدة الأميركية طلب الرئيس عبد الناصر منها تسليح الجيش المصري، يكسر الرئيس عبد الناصر احتكار الغرب للسلاح ، ويعقد أول صفقة سلاح مع الاتحاد السوفيتي عام 1955 ، مما يجعله في أعين الجماهير يبدو كبطلها وأملها في التحرر و الوحدة واللحاق بالعصر، وعندما ترفض الولايات المتحدة مساعدة مصر في تمويل السد العالى ، ينتهز الرئيس عبد الناصر الفرصة ليحقق حلمه بتأميم شركة قناة السويس، ليضرب بسيف البطل بين عيني الطغاة ، ويكرس مكانه إلى الأبد في التاريخ كثائر أممي ضد الاستعمار، وبصمود الشعب المصري بقيادة الرئيس عبد الناصر أمام العدوان الثلاثى عام 1956 ، والدعم العربي لمصر أثناء العدوان، تخرج مصر منتصرة من تلك الحرب ، وتتعزز مكانة الرئيس عبد الناصر في مصر وفي الوطن العربي ، ويوقن العرب أن عهدا جديدا قد بدأ ، وأن بطلا تاريخياً قد ظهر على مسرح التاريخ.

 كانت سورية أول بلد عربى يستقل بعد الحرب العالمية الثانية ، وكانت هى مهد الحركة العربية ومنبت القومية العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر في مواجهة عنصرية الحكم التركى الذي قادته حكومة الاتحاد و الترقى في العقد الأول من القرن العشرين، وكانت سورية هى مركز الثورة العربية الكبرى خلال الحرب العالمية الأولى تلك الثورة المظلومة تاريخيا التي ركب الهاشميون موجتها ، وأجهضوا أهدافها من أجل ضمان حصولهم على عروش لهم، ورغم فشل الثورة وتمزيق سورية الكبرى إلى أربع دول (سورية، لبنان، الأردن، فلسطين) ، إلا أن فكرة القومية العربية وتوحيد سورية ظلت حلما وغاية يسعى لها القوميون العرب.

فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى ، بدأ حزب البعث في سورية يشجع الوحدة مع مصر ، ويرى في عبد الناصر أمله المنتظر في تحقيق أهداف الحزب القومية في سورية وفى الوطن العربي، فهو أول حاكم مصرى في التاريخ يتبنى القومية العربية ، ويدعو للوحدة العربية مدعوما بكل إمكانيات مصر كقطر قاعدة يمثل أهم وأقوى الأقطار العربية الكفيلة بنجاح الوحدة العربية ، كما أنه يمتلك رصيدا من الانجازات عند الجماهير العربية على امتداد الوطن العربي كله .
تضافرت كل تلك العوامل لتفرض السؤال الملح ، ما الذي يعوق الوحدة بين مصر وسورية؟، خاصة أن سورية وقعت منذ استقلالها في دائرة الانقلابات المتتالية المدبرة خارجيا من أجل السيطرة عليها، وبعد الخلاص من حكم أديب الشيشكلى ، اتخذت الحكومة الوطنية التي تكونت في سورية موقف مؤيد على طول الخط لسياسات عبد الناصر، ولعب الضباط السوريون من ذوى الاتجاه القومى العروبى بقيادة عبد الحميد السراج دورا بارزا في مساعدة مصر أثناء العدوان الثلاثى بنسفهم لخط أنابيب البترول ، الذي يمر عبر سورية حاملا البترول إلى أوروبا، وأصبح واضحا لكل القوى الطامعة في المنطقة أن هناك محور مصرى سورى مناهض للغرب وعملاءه ، يناهض حلف بغداد ، ويخرج منتصرا من حرب السويس ، ويعمل على إفشال مبدأ إيزنهاور لملء الفراغ في المنطقة بعد هزيمة الاستعمار القديم، لذا يبدأ التخطيط الأميركى للسيطرة على سورية الحلقة الأضعف في المحور المصري السورى ، وتدبر المخابرات الأميركية انقلابا في الأردن يطيح بحكومتها الوطنية كخطوة أولى للإطاحة بالحكومة الوطنية في سورية، وتحشد أميركا كل حلفاءها في المنطقة عبر خطة محكمة يقودها ضابط المخابرات الأميركى هندرسون لترتيب الانقلاب في سورية، وتتجمع القوات المسلحة التركية على الحدود السورية والقوات المسلحة العراقية على الحدود السورية انتظارا لإشارة البدء بغزو سورية، وعندما يطلب السوريون مساعدة مصر ، يقرر الرئيس عبد الناصر إرسال أسطول مصرى يضم بضع ناقلات للجنود وثلاث مدمرات ، يصل إلى ميناء اللاذقية السورى في 13 أكتوبر 1957 ، لحماية استقلال سورية .

تعالت الأصوات في سورية المطالبة بالوحدة مع مصر، ورأى قادة البعث الرئيس عبد الناصر كأنه (بسمارك العرب) الذي يملك القوة والشعبية الكفيلة للبعث بإحكام سيطرته على سورية، وساعد في ذلك عجز أجنحة الجيش السورى المتصارعة على الاتفاق على زعامة تتولى أمور سورية، مما جعل قيادات حزب البعث تشجع الضباط السوريين في مسعاهم للوحدة الفورية مع مصر.
وفى ليلة 11-12 يناير 1958 ، توجه إلى القاهرة 14 ضابطا يمثلون كل مراكز القوى في الجيش السوري ، يحملون معهم مذكرة وقع عليها جميع أعضاء المجلس العسكري السوري تطالب بالوحدة الفورية.

رفض الرئيس عبد الناصر الاستجابة لطلب الضباط السوريين ، إلا إذا طلبت الحكومة السورية الشرعية والرئيس السورى شكرى القوتلى منه الوحدة.
فى يوم 16 يناير 1958 ، يعود الضباط السوريين وبصحبتهم قطب حزب البعث ووزير الخارجية السورى صلاح البيطار ليعلن أمام الرئيس عبد الناصر:
(إن الحكومة السورية تريد إتمام الوحدة كمطلب شعبى وقومى دائم، وكطريق لا بديل غيره إلى استقرار سورية).
وافق الرئيس عبد الناصر على قبول الأمر مبدئيا ولكنه وضع ثلاثة شروط لقبوله الوحدة الفورية :
1ـ أن يتم إجراء استفتاء شعبى على الوحدة في مصر و سورية، حتى يقول الشعبان المصري و السورى رأيهما في الوحدة ويعبرا عن إرادتهما الحرة.

2ـ أن يتوقف النشاط الحزبى السورى، وأن تقوم كل الأحزاب السورية دون استثناء بحل نفسها.
3ـ أن يتوقف تدخل الجيش السورى في السياسة توقفا تاما، وأن ينصرف ضباطه إلى مهامهم العسكرية ليصبح الجيش أداة دفاع و قتال، وليس أداة سلطة و سيطرة، هذا يعنى خروج كل قادة الكتل السياسية في الجيش وفى مقدمتهم أعضاء المجلس العسكرى من الخدمة العسكرية، وتفرغهم للعمل السياسى.
ورفض الرئيس عبد الناصر أى تفاوض حول تلك الشروط التى تعنى أن الوحدة مطلب شعبى جماهيرى وليس نخبوى سلطوى ، كما أنها تفرغ الساحة السياسية السورية من الأحزاب التي سببت القلاقل داخليا وخارجيا في سورية، كما أنها تعزل الضباط السوريين المسيسين عن مصادر قوتهم في الجيش، وتجعل من الرئيس عبد الناصر صاحب الكلمة الأولى و الأخيرة في دولة الوحدة.

وافق قادة حزب البعث على شروط الرئيس عبد الناصر على أمل أن يسيطروا على (الاتحاد القومي) التنظيم السياسي الوحيد لدولة الوحدة ، ويكونوا هم القوة المحركة له في ظل خلو الساحة من الأحزاب الأخرى، خاصة أنهم مهندسو الوحدة، وبأمل أن تكون لهم الأفكار وللرئيس عبد الناصر الزعامة، وقد خاب مسعاهم في ذلك لأن الرئيس عبد الناصر كان أكثر منهم ذكاء، وكانت رؤيته لدولة الوحدة تمنع وجود أى مركز قوى داخل التنظيم السياسى أو داخل السلطة السياسية يمكن أن ينازعه قراراته أو يشكل قيدا على حركته.

كان الشعب السورى متقدا بالحماس للوحدة، وشكلت إرادته وحبه للرئيس عبد الناصر قوة ضاغطة على السياسيين و العسكريين في سورية.
وفى 1 فبراير 1958 أعلن عن الاتفاق على أسس الوحدة بين مصر و سورية، وفى يوم 5 فبراير 1958 عقد مجلس الأمة المصري اجتماعا في القاهرة، كما عقد مجلس النواب السورى اجتماعا في دمشق، قرر كل مجلس في اجتماعه الموافقة على طرح أسس الوحدة في استفتاء عام يجرى يوم 21 فبراير 1958 مع ترشيح جمال عبد الناصر رئيسا لدولة الوحدة التي حملت أسم (الجمهورية العربية المتحدة)، وتم الاستفتاء في موعده المحدد ، وجاءت نتيجته كاسحة لصالح الوحدة ورئاسة جمال عبد الناصر للجمهورية العربية المتحدة، ويوم 24 فبراير 1958 ، يصل الرئيس عبد الناصر إلى دمشق لأول مرة في حياته ، ويستقبله الشعب السورى استقبالا أسطوريا في مشهد غير مسبوق في التاريخ، حيث زحف ملايين السوريين واللبنانيين والفلسطينيين لرؤية الرجل الذي تعلقت به قلوبهم، ورأوا فيه السبيل إلى تحقيق مطامحهم وأمالهم.

كان ما حدث مثارا لقلق كل النظم العربية والإقليمية التي نظرت بعين الريبة إلى ما اعتبرته توسعا مصريا بقيادة جمال عبد الناصر يسعى إلى خلق إمبراطورية مصرية، فقد أبدى الملك السعودي سعود بن عبد العزيز رفضا قاطعا للوحدة بين مصر و سورية لأنه رأى فيها تعاظما لنفوذ مصر الإقليمي والدولي ، لذا حاول إفشال الوحدة عبر تدبير مؤامرتين لاغتيال الرئيس عبد الناصر، الأولى عن طريق رشوة العقيد عبد الحميد السراج مدير المكتب الثاني في سورية بمبلغ 12 مليون جنيه إسترليني، وقد جارى السراج المتآمرين وحصل منهم على شيكات بأجزاء من المبلغ المرصود لاغتيال عبد الناصر ، بينما أبلغ الرئيس عبد الناصر بكل تفاصيل المؤامرة، التي أعلنها عبد الناصر للعالم كله من شرفة قصر الضيافة في دمشق أثناء زيارته الأولى لسورية.
وكانت المؤامرة الثانية للملك سعود ، تهدف إلى تفجير طائرة الرئيس عبد الناصر يوم قدومه إلى سورية للمرة الأولى كرئيس لدولة الوحدة، وقد فشلت كلتا المؤامرتين، وتسبب الكشف عنهما في فضيحة سياسية للملك سعود بن عبد العزيز، وسوف يظهر دور الملك سعود فيما بعد في تمويل الانقلاب على دولة الوحدة والتآمر مع الضباط الانفصاليين.

كما أثار قيام دولة الوحدة قلق رئيس وزراء تركيا (عدنان مندريس) ، فيكتب إلى وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس يقول :
(إن الموقف الحالى وتطوراته تدعونا إلى إعادة تقييم الأمور، لقد ذهبت إلى فراشى بالأمس وعلى حدود بلادي الجنوبية ستة ملايين، واستيقظت صباح اليوم لأجدهم قد أصبحوا 36 مليونا).
كما أثار قيام دولة الوحدة حلف شمال الأطلنطى ، فتم عقد دورة طارئة لبحث التغيرات الإستراتيجية الناجمة عن قيام دولة الوحدة، وراح ممثل تركيا في الحلف ينبه الأعضاء إلى خطورة مشروع عبد الناصر حليف السوفيت على الغرب، وقدم ممثل بريطانيا مذكرة عن "التوسع الإمبريالي المصري" ، شبه فيها أطماع جمال عبد الناصر بأطماع محمد على، وأكد فيها أن جمال عبد الناصر يطمح لخلق اتحاد من الجمهوريات العربية تحت حكمه ، يضم أيضا بلدان الاتحاد الأفريقى لكى يسيطر على أهم منطقة إستراتيجية في العالم ويخنق الغرب.
فى أوراق الرئيس الأميركى إيزنهاور نقرأ له هذا التعليق حول قيام دولة الوحدة :
"أنني حتى هذه اللحظة لم أفهم ماذا حدث في الشرق الأوسط ؟، إن كل ما قرأته لم يجعلنى مهيأ للتطورات التي جرت، فهل كنا على علم بها أم أننا فوجئنا مثل الآخرين ؟ لقد كانت سياستنا كما أعرف هى انتزاع سورية بعيدا عن مصر وعزل ناصر بأخذ سعود من جانبه، فإذا نحن نفاجأ بالعكس تماما، ناصر يستولى على سورية بالكامل ثم يقوم هو بعزل سعود أننى أريد تقريرا عن الكيفية التي تم بها ذلك".

وترسل وزارة الخارجية الأميركية توجيه سرى إلى جميع سفراء الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة نصه:
سرى للغاية
توجيه رقم : 2279
تسجيل: 18 أبريل 1958
خاص ولعلم رؤساء البعثات الأميركية في الشرق الأوسط وحدهم
سياسة الولايات المتحدة تجاه الجمهورية العربية المتحدة
  إن وزارة الخارجية الأميركية تؤكد أن الأهداف الأساسية لسياسة الولايات المتحدة في علاقاتها مع الجمهورية العربية المتحدة، باقية من غير تغيير، إنها تؤكد من جديد أن ازدياد نفوذ مصر يتعارض مع القرار المشترك للكونجرس عن الشرق الأوسط، ويؤدى إلى تقوية القومية العربية و يشجع الاتجاهات المضادة للغرب، وبالتحديد الاتجاهات المضادة لأميركا في الشرق الأوسط وفى أفريقيا، ثم هو يؤثر على هيبة حلف بغداد، الذي يعتبر حلقة هامة في شبكة الدفاع عن العالم الحر، ويمس بالضرر موقف إسرائيل و مصالحها، الأمر الذي لا تستطيع الولايات المتحدة أن تتجاهله.
  إن وجود السيطرة على مواصلات نقل بترول الشرق الأوسط إلى أوروبا سواء عن طريق قناة السويس، أو عن طريق أنابيب البترول المتجهة إلى البحر الأبيض تحت السيطرة الفعلية للقاهرة، يعرض المصالح الأميركية في المنطقة لخطر أكيد، فإن ذلك يجعل الجمهورية العربية المتحدة الآن في وضع يمكنها من ممارسة ضغط على الولايات المتحدة و غيرها من القوى الغربية، وهذا الاحتمال يمكن أن يتحول إلى سلاح مخيف في يد الرئيس ناصر. 
  يتحتم علينا أن تظل جهودنا متجهة إلى مهاجمة فكرة الوحدة بين مصر و سورية، ولا يجب أن تتوقف جهودنا لإيجاد فاصل بين البلدين، وينبغى أن يظل ذلك من أبرز أسس سياستنا في المنطقة.

وهناك قوى داخلية تشارك الغرب معتقداته، كما أن هناك قوى خارجية يمكنها في أى لحظة ملائمة أن تتدخل، وينبغى تدعيم هذه القوى من غير كلل، وينبغى أن نذكر دائما أن أي تفسخ في الجمهورية العربية المتحدة لن يقرر فقط مصير مصر تحت حكم ناصر، وإنما سيجعل من السهل محاربة القومية العربية في أى شكل تتخذه في الشرق الأوسط.
 - وسوف تتكلل جهودنا بالنجاح أكثر إذا أمكن عزل الجمهورية العربية المتحدة عن باقى العالم العربي، وبالنسبة لهذه المهمة فإن ممثلى الولايات المتحدة سواء في الأقسام الدبلوماسية أو في أقسام الاستعلامات و الدعاية في العالم العربي عليهم أن ينشروا الاعتقاد العام بأن الجمهورية العربية المتحدة تشكل خطرا على كل الحكومات العربية، وفى البلاد الملكية علينا أن نشرح بقوة أن تدعيم الجمهورية العربية المتحدة قد يؤدى إلى سقوط حكم جميع البيوت الحاكمة، كما أنه في الجمهوريات يمكن بث الخوف من ابتلاع القاهرة لهذه الجمهوريات، كما ينبغى انتهاز كل الفرص لتقوية الاتحاد العراقى الأردنى الذي سوف يستمر في الحصول على تأييد الولايات المتحدة ضد الاتحاد السورى المصري.

وعلى الجانب الأخر فوجئ السوفيت بالطريقة التي تمت بها الوحدة، خاصة وقد تضمنت تصفية لدور الحزب الشيوعي السوري، وسافر زعيم الحزب خالد بكداش إلى صوفيا يوم 4 فبراير 1958 قبل جلسة مجلس النواب السوري - الذي كان عضوا به - للتصويت على قيام دولة الوحدة وانتخاب جمال عبد الناصر رئيسا للدولة، وهاجم بكداش بضراوة دولة الوحدة و الرئيس عبد الناصر بتشجيع من السوفيت المعادين لفكرة القومية العربية.
فى 14 يوليو 1958 ، اندلعت الثورة فى العراق ،لتطيح بالنظام الملكي العراقى ، وتنسف حلف بغداد ، وتهز العواصم الغربية ، لدرجة ان الرئيس الأمريكى إيزنهاور كتب فى مذكراته انه فور علمه بقيام الثورة ، ارتدى ملابسه العسكرية للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التى كان خلالها القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا ، وفكر فى إعطاء الأمر بتنفيذ خطط اغتيال جمال عبد الناصر ، الذى أعتبره المسئول الأول عن تلك الثورة ، وأصدر قراره بنزول قوات المارينز على شواطئ لبنان لحماية حكم كميل شمعون من الانهيارأمام المد الناصرى ، كان كميل شمعون فور علمه بالثورة العراقية ، قد أرسل برقية مذعورة لإيزنهاور يطالبه فيها بالتدخل فورا وفقاً لمبدأ إيزنهاور ، وإلا سيقوم عبد الناصر وثواره بنسف قصره ودفنه تحت ركامه.
على الجانب البريطانى ، أسرع الإنجليز بإنزال قواتهم فى الأردن لحماية عرش الملك حسين من الخطر الناصرى ، خاصة ان الثورة العراقية أطاحت بحكم أبناء عمومته فى العراق.

رغم اعتراف الاتحاد السوفيتى بالدولة الجديدة (الجمهورية العربية المتحدة)، إلا أن الصراع تفجر بين السوفيت و عبد الناصر إعلاميا بعد تصاعد الخلافات بين النظام الناصرى والنظام الثورى الجديد فى العراق فى نهاية عام 1958 ، وانحياز عبد الكريم قاسم قائد تلك الثورة إلى الشيوعيين ، ومذابحه تجاه القوميين العرب في العراق ، وعدائه لعبد الناصر ودولة الوحدة ، فقد أتخذ السوفيت جانب قاسم ضد عبد الناصر مما حدا بالأخير إلى اعتقال كل الشيوعيين في الجمهورية العربية المتحدة في ليلة رأس السنة (1958/ 1959)، ورغم ذلك لم تتأثر العلاقات الاقتصادية المصرية السوفيتية ، وبعد حين هدأت حدة الحرب الإعلامية بين القاهرة و موسكو لحرص عبد الناصر على عدم نسف كل جسوره مع السوفيت، ولإدراك خروشوف لأهمية دور عبد الناصر المناوئ للغرب وللولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
رأى الزعيم الاسرائيلي دافيد بن غوريون في قيام دولة الوحدة كارثة تهدد وجود إسرائيل وتضعها بين فكى كسارة البندق (مصر و سورية).
رغم أن الرئيس عبد الناصر لم يكن مؤيدا في البداية لإتمام الوحدة بالصورة السريعة التي تمت بها ،وكان يرغب في فترة انتقالية لتمهيد الأمور والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين مصر و سورية، لإدراكه فوارق مراحل التطور الاجتماعى و الاقتصادى بين البلدين ، إلا أنه تحت ضغط الظروف وافق على إتمام الوحدة الفورية لرغبته في إنقاذ سورية من التهديدات التي تتعرض لها، وقد نجحت الوحدة المصرية السورية في تحقيق الاستقرار لسورية بعد فترة طويلة من الانقلابات والمشاكل التي عانت منها عقب استقلالها، كما أن الوحدة حمت استقلال لبنان ، وأسقطت مبدأ إيزنهاور لملء الفراغ في الشرق الأوسط عقب خروج الاستعمار القديم من المنطقة، كما ساهمت الوحدة في قيام الثورة العراقية في 14 تموز- يوليو 1958 وإسقاط حلف بغداد وإفشال السياسة الاستعمارية الأميركية في المنطقة، كما استطاعت سورية في ظل الوحدة أن تحقق تغييرات اجتماعية واقتصادية عميقة كانت تبحث عنها منذ استقلالها، وجاءت القوانين الاشتراكية في يوليو 1961 تحقيقا لأحلام ومطالب متراكمة منذ عقود، لذا وقف ضدها التجار والإقطاعيون السوريون..
فى فجر يوم 28 سبتمبر 1961 تمت عملية الانقلاب على دولة الوحدة بتحرك وحدات من الجيش في سورية بقيادة المقدم عبد الكريم النحلاوى مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر للسيطرة على دمشق ومحاصرة مقر المشير، وقد رفض الرئيس عبد الناصر التصدى للانقلاب باستخدام القوة ، ورفض أن يتم رفع سلاح عربى ضد سلاح عربى ، وأمر بإيقاف عمليات التصدى للانقلاب بالقوة، كما لم يعارض في عودة سورية للانضمام للأمم المتحدة و جامعة الدول العربية كعضو مستقل، كان لعدم وجود اتصال جغرافى مباشر بين مصر وسورية دورا كبيرا في نجاح الانقلاب، كما كان لحجم التآمر الخارجى الدور الأكبر في نجاح الانفصال فكما تكشف الوثائق تلاقت مصالح حلف غير مقدس مكون من (المخابرات المركزية الأميركية – المخابرات البريطانية – الملك سعود بن عبد العزيز ملك السعودية – الملك حسين بن طلال ملك الأردن – الرئيس العراقى عبد الكريم قاسم – الموساد الاسرائيلي – الضباط السوريين المرتشين) للعب الدور الأعظم في الانقضاض على دولة الوحدة.

أيد قادة حزب البعث (أكرم الحوراني – صلاح البيطار) انقلاب الانفصاليين، كما أيده الرئيس السورى السابق على الوحدة شكرى القوتلى ، وكذلك مؤسس حزب البعث ومفكره "ميشيل عفلق"، فبعد فشل حزب البعث في تحويل سورية لحكر بعثى خاص تحت حكم الرئيس عبد الناصر ، لاعتقاد قادة البعث أنهم منحوا سورية للرئيس عبد الناصر ، وبالتالى فإن على الرئيس عبد الناصر أن يفعل ما يريده قادة البعث، وعندما رفض الرئيس عبد الناصر ذلك بذل قادة البعث كل جهودهم في سبيل فصم الوحدة، لإدراكهم أنهم لن يستطيعوا حكم سورية منفردين طالما ظل جمال عبد الناصر رئيسا لدولة الوحدة.

سقطت دولة الوحدة قبل أن تتدعم أركانها لأنها تمت تحت ضغوط داخلية وخارجية ، كانت تعانى منها سورية ، فجاءت الوحدة بين مصر و سورية كضرورة أمن قومى بين البلدين أكثر منها كهدف قومى.
كان الانفصال بداية المؤامرة لتصفية حركة التحرر الوطنى العربي، وكان الطلقة الأولى في الطريق إلى النكسة عام 1967، فالرئيس عبد الناصر الذي ألمته ضربة الانفصال شخصيا وبعدما تكشف له حجم التآمر العربي والغربى على مشروع الوحدة العربية، أصبح أكثر حذرا وراديكالية داخليا وخارجيا، فالميثاق يصدر عام 1962 ، وفيه يشدد الرئيس عبد الناصر على وحدة الهدف بدلا من وحدة الصف بين النظم العربية، وتسير مصر بخطى واسعة في الخطة الخمسية الأولى وبدا واضحا تصميم الرئيس عبد الناصر على انتهاج نظام اقتصادي اشتراكي بعيدا عن الاحتكارات الرأسمالية العالمية.

فى 26 سبتمبر 1962 تندلع ثورة اليمن ضد نظام أسرة حميد الدين الاستبدادي المتخلف.
كانت السعودية الخائفة من انتقال الثورة إليها ،هى التي بدأت التدخل في ثورة اليمن بالتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية و بريطانيا، وأنشأت السعودية للملكيين محطة إذاعية للتنديد بالنظام الثورى الجديد ، كما وفرت الحماية والغطاء اللازم للأمير البدر ليقود الملكيين مدعوما بجيوش من المرتزقة بتخطيط أميركي بريطاني، وأمام هذه التدخلات ، طلب الثوار اليمنيون من الرئيس عبد الناصر حماية جمهوريتهم الوليدة حتى لا يسقط اليمن مرة أخرى تحت الحكم الأمامى المتخلف، ووافق الرئيس عبد الناصر على دعم الثورة اليمنية عسكريا بقوات مسلحة مصرية في عملية كبرى ، كان أسمها الكودى (العملية 9000) ، كما تولت مصر مهمة إدخال الحضارة إلى اليمن بإنشاء جهاز للدولة لأول مرة في تاريخ اليمن، وتأسيس المستشفيات والمدارس و الطرق و الموانئ والمطارات من أجل نقل اليمن إلى القرن العشرين، أدت هذه التطورات إلى اشتعال الثورة في عدن و اليمن الجنوبى ، وقد دعمتها مصر بكل ثقلها في عملية كان أسمها الكودى (صلاح الدين).

عمت الثورة أنحاء اليمن شمالا وجنوبا وهددت معاقل الرجعية العربية ومنابع البترول شريان الحياة للحضارة الغربية ، كما واصل الرئيس عبد الناصر دعمه لثورة الجزائر حتى تحررت عام 1962 ، كما دعمت مصر كل حركات التحرر الوطنى على امتداد العالم الثالث، فرغم الخلافات العربية الطاحنة و التآمر الغربى ، رفض الرئيس عبد الناصر أن تخرج مصر من عروبتها وتنعزل عن إقليمها
 في عام 1963 يظن رئيس الوزراء الاسرائيلي دافيد بن غوريون أن الرئيس عبد الناصر قد أصبح يائسا ومحبطا من تعاملاته مع العرب، وأنه مهيأ الآن لفض يده من الخلافات و المشاكل العربية، فيرسل له عرضاً للسلام مع إسرائيل عبر دينيس هاميلتون رئيس تحرير جريدة التيمس البريطانية ، الذي قام بإبلاغ رسالة بن جوريون إلى صديقه الأستاذ محمد حسنين هيكل، رفض الرئيس عبد الناصر عرض السلام الاسرائيلي مدركا أنه مساومة على عروبة مصر مقابل الصلح مع إسرائيل.
وفى شتاء عام 1964 ، يعقد حلف شمال الأطلنطى اجتماعا لمناقشة ورقة العمل التركية التي أعدها وزير الخارجية التركى ، وتحمل عنوان (تصفية عبد الناصر).

ومحضر هذه الجلسة الذي يناقش ورقة العمل التركية ، يتحدث عن الدور المشاكس والمضاد لمصالح الغرب الذي تلعبه مصر بزعامة جمال عبد الناصر عبر العديد من المشكلات التي تسبب فيها عبد الناصر من إفشال فكرة الأحلاف العسكرية:
  شراء الأسلحة من الكتلة الشرقية
  تأميم القناة - تمصير وتأميم المصالح الأجنبية في مصر
ـ الوحدة مع سورية.
ثم ثورة اليمن وهي الطامة الكبرى بالنسبة لمصالح الغرب.. فوجود الجيش المصري في اليمن لمساندة الثوار أدى إلى نشوء وضع خطير هو تحكم مصر في طريق المواصلات بالبحر الأحمر من الشمال عبر قناة السويس، ومن الجنوب عبر مضيق باب المندب
كما أن هذا الوجود يهدد بزوال العرش الملكى السعودى الذي يحارب الثورة اليمنية وهو العرش الموالى للغرب والذى يضمن تدفق البترول إلى الغرب بكل يسر.
وتعرض الوثيقة إلى الأطراف العربية التي تعادى طموحات جمال عبد الناصر وسياساته وتحددها في :
المملكة العربية السعودية
الأردن
ليبيا تحت حكم الملك السنوسى.
كما تلفت النظر لسوء العلاقات المصرية السورية والمصرية العراقية
كما تتحدث عن النفوذ المصري في إفريقيا المعادى لمصالح الغرب
وتدعو لدراسة الاقتراح بتوجيه ضربة عسكرية موجعة إلى عبد الناصر ، كما تطالب بتحويل اليمن إلى مستنقع يغوص فيه الجيش المصري ، مما يساعد على إنجاح الضربة العسكرية الموجهة إلى مصر.

مع التنبيه على أنه إذا استمر الوضع الحالى في اليمن فإن العرش السعودى مهدد بالزوال عام 1970
فى نفس الفترة تتصاعد الضغوط الأميركية على الرئيس عبد الناصر لإيقاف برامج تصنيع الصواريخ و الطائرات المصرية ، وإخضاع المشروع النووى المصري للرقابة الدولية، وفى عام 1965 يتم تجميد العمل ببرنامج إمداد مصر بالقمح الأميركى لزيادة الضغط الاقتصادى على الرئيس عبد الناصر ، ومحاولة تطويعه للأهداف الأميركية ، وتفكيك مشروعه المضاد للإستراتيجية الأميركية في المنطقة، وفى عام 1966 ورغم كل الرواسب العالقة في العلاقات المصرية السورية عقب الانفصال، يعقد الرئيس عبد الناصر اتفاقية دفاع مشترك مع سورية.

وعندما تفشل كل مشاريع تطويع عبد الناصر للإرادة الأميركية ، تصبح الحرب هى الحل الوحيد المتبقى لإسقاط جمال عبد الناصر وإنهاء مشروعه القومى، ويتم نصب فخ جر مصر إلى الحرب عبر تهديد إسرائيل بغزو سورية في مايو 1967، فتندلع حرب 5 يونيو 1967 ، والتى انتهت بهزيمة فادحة للدول العربية (مصر، سورية، الأردن) ، ورغم الهزيمة لم يسقط نظام جمال عبد الناصر بفضل تمسك الجماهير العربية في مصر وفى كل أقطار الوطن العربي ببقائه، وعندما تكشفت للرئيس عبد الناصر بعض الحقائق عما جرى في الحرب مثل عدم حدوث حرب حقيقية على الجبهة الأردنية ، وخسارة الأردن لستة عشر شهيدا في الحرب كلها وتسليم الجيش الأردنى القدس و الضفة الغربية لليهود دون مقاومة، كما علم الرئيس عبد الناصر بما جرى على الجبهة السورية من إعلان سقوط مدينة القنيطرة في يد العدو قبل سقوطها ، ومن صعود المدرعات الإسرائيلية لهضبة الجولان دون مقاومة، لم يفقد الرئيس عبد الناصر إيمانه بالعروبة وبدور مصر في العالم العربي ، ورفض كل عروض السلام الإسرائيلية بعودة سيناء فقط إلى مصر مقابل سلام منفرد بين مصر و إسرائيل، وفى حديث له إلى أساتذة وطلبة الجامعات المصرية عقب مظاهرات الطلبة في 25 أبريل 1968 يقول الرئيس جمال عبد الناصر:

الموضوع مش هو مسألة جلاء إسرائيل عن سيناء وحدها، يمكن لو كانت دى هى المسألة.
أقدر احصل عليها بكرة بتنازلات.
أنا بقول للمثقفين بيفكروا ما ينفعلوش، أنا بقول لو العملية سيناء بس عايز.. برضه تفهموا كلامى.. لو العملية سيناء بس سهلة.
العملية مصيرنا؛ مصير العرب.. علشان لو كنا عايزين نسترد سيناء ممكن بتنازلات بنقبل شروط أمريكا وشروط إسرائيل، نتخلى عن الالتزام العربى ونترك لإسرائيل اليد الطولى فى القدس والضفة الغربية وأى بلد عربى، ويحققوا حلمهم اللى أتكلموا فيه من النيل إلى الفرات، ونتخلى عن التزامنا العربى.. بندى هذه التنازلات ونقول لهم يعدوا فى قنال السويس، ويرفعوا علم إسرائيل فى قنال السويس، وبيمشوا ويتركوا سيناء. 
الموضوع مش هو الجلاء عن سيناء وحدها، الموضوع أكبر من كده بكتير.. الموضوع هو أن نكون أو لا نكون.
موضوع إزالة آثار العدوان أكبر من الجلاء عن سيناء.
هل سنبقى الدولة المستقلة اللى حافظت على استقلالها وعلى سيادتها ولم تدخل ضمن مناطق النفوذ واللا حنتخلى عن هذا؟ 
إحنا مجروحين.. جزء من أرضنا محتل، ولكن رغم هذا؛ رغم الجرح هل نتنازل عن كل التزاماتنا العربية، وكل المثل وكل الحقوق، ونقبل إن إحنا نقعد مع إسرائيل لنتفاوض فى الوصول إلى حل؟ 
إسرائيل بتقول كده، أمريكا بتقول كده
إيه المقصود بإزالة آثار العدوان؟

 أما نتكلم على إزالة آثار العدوان لازم نفهم أطراف وأبعاد إزالة آثار العدوان.. والمسألة مسألة كبيرة؛ كبيرة جداً، ومسألة أيضاً خطيرة؛ لأن أمريكا أيدت إسرائيل، ساعدتها فى الأمم المتحدة، وأدتها الأسلحة، وأدتها المعونات المالية، وبمقدار كبر وخطورة الموضوع.. بمقدار ما يحتاجه من تكاليف وتضحيات. المسألة مش مسألة حل أزمة الشرق الأوسط.. المسألة هى نوعية الحل، شرف الحل، شرفنا.. مستقبلنا.. ومصيرنا".


 لم يعد سرا الآن أن إسرائيل والولايات المتحدة حاولتا باستماتة إغواء الرئيس عبد الناصر بقبول صلح منفرد مقابل استعادة سيناء كاملة وبغير قيود لنزع سلاح القوات المسلحة المصرية في سيناء بشرط الخروج من الصراع العربي الاسرائيلي.
وفى حديث لرئيس وزراء إسرائيل ليفى أشكول مع مجلة نيوزويك الأميركية عدد (17 شباط-فبراير 1969) يقول : "خلال العقدين الأخيرين كررنا دائما في إسرائيل قولنا بأننا مستعدون لمناقشة مشاكلنا مع ناصر، أننى مازلت مستعدا لأن أطير إلى القاهرة، ولن أتحدث مع ناصر كمنتصر ولكنى سأبلغه أن إسرائيل مستعدة لإعادة سيناء كاملة إلى مصر وبدون أى قيد أو شرط حيث أنه لم تكن لإسرائيل في أى وقت طلبات من أجل نزع سلاح سيناء، ولكن بالنسبة لمرتفعات الجولان والقدس و الضفة الغربية فأن إسرائيل ببساطة لن تتنازل عنها، سنرد لناصر سيناء بدون شروط مقابل أن يهتم بشئون مصر ولا يتدخل في شئون الدول العربية الأخرى".
رفض الرئيس عبد الناصر كل تلك العروض وأصر على عودة الأراضى العربية كلها وعلى الوصول إلى حل شامل للصراع العربي الاسرائيلي، أدرك الرئيس عبد الناصر أن عروبة مصر هى قدرها و مستقبلها وسبيل العرب الوحيد للوحدة ككتلة قوية في عالم لا يرحم الكيانات الصغيرة، أدرك أن قيادة مصر للوطن العربي تكون بأفعالها وبكونها ممثلة لكل طموحات و أمال الشعوب العربية، لم تكن العروبة والقومية عنده تعنى السيطرة المصرية كما حدث في عهد محمد على بل كانت رؤيته أشمل لمفهوم الأمن القومى العربي الجامع لكل الدول العربية وكان مؤمنا أن المصالح العربية مشتركة وواحدة، لذا رفض بشدة أن يخرج من عروبته وأن ينعزل بمصر، كان الرئيس عبد الناصر مؤمنا بمعركة المصير الواحد لذا ظل مهتما بتكوين الجبهة الشرقية في معركة العرب المقبلة مع إسرائيل، وطلب من ياسر عرفات أن تنطلق ولو رصاصة فلسطينية يوميا داخل فلسطين المحتلة حتى يدرك العالم أن هناك قضية شعب تم اغتصاب وطنه لن تموت.
توفى الرئيس جمال عبد الناصر عقب مؤتمر القمة العربية بالقاهرة الذي عقد لوقف الحرب التي قادها ملك الأردن الراحل حسين ضد المنظمات الفدائية الفلسطينية، مات جمال عبد الناصر شهيدا في سبيل أمته، مات وهو يجاهد ضد أعداءه في إسرائيل وأميركا.
ولنرى ما الذي حدث بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر؟
فى مذكرات هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأميركى الأسبق نقرأ التالى أنه شعر بالسعادة البالغة لنبأ وفاة الرئيس عبد الناصر لأن وجوده بسياسته الراديكالية المعادية للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط كان يمثل أكبر عائق لتنفيذ الأهداف الأميركية في المنطقة الأهم للولايات المتحدة في العالم، ويحلل كيسنجر أوضاع المنطقة عقب وفاة عبد الناصر، ويصل أن الوقت أصبح مناسب للوصول لحل سلمى للصراع بين مصر و إسرائيل بشرط أن يكون هذا الحل أميركى، وأن يتضمن ثلاثة شروط :
1ـ طرد النفوذ السوفيتى من المنطقة كلها
2ـ يترك مصر ضعيفة غير قادرة على التأثير بأى نفوذ على الإطلاق في العالم العربي
3ـ أن تظهر التجربة الثورية التي قادها عبد الناصر في مظهر التجربة الفاشلة.
وعلى الجانب الاسرائيلي يقول مناحم بيجن عن وفاة عبد الناصر (إن وفاة عبد الناصر، تعني وفاة عدو مر، إنه كان أخطر عدو لإسرائيل.إن إسرائيل لهذا السبب لا تستطيع أن تشارك في الحديث الذي يملأ العالم كله عن ناصر وقدراته وحنكته وزعامته).
ويقول بن غوريون (كان لليهود عدوين تاريخيين هما فرعون في القديم، و هتلر في الحديث، ولكن عبد الناصر فاق الأثنين معا في عدائه لنا، لقد خضنا الحروب من أجل التخلص منه حتى أتى الموت وخلصنا منه ).
و يقول حاييم بارليف رئيس الأركان الاسرائيلي: (بوفاة جمال عبد الناصر أصبح المستقبل مشرقا أمام إسرائيل و عاد العرب فرقاء كما كانوا وسيظلون باختفاء شخصيته الكاريزماتية).
ويقول المفكر الاسرائيلي آمنون روبنشتاين : إن مصر يجب آلا تكون طرفا في الصراع العربي الاسرائيلي، إن تورط مصر الكبير في النزاع العربي الاسرائيلي تمخض بصفة خاصة بسبب سياسة جمال عبد الناصر التي كانت تقوم على ركنين أساسيين يعوزهما الحكمة :
1ـ إمكانية وجود وحدة عربية
2ـ معاداة الغرب

وقد رفض جمال عبد الناصر طيلة حياته العدول عن تلك السياسات ، والآن بعد وفاته نأمل أن تراجع القيادة المصرية الجديدة تلك السياسات لكى تنهى الحرب بين مصر وإسرائيل في مصر .
لعيوب بنيوية في تركيب النظام الناصرى ، خرج النقيض المتطرف للناصرية من قلب النظام ، وعبر انقلاب أبيض بدون قطرة دماء في 13 مايو 1971، وعقب الانقلاب ، وبعد فشل محاولات الوصول إلى حل سلمى برعاية أميركية، أضطر الرئيس السادات إلى اتخاذ قرار الحرب متحالفا مع السوريين ، وفى يوم 6 أكتوبر 1973 ، تندلع الحرب الخامسة بين العرب وإسرائيل ، ويحقق المصريون والسوريون ما يشبه الإعجاز في أول أيام المعركة خاصة على الجبهة المصرية التي شهدت عملية العبور العظيم، وعند الحديث عن العبور يجب التنبيه إلى نقطة هامة وجوهرية لقد تم العبور بسواعد المصريين وعبر خطة محكمة وأداء مذهل بالسلاح السوفيتى ، ولكنه أيضا تم بفضل السوريين، فالطيران الاسرائيلي وهو ذراع إسرائيل الطويلة ، ركز 80% من قوته على الجبهة السورية في اليوم الأول للحرب لقربها من العمق الاسرائيلي ، لذا تم تركيز 80 % من الطيران الاسرائيلي على الجبهة السورية، و20% على الجبهة المصرية التي تفصلها صحراء سيناء الشاسعة عن العمق الاسرائيلي، وهو ما كان له دوره في نجاح عملية العبور العظيم بالطريقة التي تمت بها.
وهكذا بالدليل العملى ثبت جدوى الوحدة خلال اليوم الأول للمعركة، فقد حققت حرب 1973 مخاوف بن جوريون من قيام دولة الوحدة التي شبهها بوقوع إسرائيل بين فكى كسارة البندق، وبرغم تفجر الخلافات أثناء الحرب وبعدها بين مصر و سورية ، والاتهامات المتبادلة بين الرئيسين السادات والأسد ،عقب قرار الرئيس السادات بالوقفة التعبوية ، وعدم التزامه بما تم الاتفاق عليه مع الرئيس الأسد قبل الحرب، فقد كسرت حرب 1973 هالة تفوق المقاتل الاسرائيلي و تخلف الجندى العربي.
منحت الحرب الرئيس السادات الشعبية التي كان يفتقدها منذ بداية حكمه ، وجلبت له شرعية جديدة غير مستمدة من شرعية سلفه الرئيس عبد الناصر ، رغم أن الجيش المصري الذي حارب و أنتصر تم بناءه في عهد الرئيس عبد الناصر والخطط التي نفذت كانت موروثة من عهد الرئيس عبد الناصر، ولكن الرئيس السادات قرر استغلال الانتصار العسكرى في تحويل مسار مصر ، والانقضاض على الناصرية وعلى العروبة.
فى يوم 7 نوفمبر ، وبعد وقف إطلاق النار بأيام قليلة كان الرئيس السادات يستقبل هنرى كيسنجر في قصر الطاهرة للمرة الأولى مباشرة بعد العديد من الرسائل بينهما قبل الحرب وأثناءها وبعدها، وفى هذا الاجتماع المنفرد بين الرجلين فوجئ كيسنجر كما كتب بنفسه في مذكراته بالسادات وأطروحاته.
 فالرئيس السادات لم يطلب منه أن تعمل الولايات المتحدة على انسحاب إسرائيل من جميع الأراضى المحتلة في حرب 1967 في إطار تسوية شاملة للصراع العربي الاسرائيلي وتفاوض على حقوق الشعب الفلسطيني.
 
بل كل ما طلبه هو انسحاب اسرائيلي من ثلثى سيناء حتى خط العريش – رأس محمد، وبهذا خالف الرئيس السادات الموقف العربي الثابت منذ حرب 1967، وحتى هذا المطلب رغم سرور كيسنجر به، رفضه كيسنجر قبل الرجوع للإسرائيليين، والرئيس السادات يصارح كيسنجر أن حصار الجيش الثالث ليس جوهر المسألة وخطوط 22 أكتوبر لا تصلح للنقاش بين صانعى سياسة مثله هو وكيسنجر، أن السادات راغب بشدة في عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر و الولايات المتحدة،وهى العلاقات التي تم قطعها بين مصر والولايات المتحدة عقب حرب 1967
وإثر الدور الأميركى الواضح في الحرب تخطيطا وتنفيذا، وإثر هذا القرار المصري قطعت معظم الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية بالولايات المتحدة وتم خروج 62 ألف أميركى من الوطن العربي في مشهد مهين لهيبة وكرامة الولايات المتحدة الأميركية، وهاج الرئيس الأميركى جونسون معتبرا ما حدث صفعة لمكانة الولايات المتحدة وتحريض شرير من الرئيس عبد الناصر، وطوال الفترة من 1967 وحتى 1973 حاولت الولايات المتحدة العمل على عودة العلاقات الدبلوماسية المصرية الأميركية دون جدوى لإصرار مصر على أن تلزم الولايات المتحدة إسرائيل بالانسحاب من الأراضى العربية قبل تلك الخطوة،والآن يقوم الرئيس السادات وبعد حرب ضارية اهتزت فيها ثقة إسرائيل وتم كسر جيشها بتقديم هذا العرض المجانى، أغتبط كيسنجر لذلك وفى ذهنه ما هو أبعد وأهم، فعودة العلاقات الدبلوماسية المصرية الأميركية تفتح الباب لعودة علاقات أميركا بكل دول العالم العربي، ويبلغ الرئيس السادات كيسنجر أنه قرر أن يرفع مستوى التمثيل الدبلوماسى فورا من قائم بالأعمال إلى سفير بالنسبة لمصر والولايات المتحدة، وكل ذلك بدون مقابل.
 ولم يكتف الرئيس السادات بذلك بل يبلغ كيسنجر أنه ليس خلفا للرئيس عبد الناصر بل خلفا لأجداده من الفراعنة الكبار ، ويبلغه أنه ينوى تصفية ميراث سياسات الرئيس عبد الناصر الاقتصادية والاجتماعية وتوجهاته القومية العربية، وسيعمل على طرد السوفيت من الشرق الأوسط.

ويقول السادات لكيسنجر لقد كانت حماقة وطيش من عبد الناصر محاولاته الدائمة لابتزاز الأميركان وتحقيق أهداف مصر من خلال محاربة السياسة الأميركية في العالم العربي وعلى امتداد العالم، وإن مصر خاضت ما يكفيها من حروب من أجل العرب وتتطلع إلى السلام.
 يسجل كيسنجر في مذكراته تلك الكلمات عن الرئيس السادات:
(أنه يمثل لى أفضل فرصة لكى نقلب المشاعر و الاتجاهات العربية والمواقف العربية تجاه إسرائيل، وهى أفضل فرصة تتاح لدولة إسرائيل منذ قيامها).
يقول كيسنجر أنه هو الذي أوحى للرئيس السادات أن المشكلة بين مصر وإسرائيل هى مشكلة نفسية نتجت عن عدم ثقة إسرائيل بنوايا مصر وخوفها على أمنها، وأن يجب على مصر أن تعطى إسرائيل الإحساس بالأمان وتهتم بشئونها فقط بدلا من الاهتمام بمشاكل العرب الآخرين، وكالعادة يوافقه الرئيس السادات ويصارحه أن المشكلة الأساسية نجمت من رفض الرئيس عبد الناصر الاعتراف بالهزيمة عام 1967 وإصراره على الحل العسكرى للصراع وتمسكه بحل شامل على كل الجبهات العربية مما كلف مصر الكثير.
كان خيار الرئيس السادات خروج مصر من العروبة ، و البحث عن حل فردى لصراعها مع إسرائيل ، وفصل الجبهات العربية هو البداية لعقود مريرة في التاريخ العربي المعاصر، مزقت الوطن العربي شر ممزق، لم تكن عروبة مصر مغامرة أو رغبة في الزعامة من الرئيس عبد الناصر بل كانت فرض التاريخ والجغرافيا على مصر، ولم تكن حروب مصر مع إسرائيل من أجل العرب فقط بل من أجل مصر في المقام الأول، لقد أنشأت إسرائيل لعزل مصر في أفريقيا و لوراثة دورها في الوطن العربي، يقول رئيس الوزراء الاسرائيلي بن جوريون لوزير الخارجية الأميركى جون فوستر دالاس في 14 مايو 1953:
"أنكم مهتمون بمصر وأود أن ألفت نظركم إلى أن إسرائيل تملك نفس المزايا التي تملكها مصر، فكلاهما يطل على البحر الأبيض والبحر الأحمر وما بين ميناء إيلات و ميناء حيفا يمر نفس الشريان الحيوى الذي يمر بين بورسعيد و السويس وهو مهيأ لحفر قناة جديدة تصل مابين البحرين، وأنا لا أعرف لماذا يريد المصريون أن نخرج من النقب، إن لديهم صحارى بأكثر مما يكفيهم و لديهم أرض تزيد عن حاجتهم وحجم بلادهم يساوى 36 مرة حجم إسرائيل)، هكذا يعلنها بن جوريون بصراحة إسرائيل تستطيع بموقعها وراثة دور مصر، وإسرائيل ليست مستعدة للتخلى عن صحراء النقب لأنها تفصل مصر عن المشرق العربي.
ويروى الأستاذ هيكل في برنامجه (مع هيكل) وقائع لقائه مع رئيس الوزراء الفرنسى الأسبق كوف دى مورفيل الذي قال له أنه جرت في الشرق الأوسط معركتين معركة دخول إسرائيل، ومعركة خروج مصر، وان دخول إسرائيل لا يتحقق إلا بخروج مصر، وان بريطانيا هى الدولة التي ساعدت على دخول إسرائيل، والولايات المتحدة الأميركية هى الدولة التي يجب أن تحقق خروج مصر، وأنكم كعرب تنبهتم للمعركة الأولى الخاصة بدخول إسرائيل وغابت عنكم معركة خروج مصر، أن الولايات المتحدة الأميركية لا تريد لمصر أن تعبر خط قناة السويس، لا مانع لدى الأميركيين من أن تصبح مصر بلدا أفريقىا جيدا أو بلدا إسلامياً جيدا ولكنهم لا يريدون أن تكون مصر بلدا عربيا جيدا، لقد كانت كل مشاكل الغرب مع جمال عبد الناصر بسبب أنه جلب المشرق العربي إلى مصر وأهتم بصياغة مشروع للوحدة عربية.

لفت نظرى فى كل الكتب التى الأوربية والأمريكية عن الرئيس جمال عبد الناصر أن هناك أكليشيه واحد متكرر يجمع بين تلك السير الذاتية للرئيس الراحل هو "أنه كان بإمكان الرئيس عبد الناصر أن يفعل المزيد من أجل رفاهية مصر لو أنه قلل من مساعداته وتدخلاته فى شئون الدول العربية الأخرى ".
يبدو هذا الأكليشيه المتكرر بما يحمله من معانى شديد الدلالة عن الرؤية الغربية لمصر، ولكن هل كانت عروبة مصر سببا فى مشاكل مصر الاقتصادية بالفعل؟
لقد ساعد الرئيس جمال عبد الناصر الثورة الجزائرية بمبلغ 60 مليون جنيه مصري، وبعد استقلال الجزائر عام 1962 ، اشترى الرئيس بومدين أسلحة لمصر فى خلال الاستعداد لحرب سنة 1973 بمبلغ 200 مليون دولار، وفى فترة الوحدة ، دفعت مصر لسوريا مبلغ 6 ملايين جنيه مصري، وفى مواجهة حلف بغداد ، لم تنفق مصر شيئا بل دعمت إذاعاتها وكتلت الشعوب العربية لمقاومة المشاريع الاستعمارية فى المنطقة، وأنفقت مصر مبلغ 500 مليون جنيه لإنشاء الدولة الحديثة (مدارس – مستشفيات – طرق – جهاز الدولة) فى اليمن ، ولنقل اليمن إلى القرن العشرين ، وبعد حرب 1967 فى قمة الخرطوم 1967 ، تعهدت الدول العربية بدفع 95 مليون جنيه سنويا لمصر لتعويض خسائرها فى الحرب، وعندما احتاجت مصر لطائرة قاذفة مقاتلة سنة 1970 أشترى الرئيس الليبى معمر القذافى لمصر صفقة طائرات قاذفة ميراج ضخمة(مائة وواحد طائرة ميراج – وأربع طائرات تدريب) من فرنسا بمئات الملايين من الدولارات، وفى عام 1973 وحده دفعت ليبيا القذافى لمصر تكاليف شراء أسلحة وصلت قيمتها إلى مليار دولار، كان ضمنها القوارب المطاطية التى استخدمتها قوات الموجة الأولى فى عبور قناة السويس ، وكان شراؤها من إيطاليا، وفى الفترة من سنة 1973 إلى سنة 1977 ،وقبل مبادرة السادات للسلام دفعت الدول العربية لمصر مبلغ تتراوح تقديراته من 16 مليار دولار إلى 21 مليار دولار.
وعندما أجتمع مؤتمر القمة العربى فى بغداد سنة 1979 وجدت الدول العربية أن خروج مصر على الصف العربى بصلح منفرد مع إسرائيل سوف يؤدى إلى إضعاف الوطن العربى، وفى محاولة لإثناء الرئيس السادات عن توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، قرر الحكام العرب إرسال وفد ممثلا لهم ، يحمل عرضا للرئيس السادات بمنح مصر مبلغ 5 مليارات دولار كمنحة لا ترد وتدفع مرة واحدة.
رفض الرئيس السادات مجرد استقبال وفد القمة العربية وقال:

"أنا لا أريد أن أظل مع المتخلفين، وإنما مكانى هناك فى الغرب مع المتقدمين ".
ولكن حتى مع الأخذ فى الاعتبار تبريرات الرئيس السادات لمواقفه وسياساته، فإذا نظرنا إلى عروبة بمصر بمنطق التجار والسماسرة من الحكام سوف نجد بحسبة بسيطة أن مصر هى المستفيدة ماديا من عروبتها ومن قيادتها للوطن العربى، وهو ما ينسف كل مبررات الرئيس السادات لما فعله بعد أكتوبر 1973.
ولنلقى نظرة أكثر شمولا على أوضاع مصر الاقتصادية فى زمن العروبة والحروب مع إسرائيل (زمن المتخلفين كما وصفه الرئيس السادات).
تخبرنا الأرقام وهى لا تكذب و لاتتجمل بالتالى : أن مصر فى عهد العروبة والحروب حققت نسبة نمو من عام 1957 – 1967 بلغت ما يقرب من 7 % سنويا
ومصدر هذا الرقم تقرير البنك الدولى رقم [870 - أ] عن مصر الصادر فى واشنطن بتاريخ 5 يناير 1976.
وهذا يعنى أن مصر استطاعت فى عشر سنوات من عصر عبد الناصر أن تقوم بتنمية تماثل أربعة أضعاف ما استطاعت تحقيقه فى الأربعين سنة السابقة على عصر عبد الناصر.
كانت تلك نتيجةً لا مثيل لها فى العالم النامى كله حيث لم يزد معدل التنمية السنوى فى أكثر بلدانه المستقلة خلال تلك الفترة عن اثنين ونصف فى المائة بل أن هذه النسبة كان يعز مثيلها فى العالم المتقدم باستثناء اليابان، وألمانيا الغربية، ومجموعة الدول الشيوعية
فمثلا ايطاليا وهى دولة صناعية متقدمة و من الدول الصناعية الكبرى حققت نسبة نمو عن تقدر بـ4.5 % فقط فى نفس الفترة الزمنية.
وبدأت مصر مع الهند و يوغوسلافيا منذ بداية الستينيات مشروعا طموحا لتصنيع الطائرات والصواريخ والمحركات النفاثة والأسلحة
وحتى سنة 1967 كانت مصر متفوقة على الهند فى صناعة الطائرات والمحركات النفاثة وتم صنع الطائرة النفاثة المصرية القاهرة 300
وصنعت مصر أول صاروخين من إنتاجها بمساعدة علماء الصواريخ الألمان ولكن شابهما عيوب فى أجهزة التوجيه.

فى عام 1966 كان الفارق بين البرنامج النووى المصري، ونظيره الاسرائيلي عام ونصف لصالح البرنامج النووى الإسرائيلي، ورغم النكسة كانت مصر على وشك تحقيق توازن القوى فى المجال النووي بينها وبين إسرائيل بحلول سنة 1971
و فى يوم 5 يونيو 1967 جاء يوم الحساب لتجربة ومشروع جمال عبد الناصر فى الحرب العدوانية التى شنتها أميركا وإسرائيل لإجهاض مشروع النهضة العربى الذى يقوده جمال عبد الناصر، تلك الحرب التى وصفها الرئيس الفرنسى شارل ديجول بأنها ( المعركة أميركية و الأداء اسرائيلي )
ورغم عنف الضربة وفداحة الهزيمة العسكرية.
هل انهارت مصر وانتهت كما يحاول إقناعنا بعض العملاء من مدمنى تكريس الهزيمة والمعادين للعروبة، أن العروبة و حرب 1967 هما سبب كل مشاكل مصر؟!!
بإلقاء نظرة على أوضاع مصر عقب الهزيمة يتضح لنا الأتى تحمل الاقتصاد المصري تكاليف إتمام بناء مشروع السد العالى العملاق، ولم يكتمل بناء هذا السد إلا سنة 1970 قبيل وفاة الرئيس عبد الناصر.
السد العالى الذى اختارته الأمم المتحدة عام 2000 كأعظم مشروع هندسى و تنموى فى القرن العشرين و الذى يعادل فى بناؤه 17 هرم من طراز هرم خوفو.
كما تم بناء مجمع مصانع الألمونيوم فى نجع حمادى وهو مشروع عملاق بلغت تكلفته ما يقرب من 3 مليار جنيه.
وفى ظل النكسة حافظت مصر على نسبة النمو الإقتصادى قبل النكسة بل أن هذه النسبة زادت فى عامى 1969 و 1970 وبلغت 8 % سنويا.
وأستطاع الاقتصاد المصري عام 1969 أن يحقق زيادة لصالح ميزانه التجارى لأول و أخر مرة فى تاريخ مصر بفائض قدرها 46.9 مليون جنية بأسعار ذلك الزمان.
تحمل الاقتصاد المصري عبء إعادة بناء الجيش المصري من الصفر وبدون مديونيات خارجية كانت المحلات المصرية تعرض وتبيع منتجات مصرية من مأكولات وملابس وأثاث و أجهزة كهربية.
وكان الرئيس عبد الناصر يفخر أنه يرتدى بدل وقمصان غزل المحلة ويستخدم الأجهزة الكهربائية المصرية (ايديال).
كما ترصد تقارير البنك الدولى بعض مظاهر التحول الاجتماعى العميق الذى شهدته مصر مابين عامى (1952- 1970 ).
حيث زادت مساحة الأرض الزراعية بأكثر من 15 %،ولأول مرة تسبق الزيادة فى رقعة الأرض الزراعية الزيادة فى عدد السكان .
لقد كان جمال عبد الناصر أول حاكم مصري منذ عهد الفراعنة يوسع رقعة وادى النيل.
وزاد عدد الشباب فى المدارس والجامعات والمعاهد العليا بأكثر من 300 %
وزادت مساحة الأراضى المملوكة لفئة صغار الفلاحين من 2,1 مليون فدان إلى حوالى 4 مليون فدان.

كما حدث تقدم ملحوظ فى مجال المساواة، والعدالة الاجتماعية فى المدن أيضا بفعل الضرائب.
وتم وضع حدود دنيا وعليا للرواتب والمرتبات
فلا أحد يعيش برفاهة وبذخ ولا أحد يعيش دون مستوى الكفاف
وقبيل وفاة الرئيس عبد الناصر أتمت مصر بناء حائط الصواريخ الشهير وأتمت خطط العبور وتحرير الأرض العربية كلها وليس تحريك الموقف
وبقبول الرئيس عبد الناصر لمبادرة روجرز، أستطاع أبطال القوات المسلحة تحريك حائط الصواريخ العظيم حتى حافة قناة السويس.
وبذلك تم إلغاء دور الطيران الاسرائيلي ذراع إسرائيل الطويلة فى الهجوم على مصر غرب قناة السويس وأصبح اندلاع حرب التحرير،وعبور الجيش المصري للضفة الشرقية مسألة وقت.
كان الرئيس عبد الناصر يقدرها بزمن لا يتأخر عن نيسان- أبريل 1971 وقبيل وفاة الرئيس صدق على الخطة جرانيت. وهى خطة العبور التى نفذ الجزء الأول منها فى ظهيرة يوم 6 تشرين الأول- أكتوبر 1973 كما صدق على الخطة 200 وهى الخطة الدفاعية التى تحسبت لحدوث ثغرة فى المفصل الحرج بين الجيشين الثانى والثالث المصري.
والغريب أن الثغرة حدثت كما توقعت الخطة 200 بالضبط عقب قرار الرئيس السادات المتأخر بتطوير الهجوم المصري يوم 14 تشرين الأول- أكتوبر 1973
صعدت روح الرئيس عبد الناصر إلى بارئها و اقتصاد مصر أقوى من اقتصاد كوريا الجنوبية، ولدى مصر فائض من العملة الصعبة تجاوز المائتين والخمسين مليون دولار بشهادة البنك الدولى.
وثمن القطاع العام الذى بناه المصريون فى عهد الرئيس عبد الناصر بتقديرات البنك الدولى بلغ 1400 مليار دولار.
ولدى مصر أكبر قاعدة صناعية فى العالم الثالث حيث كان عدد المصانع التى أنشأت فى عهد عبد الناصر 1200 مصنع منها مصانع صناعات ثقيلة وتحويلية وإستراتيجية.
كما تم خفض نسبة الأمية من 80 % قبل 1952 إلى 50% عام 1970 بفضل مجانية التعليم فى كل مراحل الدراسة.
كما تم دخول الكهرباء والمياه النظيفة والمدارس والوحدات الصحية والجمعيات الزراعية إلى معظم قرى مصر.

وتم ضمان التأمين الصحى والاجتماعى والمعاشات لكل مواطن مصري
كل ذلك تم بدون ديون تذكر.
كما لم تكن عملة مصر مرتبطة بالدولار الأميركى ، بل كان الجنيه المصري يساوى ثلاثة دولارات ونصف، ويساوى أربعة عشر ريال سعودى بأسعار البنك المركزى المصري.
كما تخبرنا الأرقام أن مصر فى زمن العروبة والحروب ، اشترت أسلحة من الاتحاد السوفيتى من سنة 1955 إلى سنة 1973 بمبلغ 4 مليار دولار، سددت من هذا المبلغ مليار دولار فقط للسوفيت الذين تنازلوا عن الثلاثة مليارات الباقية لمصر، خاضت مصر بالسلاح السوفيتى أربع حروب ضد إسرائيل : حرب السويس 1956، حرب يونيو 67، حرب الاستنزاف 1967 – 1970، حرب أكتوبر 1973.
وبالنسبة لحرب اليمن فقد كانت كل أسلحتها منحة من السوفيت للقوات المسلحة المصرية، ولم تدفع مصر جنيهاً واحدا فيها.
فى نفس تلك الفترة الزمنية من 1955 حتى 1975 ، كان شاه إيران البائد يشترى من الولايات المتحدة سنويا أسلحة بمبلغ 4 مليار دولار يدفعها مقدما ونقدا.
المدهش فى الأمر أنه عقب قرار الرئيس السادات بتنويع مصادر الحصول على السلاح، أشترت مصر من الغرب فى الفترة من سنة 1974 إلى سنة 1978 أسلحة بمبلغ 7 مليار دولار، أى أن مصر فى ظل البحث عن السلام وعقب إعلان الرئيس السادات أن حرب أكتوبر 1973 هى أخر الحروب أشترت أسلحة فى 4 سنوات فقط بثمن مضاعف لما أشترته من أسلحة خلال 20 عاما شهدت خمس حروب ( حرب 56 – حرب اليمن – حرب 67 – حرب الاستنزاف – حرب 73 ).
كما تخبرنا أرقام منظمة الصليب الأحمر الدولى أن مصر من سنة 1948 وحتى سنة 1973 خاضت 5 حروب ضد إسرائيل خسرت فيها
39 ألف شهيد، 73 ألف جريح، 61 ألف معوق
بينما تخبرنا الأرقام أن مصر خلال الفترة من 1980 وحتى 2010 وبدون أن تخوض أى حروب ضد إسرائيل خسرت فى حوادث الطرق 180 ألف قتيل، و500 ألف جريح و معوق.
وهكذا فإن الخروج من العروبة، ومقولات الرئيس السادات عن أخر الحروب وحفظ دماء المصريين لم يحفظ دماء المصريين، ولم يمنع عنهم الموت فى حوادث عبثية على الطرق.
والأرقام الاقتصادية الموثقة أثبتت أن العروبة لم تكن أبدا مغامرة ناصرية غير محسوبة، لم تكن أبدا رغبة فى الزعامة أو بحثا عن مجد شخصى للرئيس عبد الناصر بل كانت ذات خير مزدوج لمصر وللأمة العربية كلها.
لم تكن العروبة أبدا عائقا أمام تقدم مصر الاقتصادى والاجتماعى، وما أنفقته مصر فى سبيل القضايا العربية استردته أضعافا مضاعفة.
أن حل مشاكل مصر هو فى تبنى دورها الطبيعى فى قيادة الوطن العربى وليس بالانسحاب من دورها الذى فرضته عليها الجغرافيا، وفرضه عليها التاريخ.
مصر العروبية المغامرة المحاربة حققت أعظم مشروع نهضوى عربى فى القرن العشرين فى خلال فترة لم تتجاوز 20 عاما، بينما مصر أولا مصر المهادنة المنعزلة عن مشاكل إقليمها، مصر الحكيمة المسالمة المستسلمة. ما الذى حققته منذ عام 1974 حتى الآن؟
هل حلت مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية؟
هل انتقلت إلى العالم الأول أو حتى العالم الثانى؟
ما الذى جنته مصر من سياسة مصر أولا، وكفاية عروبة، وخيار السلام الاستراتيجى، و 99% من أوراق اللعبة فى يد أميركا فى كل تلك الفترة الزمنية الطويلة؟
التى تكفى وتزيد لبناء مصر كلها من الصفر من أسوان إلى الإسكندرية لو كانت مصر حطاما مدمرا وخرابا.
عندما تقابل الزعيم الكوبى فيدل كاسترو مع الرئيس جمال عبد الناصر عام 1960 فى نيويورك أثناء اشتراكهما فى أعمال الدورة الخاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة دار بينهما الحوار التالي :
كاسترو : إن انتصار مصر فى السويس كان إلهاما كبيرا لنا ونحن نقاتل فى جبال " سييرا مايسترا ". ورحنا نقول لأنفسنا : إذا كانت مصر وحدها قد استطاعت أن تتصدى لغزو ثلاث دول – بريطانيا و فرنسا و إسرائيل – فمعنى ذلك أننا نستطيع.
إن كوبا مهددة بالغزو يا سيادة الرئيس، ونحن نريد أن نستفيد من خبرتكم فى دحر الغزاة.
جمال عبد الناصر : إن الخطأ الذى وقع فيه الغزاة فى السويس هو أنهم تصوروا مصر وحدها، وهذا ليس صحيحا.

ان تفاعلات تاريخية وحضارية – بما فى ذلك وحدة الدين واللغة و الثقافة – جعلت شعب مصر واحدا من شعوب أمة كبيرة يربطها نفس المستقبل ويجمعها نفس المصير.
وهذا هو سر انتصار مصر و سر هزيمة أعداء لها كانوا أقوى منها.
إنهم وضعوا خطتهم على أساس مصر وحدها، وحين جاءوا للغزو فقد اكتشفوا متأخرين أن مصر لم تكن وحدها.
انهم فوجئوا أن أمة بأسرها تمتد أرضها من المحيط إلى الخليج قامت ضدهم
نحن أغلقنا قناة السويس، ولكن نسف خط أنابيب البترول عبر سوريا لم يكن فى تأثيره أقل من قفل خليج السويس، لقد توقف مرور البترول من الشرق الأوسط إلى الغرب، ومن بغداد إلى الدار البيضاء أصبحت المنطقة كلها عرضة للانفجار.
إننا قاومنا فى ميدان القتال أحد عشر يوما وحدنا، ومع كل يوم مقاومة كانت أرصدتنا السياسية تزداد وتكبر، ذلك أدى إلى هزة فى العالم، ذلك هو الذى شجع الاتحاد السوفيتي، ذلك هو الذى أرغم " أيزنهاور " على أن يقف ضد حلفائه.
 ما أريدك أن تعرفه هو أن مصر لم تكن وحدها.. هذا هو سر انتصارنا فى السويس.
 
عمرو صابح، كاتب وباحث مصري


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى