الجمعة ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم إدريس ولد القابلة

7 سنوات من حكم الملك محمد السادس، هل الملك في ورطة؟

إذا كان اعتلاء الملك محمد السادس عرش البلاد بمثابة إعادة انتعاش الأمل، فإن تركة العهد الحسني كانت ثقيلة على مختلف الأصعدة، وكان العهد الجديد إعلانا على انتظار تحولات من طبيعة جديدة وقريبة مما انتظره المغاربة طويلا في الحياة العامة للبلاد.

ولد العهد الجديد تطلعات شعبية هائلة، وانتظار إحداث نقلة نوعية في المجال السياسي والاجتماعي. وأبدى الملك منذ 23 يوليو 1999 رغبة في تحقيق مشروع مجتمعي يقوم على انخراط المغرب في مناخ تعمه الديمقراطية والحداثة، كما كشف عن رؤية ومبادرات لإعادة هيكلة المجتمع من خلال إعادة الاعتبار لدور الأسرة وتكريس ثقافة حقوق الإنسان وثقافة المواطنة وسياسة القرب والمشاركة وتحديث الإدارة والقضاء وترسيخ التضامن الاجتماعي وتحقيق التنمية الاقتصادية المستديمة؛ لكن، فهل كرس فعلا القائمون على الأمور هذه الرؤية وهذه المقاربة على ارض الواقع المعيش، أم أن القرارات المتخذة سارت في اتجاه آخر؟

في البداية بدا الملك حريصا على انتهاج أسلوب مغاير في الحكم وفي نمط حياته واقترابه من الناس، آنذاك فتحت آمال عريضة أمام مغاربة الداخل ومغاربة الخارج، وأكدت الخطابات الرسمية أن المغرب يحرص على المضي في توطيد النهج الديمقراطي وترسيخ سياسة الإصلاح والتغيير، وبموازاة مع ذلك الحرص على تحصين هذا المسار من كل تراجع إلى الوراء، أي جعل هذا المسار الإصلاحي أمرا لا رجعة فيه؛ فكيف تجسد هذا القول على أرض الواقع؟ هذا ما يهم أغلب المغاربة، ما داموا قد دأبوا على سماع الكثير، ولم يعاينوا إلا النزر الذي لا يكاد يبين.

وعلى امتداد 7 سنوات ظل القضاء من المواضيع التي استأثرت باهتمام الجميع اعتبارا للدور الذي لعبه، وبامتياز، في تكريس واقع سنوات الجمر والرصاص، ولكون أن استقلاليته كانت ولازالت موضوع سجال من طرف الجميع، حتى القضاة النزهاء أنفسهم، لاسيما وأن قضاءنا ظل يعيش معضلة كبيرة بخصوص استقلاليته وعدالة قراراته.

ولتحقيق الأهداف المتوخاة، اعتمد المغرب رزمة من الإصلاحات التشريعية والتنظيمية لتوسيع حقل الحريات والممارسات الديمقراطية، ولتمكين الأحزاب السياسية والهيئات النقابية والمنظمات غير الحكومية للاضطلاع بالأدوار التي ينيطها بها الدستور. وفي هذا تباينت الآراء، فهناك من حدد هذه الإجراءات، وهناك من رآها حبرا على ورق. كما اعتبر الكثيرون أن الملك محمد السادس لم يقم إلا بتتميم وتحسين ما أطلقه الملك الراحل الحسن الثاني حينما تقرب من أحزاب المعارضة.

والغرض من ملف هذا الأسبوع لا يتوخى ترويج صورة وردية ولا صورة سوداوية، وإنما يسعى إلى جرد جملة من المواقف والمعلومات والوقوف على بعض المحطات وتتبع بعض التقييمات، وقد يصيب في بعضها وقد يخطئ في بعضها الآخر، كما قد يتفق بخصوصها كل الناس أو بعضهم، وقد يختلفون حولها، جزئيا أو كليا، لكن المسعى هو تكريس ثقافة لجرد الحصيلة في كل مرحلة وتقعيد عادة تمحيص البارحة واليوم لإعادة الغد؛ وهي ثقافة لا زلنا نفتقدها في مجتمعنا، علما أنه لا يمكن الحديث عن ثقافة المساءلة دون ثقافة التمحيص.

+ + +

هكذا كانت البداية

منذ السنة الأولى لحكم الملك محمد السادس، تأكد سمو المرجعية الإسلامية والتمسك بمقتضيات البيعة، وأن شخص الملك مقدس لا تنتهك حرمته. وقد كان هذا أكثر من كافي كرد على من طالبوا بجعل الملكية المغربية مؤسسة رمزية. وهذا ما سطره الخطاب الملكي في 20 غشت 1999. علما أن السنة الأولى، عرفت بسنة تعزيز الحريات، والعناية بالملفات الاجتماعية، ومعالجة جريئة لبعض الملفات السياسية المزمنة، لاسيما اعتراف الدولة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وانتعاش الأمل في انتظار التغيير.

عموما تميزت السنة الأولى بانفراج سياسي، لكن بضعف الاقتصاد وتعثر كبير في سيرورة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وبمجرد انتهاء السنة الأولى من العهد الجديد، برزت من جديد الانتقادات الحادة بخصوص مردودية الأداء الحكومي، لاسيما وأن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ظل يسير نحو التصاعد والفقر والتهميش، وبدأت مرحلة خسوف الأمل الذي انتعش في السنة الأولى من العهد الجديد، وساد الإحباط مرة أخرى. آنذاك، أقر أكثر من تقرير محلي وإقليمي ودولي أن الحالة الاقتصادية للبلاد على حافة الانهيار. هذا في وقت تجاوزت نسبة البطالة 22 في المائة، وتنامى الفقر ليطال أكثر من 47 في المائة من سكان المغرب (أكثر من 14 مليون نسمة).

أما على الصعيد السياسي، فقد تأكد منذ البداية التزام العهد الجديد بالتوجهات السياسية لعهد الملك الحسن الثاني دون إحداث تغييرات في نمط الحكم والتدبير السياسي.

وقد تبين أن التركيز اتجه، بالأساس، نحو إعادة صياغة التوازنات بين الجهاز المخزني التقليدي، من خلال هيكلة استئساد الأجهزة الأمنية، وعلاقة التوازنات المذكورة بالمزيد من تقوية سلطة الملك وموقعه – وكذلك باعتماد خطاب يقوم بالضرورة على فلسفة دولة الرعاية خلافا لدولة الضبط.

وتزامن ذلك مع اشتداد التوتر في العلاقات المغربية الجزائرية واندلاع سباق تسلح مغاربي غير متكافئ. واتضح ضعف دور المغرب على الصعيد الإفريقي، أما على الصعيد الداخلي فقد تأكد بجلاء استمرار نفوذ لوبيات المصالح والفساد في أجهزة الدولة ومافيات النهب والرشوة والتهريب وشبكات المخدرات، المدعمة من طرف جهات وازنة، وأحيانا متموقعة في السلاليم العليا في هرم المسؤولية.

وكانت السنة الثانية لعهد محمد السادس محطة لمحيط التوجهات، ومدى الانطلاقة الفعلية لمنطق التغيير بالمغرب، كما كان منتظرا منذ السنة الأولى من العهد الجديد. وبرزت مشكلة ضعف تفاعل الجهاز الحكومي مع حركية المؤسسة الملكية في مختلف المجالات. علما أن الحكومة لم تعد مهتمة إلا بشيء واحد لا ثاني له، وهو ضمان نجاحها في الحفاظ على التوازنات المالية العامة في ميزانية الدولة على حساب مختلف المجالات الاجتماعية؛ وبذلك تفاقمت وتيرة تردي الأوضاع الاقتصادية لأوسع الفئات الاجتماعية ولازالت وتيرة التردي في تصاعد إلى يومنا هذا. وتزامن هذا الأخير مع انحسار ملحوظ في مد الانتقال الديمقراطي والمزيد من الانصياع للضغوطات الخارجية، الشيء الذي فعّل من جديد، وبدرجة أقوى، آليات توليد وإعادة إنتاج الإحباط تلو الإحباط.

+ + +
نهج الملك

ظلت المؤسسة الملكية بالمغرب تحافظ على وظيفة مزدوجة تجمع بين الحكم والتحكيم، مما جعلها تتحكم في التوازنات السياسية وتوجيهها في الوجهة التي تريد؛ وهذا ما تأكد منذ السنوات الأولى لاعتلاء الملك محمد السادس لعرش البلاد.

ففي السنة الأولى والثانية، من عهد الملك الشاب، تأكدت سمة عامة في نهج الحكم وتدبير الشأن العام، وهو نهج مزدوج كذلك اعتمد على منطقين متناقضين: التدخل والانسحاب.

لقد لوحظ تدخل في التدبير اليومي للحكومة، وقال أحد المتتبعين إن هذا التدخل كان يرمي بالأساس إلى استعادة الهيبة للدولة (المخزن) وضبط المجال السياسي والاجتماعي، أما الانسحاب فقد خصّ إرساء التوجهات لصالح الحكومة. آنذاك دعت عدة جهات بالمغرب إلى أن يسود الملك ولا يحكم، مطالبة بالإقرار بنظام ملكي برلماني، يستند إلى المعايير الدولية للأنظمة الملكية البرلمانية، وحكومة قائمة الذات تتوفر على جميع السلطات والوسائل لتسيير شؤون البلاد وإعادة السيادة الكلية إلى الشعب المغربي.

هذا في وقت سعى فيه الملك إلى التحرر من قيود الماضي وإكراهاته عبر اعتماد نهج للحكم مغاير عن نهج والده. ولم يكن هذا المسعى ممكنا إلا عبر تحقيق مصالحة المغاربة مع أنفسهم. فمنذ بداية عهده اتجه الملك إلى المهمشين من معوزين ومحرومين ومعوقين إلى أن لقب بملك الفقراء، وتمأسس هذا المنحى في مؤسسة محمد السادس للتضامن.

وقد نعت بعض المحللين هذه المرحلة بسياسة العمل الخيري.

آنذاك في مقابلة أجرتها معه الصحيفة الألمانية "فيلت"، في صيف 2000، قال الشيخ عبد السلام ياسين: "الملك محمد السادس ديناميكي للغاية، فهو يسافر كثيرا، إلى فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهو يبذل جهده لتحصيل الاستثمارات لبلادنا، لكن الشعب يزداد فقرا، ونصف الناس أميون (...) لكن نحن لا نعيش في ديمقراطية".

وعموما برز دور الملك في جملة من الدوائر من اختصاص الحكومة والبرلمان بامتياز. وفي هذا الصدد برهنت الحكومة والبرلمان معا عن فشلهما الذريع بخصوص جملة من الملفات الحساسة، خاصة في مجال الانتقال الديمقراطي، وقضية المرأة، ومشروع إصلاح التعليم، والمجال الديني، والسياسة الاجتماعية والاقتصادية.

وهذه كلها مجالات وملفات، ارتبطت بشكل كلي أو جزئي بالملك والحركية الملكية وتوارى دور الحكومة بخصوصها بشكل ملفت للنظر.

إن مختلف القرارات المتخذة منذ السنة الأولى والثانية من حكم الملك محمد السادس ساهمت بشكل كبير في شعبية المؤسسة الملكية، وتعميق التفاف القوى الحزبية لها، وإبقاء المؤسسة الملكية بقوة في إدارة التوازنات السياسية بالمغرب. وهو ما لعب دورا هاما في تقوية وتوسيع المجال الملكي الخاص المرتبط بوزارات السيادة خارج دائرة الحكومة. ولربما أن هذا المسار هو الذي يفسر عودة الشعور بالإحباط من جديد بعد معاينة استمرار تردي الأوضاع الاجتماعية.

+ + +
مغرب محمد السادس بين القطيعة مع الماضي والاستمرارية

سعى الملك محمد السادس منذ اعتلائه العرش إحداث تمييز بين الماضي والحاضر، ولم يكن بد من الكشف على جملة من خبايا الماضي علانية والإقرار بحدوثها. وبذلك تم فضح جرائم الماضي، لاسيما تلك الخاصة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وغيرها من فضائح نهب المال العام والفساد.

وإذا كان الإقرار بتجاوزات وانتهاكات سنوات الجمر والرصاص والذي قد يفيد بالقطيعة، إلا أن المنحى الغالب في واقع الأمر هو نبذ فكرة القطيعة والتركيز أكثر على الاستمرارية. ويعود ذلك لأكثر من سبب، إضافة إلى رابطة الأبوة، بحيث لا يمكن حصر الماضي القريب في القمع فقط والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان رغم استمرار حدوثها وفداحتها. فالملك الراحل الحسن الثاني هو الذي أعطى انطلاقة التداول على السلطة وإن لم يشرعها، كما أنه في عهده تم الإقرار بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بعد مرحلة الإنكار، وفي عهده أيضا أفرج عن أغلب المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي وأفرغ معتقل تازمامارت. إن إرهاصات مسار التغيير والتحول انطلقت في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، ومن هذه الزاوية يصعب الحديث عن القطيعة، اللهم إلا إذا اعتبرنا استبدال مركزية النظام بالدولة، إذ في عهد الملك الراحل اعتبر النظام (القصر) هو المركز. وفي عهد الملك محمد السادس، بدأ منحى في اتجاه اعتبار الدولة هي المركز، علما أن موقع شخص الملك والقصر ازداد ثقلا من الناحية الاقتصادية مقارنة مع ما كان عليه الحال سابقا. بمعنى أن التعامل حاليا مع مفهوم الدولة بالمغرب هو الأقرب إلى الحداثة، إذ أن المغاربة شرعوا في التمتع بحس الدولة، ففي السابق كان ينظر إلى النظام ككيان متعال وفوق كل شيء.

والآن تبدو المؤسسة الملكية أقوى من أي وقت مضى، معتمدة على أشخاص لم يستثمروا تاريخهم كما كان الحال في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وإنما أشخاص يعتمدون أولا على نجاعة التدبير.

+ + +
الفهم الشعبي لفحوى العهد الجديد

إن الفهم الشعبي الشائع لفحوى العهد الجديد ظل يعني - لاسيما في البداية - جعل السلطة أكثر قربا من المواطن لخدمته وليس لتعكير صفوة حياته، وكذلك الدفع في تحريك ملفات الفساد وتنحية كل من أياديه ملطخة عن الصورة، وهذا إضافة لمعاينة تحسين الأوضاع المعاشية، والتخلص من الإحباط لاستعادة الأمل في الغد القريب.

ويبدو أن الفهم الشعبي لفحوى العهد الجديد كان مخالفا للفهم الرسمي، إذ كان المغاربة ينتظرون مكافحة الفساد، وإصلاح الإدارة، واستقلال القضاء، وتمكين المواطن المغربي البسيط من الشعور بمواطنته كاملة غير منقوصة. وهذه أمور لا تنفع معها خطابات، وإنما وجب معاينتها على أرض الواقع المعيش، هذا الواقع الذي لم يزدد إلا ترديا وهنا مربط الفرس.

+ + +
صناديق الملك

لاحظ الجميع أن المشاريع الكبرى والقوانين المهمة لم تصدر عن الأحزاب والحكومة، وإنما كانت مبادرات ملكية، إضافة إلى أن تنفيذ البرامج الكبرى، والتي ظل يسطرها الملك، تضطلع بها هياكل وهيئات أنشئت بقرار ملكي، كما هو الشأن بالنسبة لجملة من الصناديق، المجلس الاستشاري لشؤون الصحراء، والمجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري، ووكالة تنمية أقاليم الشمال، والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وديوان المظالم.

لقد قام الملك محمد السادس منذ بداية العهد الجديد بأهم الأدوار التنفيذية. وتأكد هذا المنحى عندما سحب من الحكومة الإشراف على تأهيل الاقتصاد الوطني، بعد فشلها ليشرف عليه مباشرة. وفي هذا الإطار تم سحب مسؤولية وزارة المالية عن صندوق الحسن الثاني للتنمية وتأسيس لجنة خبراء في المناطق الاقتصادية تعمل تحت إشرافه، بالإضافة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي.

ومن الأمثلة البارزة التعامل مع قطاع السياحة، إذ اختار الملك النهوض بهذا القطاع كوجه للسياسة التنموية من أجل تحقيق التنمية المستديمة، عبر جعل السياحة رافعة للنمو الاقتصادي وقاطرة للتنمية. ومن أهم البرامج بهذا الخصوص، "المخطط الأزرق"، لإنشاء محطات سياسية شاطئية بدعم من صندوق الحسن الثاني للتنمية المقدرة كلفته الاستثمارية بأكثر من 45 مليار درهم وقد تم تفويت مشاريعه لفائدة متدخلين دوليين ومغاربة.

وأضحت الملفات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى تدار وتدبر خارج دائرة الحكومة بواسطة صناديق تابعة مباشرة للملك، لكنها ممولة بالأموال العمومية.

+ + +
المجال الاقتصادي والاجتماعي "تقدم التردي"


لا يخفى على أحد الآن أنه مازالت هناك صعوبات جمة في القيام بتغيير حقيقي على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، رغم إعلان الخطابات الرسمية عن الرغبة في تحسين الأوضاع. وقد تأكد بالملموس قتامة الوضعين الاقتصادي والاجتماعي بفعل استمرار تردي أوضاع أوسع الفئات، واستشراء حجم الفقر، إلى درجة أن بعض المحللين أقروا باحتضار الطبقة الوسطى.

لقد صدر الكثير من الوعود والشعارات، إلا أن أغلبيتها الساحقة لم تترجم إلى قرارات نوعية، يلاحظ المغاربة آثارها على ركح الحياة اليومية. وعلى العكس من ذلك، لم يلاحظوا إلا المزيد من تعثر تنشيط الحياة الاقتصادية، وارتباك تفعيل القطاع الخاص، وعدم جدوى إصلاح عدد من القطاعات (التعليم، الإدارة، القضاء...)، إلى جانب هذا وذاك هناك استمرار تردي ظروف العيش.

إذن، ظلت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية حاضرة، وظل معدل النمو ضعيفا جدا يكرس حصيلة سلبية، وهذا بالرغم من أن وزارة المالية دأبت على التستر على هذا الوضع بالترويج لجملة من الجوانب – بمعزل عن الصورة العامة القاتمة – وقد تبدو إيجابية في حد ذاتها، من قبيل تراجع الدين الخارجي، دون الإقرار بأن نسبة 3 في المائة كمعدل للنمو تعتبر ضعيفة، بل سلبية، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال تأهيل للاقتصاد الوطني ولا إعطاء الانطلاقة لسيرورة تنموية فعلية، وإنما تساهم في توسيع مدى المعضلات القائمة؛ وبذلك تنضاف عراقيل جديدة، داخل هذه الحلقة المفرغة الذي ظل المغرب يعيش فيها على امتداد العهد الجديد في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.

ففي بحر 7 سنوات من حكم الملك محمد السادس، ظلت ميزانية الدولة مرهونة بالتوازنات، الشيء الذي زاد من تقزيم معدل نمو الناتج الداخلي الخام، وبالتالي الثروات المضافة. وهكذا ظلت البطالة تتنامى ويتسع مداها، وارتفعت نسبة الفقر، وتدنت الاستفادة من الخدمات الاجتماعية الضرورية، على علتها، بشكل لم يسبق له مثيل من قبل بالمغرب، وقد تأكد هذا المنحى منذ السنوات الثلاثة الأولى للعهد الجديد، إذ تصاعدت نسبة ازدياد الفقر من 7 في المائة إلى 9.9 في المائة، مما يؤكد بوضوح تآكل وتقهقر القدرة الشرائية لأوسع الفئات وتدهور ظروف عيشها؛ وهذا وضع لا يتماشى كليا مع شروط تفعيل انطلاقة تنموية مستديمة.

+ + +
المعارضة في عهد محمد السادس


هل يمكن أن نتحدث عن وجود معارضة حقيقية في مغرب محمد السادس؟ إنه سؤال مطروح، لاسيما وأن البعض يقر باستمرار غليان في المجتمع المغربي.

فإذا كانت أول معارضة ظهرت بالمغرب كانت في عهد محمد الخامس، إلا أنها لم تكن معارضة ضد النظام، وإنما جاءت أصلا ضد الحزب المهيمن آنذاك؛ أما في عهد الحسن الثاني فقد ظهرت معارضات، منها من كانت من صنعه ودعمه وتشجيعه وتأييده، ومنها من كانت معارضة للنظام الملكي، وكانت تنشط داخل المغرب وخارجه.

آنذاك وجه الملك الحسن الثاني أكبر اهتماماته لمواجهتها في إطار حرب باردة تارة، وعلنية شرسة أحيانا كثيرة. وهذه الفترة تزامنت مع مرحلة سنوات الجمر والرصاص. أما في عهد الملك محمد السادس، فقد تميزت بضعف المعارضة السياسية (في إطار اللعبة السياسية) وبمعارضة التيارات الإسلامية المتطرفة خارج دائرة اللعبة، كما تميزت كذلك ببعض المناوشات، من حين لآخر، مع جماعة العدل والإحسان.

ويبدو أن ضعف المعارضة وتراجع تفعيل الصراع السياسي، في إطار قواعد اللعبة السياسية، ناتج بالأساس عن فشل التنظيمات والهيئات السياسية المغربية في تكوين جيل ما بعد الاستقلال وجيل ما بعد السبعينيات وفقدان الثقة في العمل السياسي، بفعل ما أصاب الأحزاب المغربية من فتور وهوان وصراعات شخصية كشفت عن جملة من خبايا القادة السياسيين وتواطئهم؛ وفي ظل هذا الضعف البين أضحى الملك محمد السادس هو الفاعل الأساسي، واقتصر دور الحكومة على تنفيذ برامج الملك، وعلى رأسها الآن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.

كما أصبح من شبه المؤكد أن الصحافة المستقلة، وبعض جمعيات المجتمع المدني، هي التي أضحت تلعب الآن دور معارضة حقيقية، ليس للحكومة (التي هي خارج التغطية)، ولكن للملك باعتباره هو الفاعل الوحيد، حاليا في مختلف الميادين.

وفي ظل هذا الجو، ظهرت أصوات نادت صراحة باستبدال الملكية في المغرب بنظام جمهوري، من أمثال عبد الله زعزاع، المعتقل السياسي السابق والمحامي عبد الرحيم برادة، وعبد الحميد أمين الذي صرح أنه جمهوري وكذلك ندية ياسين، علما أن جماعة العدل والإحسان أعلنت أن هذا الموقف لا يلزمها وإنما هو وجهة نظرها.

كما برزت جمعيات تقوم بالأدوار التي من المفروض أن تقوم بها الأحزاب السياسية. وهكذا أصبح بعضها (الجمعيات الحقوقية وجمعيات حماية المال العام) يعكس نبض المجتمع أكثر مما تفعله الأحزاب السياسية.
ولعل أبرز معارضة تميزت بها 7 سنوات الأولى، من حكم الملك محمد السادس، معارضة ابن عمه الأمير مولاي هشام.

و إن دل هذا على شيء، فإنه يدل على أن الفراغ هو السائد في الركح السياسي والحزبي، وهو أمر لا يمكنه أن يخدم مسيرة الانتقال الديمقراطي.

+ + +
الإصلاح الدستوري

لازالت إشكالية الإصلاح الدستوري قائمة بالمغرب، باعتبار أن هناك شبه إجماع على ضرورة ترسيخ فعلي لفصل السلطة كشرط أساسي (بل شرط عين)، لتحقيق انطلاقة فعلية لمسار انتقال ديمقراطي حقيقي. ولعل ما جعل إشكالية فصل السلطات، قائمة منذ أمد طويل بالمغرب، الرغبة في الإقرار بالمنع الواضح والكلي لتدخل السلطة التنفيذية في السلطة القضائية. ويقر البعض أنه من الواجب تعزيز فصل السلطات بالإقرار بمبدأ أسبقية القانون الدولي عن القانون المحلي الذي يجب أن يتكيف معه في مختلف المجالات.
إن التعديل والإصلاح الدستوري ظل حاضرا باستمرار منذ أن اعتلى الملك محمد السادس العرش، إنه من الانتظارات الدائمة.

علما أن الإصلاح الدستوري في العهد الجديد، أضحى يعني بالنسبة للكثيرين مسارا واحدا لا ثاني له، وهو الرامي إلى تقليص صلاحيات الملك والملكية. كما أن بعض الأصوات ظلت تؤكد على أن الدستور المغربي دستور ممنوح وغير ديمقراطي، من حيث إعداده ومضمونه والاستفتاء عليه.

ومن الأمور التي ظلت تثير انتباه فقهاء القانون الدستوري بالمغرب، كون أن مطالبة المجلس الدستوري بمراقبة دستورية، قانون لا يزال مشروطا بقبول ربع البرلمان أو بالإرادة الملكية. وبذلك من الممكن أن تكون هناك جملة من القوانين غير الدستورية يجري العمل بها، وهذا ما يضرب في الصميم سمو الدستور عن كل القوانين. ومن الأمثلة في هذا الصدد، حالة محكمة العدل الخاصة، إذ رغم عدم دستوريتها، ظلت تعمل على امتداد سنوات طوال، وبذلك خلفت ضحايا ألحقت بهم وبدويهم أضرارا بالغة، وفي نهاية المطاف تبين أن وجودها لم يكن دستوريا أصلا. أما من الأمثلة الحديثة، حالة "قانون الإرهاب" و"قانون الأحزاب"، وكلاهما يتضمنان مقتضيات مناهضة للدستور الحالي؛ والمطالبة بمراقبة مدى دستوريتهما تستوجب، إما مطالبة الملك بذلك أو من طرف ربع البرلمان، وإلى حد الآن لم تحضر الرغبة في ذلك، وهذان هما السبيلان الوحيدان للقيام بذلك.

ومهما يكن من أمر فإن الجهوية المعتمدة والحكم الذاتي يستوجبان تعديلا دستوريا.

+ + +

الخائفون

إن المستفيدين من سيادة الفساد بالأمس القريب، أضحوا الآن خائفين على ضياع مصالحهم التي حققوها بأساليب مشبوهة أو بحكم القرب من البلاط. بل هناك منهم من أضحى خائفا، ليس فقط، على وضعية النعمة والرفاهية المفرطة التي يتمرغ فيها، وإنما كذلك من المساءلة. لاسيما وأن الجميع أقر بسيادة الفساد والنهب كنمط لتدبير الشأن العام بالأمس، علما أن الكثير من هؤلاء لازالوا يحتلون إلى حد الآن مواقع مهمة في دوائر ودواليب صناعة القرار بالمغرب.

وقد لعبت الصحافة المستقلة، وبعض الفعاليات الحقوقية دورا كبيرا في الكشف عن عدد من أولئك الخائفين الآن.

وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن التراجعات على صعيد الحريات العامة (على المستوى الإعلامي وعلى المستوى الحقوقي) ارتبطت بالأمس بتدخل جهات أمنية وازنة اعتبرت نفسها مستهدفة، وبالتالي تحركت لإفشال آليات ترسيخ ثقافة المساءلة.

لاسيما وأن الحقوقيين وبعض الصحف المستقلة دأبوا على نشر لائحة جملة من المسؤولين والمطالبة بمساءلتهم عن الانتهاكات الجسيمة المقترفة، علما أن بعضهم لازالوا يحتلون مواقع صنع القرار في مجالات حساسة، وهذا أمر لم يتقبله العديد من الحقوقيين.

+ + +

معضلة التشغيل

استفحلت معضلة التشغيل بالمغرب في العهد الجديد إلى أقصى الدرجات، إذ بلغت أوجها كميا ونوعيا، حتى لا يكاد يخلو بيت من تواجد عاطل أو أكثر من بين أفراده. وقد زاد من استفحال هذه الظاهرة كون البطالة أضحت مشكلة سوسيو - بنيوية، بالرغم من الطفرة الانتعاشية والنمو الاقتصادي؛ لكنها، مع ذلك، ما فتئت تتفاقم سنة بعد أخرى.

ولعل أهم أسباب هذه المعضلة يعود، أساسا، إلى نقص معدل النمو الاقتصادي، وكذلك نتيجة لنهب الثروات الوطنية ولخلل في القدرات الاقتصادية المحلية – الوطنية؛ مما دفع الباحثين والمهتمين إلى اعتبار ظاهرتي البطالة والفقر آفة مركبة اقتصاديا، واجتماعيا، وأخلاقيا.

ومما يزيد الطين بلة أن المنظومة التعليمية مازالت سائرة نحو تكريس الظاهرة واستفحالها. ومن مظاهرها حاليا، بروز معضلات أخرى، كالتسول والدعارة و"الحريك"؛ ناهيك عن توسع دائرة الاقتصاد غير المنظم، الذي يفوق أكثر من 57 في المائة، وهي نسبة لم تستطع خلق نمو اقتصادي فاعل وتوازن اجتماعي يحولان دون تفاقم المعضلة، وذلك بالرغم من مبادرات الدولة (إيجاد حلول ناجعة) في ميدان التشغيل، لكنها باءت كلها بالفشل أمام تفشي الظاهرة واستفحال المعضلة.

أما بخصوص الإحصائيات الرسمية، فإن أغلب المحللين الساعين لتقييم الواقع الفعلي بدون "ماكياج"، فيقرون أن إحصائيات الدولة قد ألغت عدة فئات لم يشملها الإحصاء؛ أضاف إلى ذلك عدم الالتفات إلى مشكلة البطالة المقنعة التي لا ترقى إلى مستوى "العمل المضمون"، الذي يحقق لصاحبه نوعا من الاستقرار (المادي والاجتماعي والنفسي)، وبالتالي شكلا من أشكال (الكرامة" الإنساني، واعتباره بمثابة شغل قار!!

ولا شك أن عدد الذين استبعدتهم الإحصاءات الرسمية، يفوق، 2.6 مليون نسمة، مما يجعل البطالة في نمو مطرد تصل نسبته إلى 26 في المائة لماذا؟ ربما لغرض في نفس يعقوب، بلا أدنى شك.

إن تشخيص معضلة البطالة واستفحالها بالمغرب بشكل لم يسبق له مثيل، يفرض علينا ربطها أساسا باقتصاد الريع، والامتيازات، والأجور "الطيطانيكية"، والرشوة، ونهب المال العام، وتجارة المخدرات، وغض الطرف عنهم والتواطؤ معهم على امتداد سنوات طويلة وتكريس توزيع مجحف للدخل والثروات الوطنية. هذه في واقع الأمر، هي الأسباب الحقيقية لاستفحال البطالة ببلادنا، ومع الأسف الشديد لا تلقى هذه الأسباب أي اعتبار في مختلف السياسات المبلورة للتصدي لهذه الآفة. مما يؤدي إلى إعادة إنتاج نفس آليات تهميش الكفاءات ودفع ذوي الخبرة والسواعد والأدمغة المغربية إلى الهجرة.

عموما لازالت عقلية الامتيازات، والتملص الضريبي، ونهب المال، وغياب الديمقراطية، والرشوة والزبونية، والمحسوبية، وغياب محاسبة مقترفي الانتهاكات الاقتصادية والاجتماعية في حق الوطن والمواطن، تساهم كلها في استفحال آفة البطالة والفقر وتغتال سياسة التشغيل المجدية.

قد تدفع الانتخابات التشريعية لسنة 2007 للبحث عن بعض منافذ التشغيل خوفا من أن يقود استفحال البطالة إلى المقاطعة أو إلى العزوف الواسع عن التصويت، ما دام أن مختلف السياسات المتبعة ظلت تقود إلى دائرة الحلقة المفرغة للفقر والتخلف وبالتالي إلى التردي واستفحال البطالة.

وفي هذا الصدد يقول البعض إن الإطار الوحيد لعلاج البطالة المستشرية بالبلاد يتوقف على اعتماد تنمية مستديمة، تقوم على تحقيق معدلات عالية من النمو؛ ولن يتم هذا إلا من خلال تغيير بنية الاقتصاد الوطني وتوسع الطاقات الإنتاجية وخلق فرص متزايدة للتشغيل، وهذا في حد ذاته يدعو إلى التفكير بمنطق مختلف عن منطق ومنظور المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) التي ظلت تملي علينا سياساتها منذ فجر الثمانينات ولا نحصد منها إلا المزيد من الإحباط وتردي الأوضاع. ولن يقو أحد على الإنكار أن البطالة بالمغرب تفاقمت حينما توقفت جهود التنمية وتراجعت الدولة عن وظائفها الاجتماعية وعندما احتدمت أزمة المديونية الخارجية بفعل استئساد مافيات النهب والامتثال لتوصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتبني سياسات ليبرالية السوق من عشية إلى ضحاها دون إعداد المجتمع لها وفي وقت ظلت أوسع الفئات تنتظر فيه ولازالت معاينة ظروف عيشها لكن بدون جدوى. هذه هي بعض الأسباب الحقيقية والفعلية لاستفحال البطالة ببلادنا، أراد من أراد وكره من كره. لأنها أسباب أقوى من تلك التي يتم الترويج لها من قبيل. أن معضلة البطالة ظاهرة عالمية تعاني منها حتى الدول المتقدمة.

+ + +

المعطلون حاملو الشهادات

رغم عدم الاعتراف الرسمي، تميز الركح الاحتجاجي المغربي، في السنوات الأخيرة، بتنظيم صفوف المعطلين ( حاملي الشهادات، الأطر العليا، المكفوفين، المعاقين...)، للمطالبة بالحق في التشغيل، ولازالت الحكومة إلى حد الآن تعزف عن الاعتراف بوجود جمعيات المعطلين رغم أنها ظلت فاعلة عشرات السنين.

ومن المعلوم أن أعضاء هذه الجمعيات ذاقوا الكثير من الوبال والتنكيل بهراوات رجال الأمن، بل إن بعضهم قد اختفى في ظروف غامضة إما في مخفر الشرطة أو ساحة الاحتجاج (أمام مقر البرلمان) أو في أماكن أخرى... كما اعتقل وحوكم المئات منهم.وكل هذه الأحداث ظلت صادمة للعقل ومناهضة لمسلسل الديمقراطية وداعية بقوة إلى حضور رغبة في طي صفحة الماضي.

ونذكر، على سبيل المثال لا الحصر، أن اتحاد الأطر العليا المعطلة، فيما بين 2002 و 2005، قد شهد أكثر من 70 حالة اعتقال تعسفي، وأزيد من عشرين حالة إجهاض في صفوف مناضلات تلك الجمعيات، ناهيك عن الآلاف من ضحايا هراوات رجال الأمن مما أدى إلى رضوض صحية خطيرة (كسور، كدمات، جروح... دون تمييز بين الذكور والإناث)!!

والمؤسف في الأمر أن الدولة لم تعترف بعد بتلك الجمعيات التي أجرت ما يفوق 730 حوارا مع مسؤولين محليين وجهويين، ووطنيين، لم تفض بطبيعة الحال إلى أية حلول مرضية – ولا إلى نتائج مقنعة.

ويرى أحد المحللين الاجتماعيين أن نهج تعامل الدولة مع جمعيات المعطلين من شانه دفع هؤلاء إلى المزيد من التنظيم واللجوء إلى الدعوة من أجل توحيد كل الجمعيات؛ وهذا أمر لن يؤدي إلا إلى مزيد من إحراج الدولة، إذ إلى متى ستظل الهراوات الأمنية تنهال على الرؤوس باعتبار أن المطالبة بالشغل صراع يمارسه المعطلون، وبالتالي لا خيار للدولة، الآن إن هي أرادت فعلا احترام قواعد دولة الحق والقانون إلا تسطير ضوابط هذا الصراع بكل شفافية، وأول خطوة هي الاعتراف بهذه الجمعيات، ما دامت هي موجودة وقائمة منذ أكثر من عقد من الزمن، لتأسيس حوار مجدي تفعيلا لمشاركة فعلية، خصوصا وأن تلك الجمعيات تدافع على مطالب تتبناها أوسع الفئات الاجتماعية، منها دستور ديمقراطي يضمن فصلا للسلط وتفعيل قواعد المراقبة المالية والقبلية والبعدية، واعتبار الجرائم الاقتصادية جرائم ضد الإنسانية.

+ + +
مؤسسة الجيش

منذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني ارتبطت مؤسسة الجيش بشخص الملك، وبذلك ظلت خارجة عن دائرة المراقبة، بل اكتسبت قدسيتها من قدسية شخص الملك، وهكذا اكتسبت صفة عدم خضوعها للمساءلة من أي جهة ومن أي سلطة. علما أنه من الناحية الدستورية المحضة، لا شيء يمنع البرلمان من استدعاء ضباط سامين في الجيش لمساءلتهم، لكن لم يسبق أن سمعنا بهذا بالمغرب، لاسيما وأنه ساد اعتقاد راسخ بين البرلمانيين والوزراء، منذ العهد الحسني، مفاده أن الملك لم يكن يستحسن المطالبة بمساءلة جنرلاته، ولازال هذا الاعتقاد سائدا إلى حد الآن. هذا ما أكده الدكتور محمد الغمري، المتخصص في القانون العسكري.

ومن المعلوم أن الجهات التي رفضت التعاون مع هيئة الإنصاف والمصالحة لجلاء الحقيقة، مؤسسة الجيش، وذلك رغم التعليمات الملكية الواضحة بهذا الخصوص.

وحسب أغلب المحللين السياسيين لازال عناصر من الجيش، يشكلون جيوبا لمقاومة مسار الانتقال الديمقراطي والتغيير الفعلي.

ولقد طفت على السطح عدة مؤشرات، تبين أن جملة من الرؤوس العسكرية غير راضية على المسار الذي يريد أغلب المغاربة أن يسير عليه المغرب.

فبعد صدور التقرير النهائي لهيئة الإنصاف والمصالحة، قال أحد الضباط السامين المضطلعين بمهمة عالية جدا في صفوف الجيش: "في المرة القادمة، إن انفجرت احتجاجات قوية، فلا يعتمد علينا الملك لإطلاق النار على المتظاهرين"، وقيل إن هذا الأخير أحس بنوع من الغبن عندما أطلع على فحوى تقرير الهيئة، وهذا رغم أن الجيش لم يتعاون معها، كما كان مطلوبا منه لإجلاء الحقيقة.

+ + +
المفهوم الجديد للسلطة

مع حلول العهد الجديد، وتفعيلا لمحاولة نسيان تجاوزات العهد السابق وما اقترفه رجال السلطة من فظاعات لازالت علاماتها وانعكاساتها قائمة إلى حد الآن، كان لزاما تجديد رؤية مذهبية مغايرة لجميع المتدخلين في تدبير الشأن العام، لاسيما رجال السلطة.

ومن المعلوم أن الملك محمد السادس أعلن عن الخطوط العريضة للمفهوم الجديد للسلطة، في خطاب 12 أكتوبر 1999، تمحورت بالأساس حول ضرورة القطيعة مع أساليب الماضي وتقعيد مختلف مهام ومسؤوليات السلطة، على ضمان حماية الحريات الفردية والجماعية، وصيانة حقوق المواطنين، وإتاحة الظروف المناسبة لترسيخ دولة الحق والقانون، في إطار الاختيارات الكبيرة المعتمدة، أي نظام الملكية الدستورية، التعددية الحزبية، الليبرالية الاقتصادية.

ولم يكن من الممكن اعتماد هذا المفهوم دون مراجعة لجملة من النصوص القانونية والتنظيمية، وعلى رأسها تلك المرتبطة بمهام الولاة والعمال الذين توسعت مهامهم بشكل لم يسبق له مثيل من قبل (علما أنهم معينون وليسوا منتخبين)، وهم الآن محور الرحى في تدبير الشأن العام.

+ + +
الانتقال الديمقراطي والديمقراطية المغربية

عرف الانتقال الديمقراطي تموجات غريبة بين الصعود والهبوط والركود. لقد سجل بعض التقدم وجملة من الانجازات، لكن لوحظ معه بعض الانتكاسات والإحباطات.

فبالرغم من الإعلان عن المفهوم الجديد للسلطة في صيف 1999، فقد ظل نظريا ولم يتكرس على أرض الواقع إلا بطريقة محتشمة جدا. وفي هذا الإطار لاحظ الكثيرون بروزا واضحا لتماطل الحكومة المريب، بخصوص مباشرة الإصلاحات الانتخابية ومراجعة نظام للاقتراع والتقطيع الانتخابي وآليات محاربة الفساد السياسي.

وجاءت أحداث 16 ماي لتقدم فرصة لتحقيق جملة من التراجعات في أكثر من مجال؛ لكنها أبرزت كذلك بشكل جلي أن الرغبة في التغيير، وتعديل النصوص، وتكثير فضاءات السجال والحوار، لا جدوى لها إن هي لم تتزامن مع إجراءات عملية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، فماذا تفيد بلورة نصوص متقدمة مشابهة لما هو قائم بالدول الأكثر تقدما إن كانت الأوضاع المعيشية لا تزداد إلا ترديا، والفوارق الاجتماعية تكريسا؟ ماذا تنفع تلك النصوص ما دام "مغرب" الأقلية، التي لا تكاد تبين عدديا، يزداد رفاهية و"مغرب" الأغلبية يزداد فقرا وتهميشا واندحارا.

لكن أحداث الدار البيضاء الدموية شكلت فرصة، تم الانقضاض عليها لتمرير قانون الإرهاب الذي أحيا من جديد "مارد سنوات الجمر والرصاص" (عقلية الهاجس الأمني دون أي اعتبار للصفة الإنسانية) تحت يافطة أن ذلك القانون لا يهدف إلى القمع، بقدر ما يسعى إلى تعزيز حريات وحقوق المواطنين، فضلا عن ضمان السكينة والأمن بالنسبة للأفراد والممتلكات. والآن تم اكتشاف أن آلاف المواطنين كانوا ضحية لهذا القانون، لدرجة أن بعض الأصوات دعت إلى إحداث هيئة للتحقيق بهذا الخصوص على غرار هيئة الإنصاف والمصالحة لأن الانتهاكات كانت هي كذلك جسيمة، تماثل بعض انتهاكات سنوات الجمر والرصاص التي أدانها الجميع.

وبموازاة مع ذلك اعتمد المغرب ما سمي "بالديمقراطية التشاركية" بعد اعتماد نمط اقتراع جديد وخفض سن التصويت إلى 18 سنة للسماح بمشاركة واسعة للشباب وفتح لائحة وطنية للمرأة ضمنت لها 30 مقعدا أنثويا بالبرلمان. إلا أنه سرعان ما خضع نمط الاقتراع وشروط المشاركة في اللعبة السياسية من جديد لجدال واسع، أرجع الإشكالية إلى نقطة البداية وانكشف بذلك تفعيل المكر السياسي وسياسة المكر. مما تأكد معه أن الديمقراطية التشاركية بالمغرب ما زالت في الطور البدائي للتجريب.

وإذا كانت هوامش الحريات العامة قد توسعت بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ المغرب لدرجة أصبحت بلادنا مرجعا بالنسبة لبلدان الجنوب، فإنه مع ذلك قد سجلت تجاوزات وانتهاكات جسيمة ومضايقات ذكرتنا بأوج "سنوات الجمر والرصاص"، وتم مرور الكرام عليها دون تفسير وتوضيح، ناهيك عن المساءلة وتفعيل ثقافة التقصي.

ويظل السؤال المركزي قائما، هل فعلا انطلق مسلسل انتقال ديمقراطي فعلي في عهد الملك محمد السادس؟ هناك من يقر بذلك، وهناك من يعتبر أن المغرب ما زال لم يحقق بعد تلك الانطلاقة. وأصحاب هذا الرأي الأخير يرون أن المخزن سعى فقط إلى ديمقراطية مغربية من نوع خاص وبأقل التكاليف الممكنة. ويكمن جوهر هذه الديمقراطية في تجديد النخبة المخزنية ("نيو مخزن" حسب تعبير الدكتور المهدي المنجرة) بمواصفات متطلبات العصر؛ هذا كل ما في الأمر، وبالتالي فإن دار لقمان مازالت على حالها من حيث الجوهر.

+ + +
المغرب و "سي إي يا"

تحدثت تقارير دولية وصحف مغربية وأجنبية عن مواقع سوداء أقامتها المخابرات الأمريكية بالعديد من البلدان بأوروبا وآسيا وإفريقيا، ومن ضمنها المغرب.

وفي غضون سنة 2005 نشرت أكثر من جهة إعلامية، وطنية وأجنبية، ما يفيد أن الاستخبارات الأمريكية نقلت إلى بلادنا بعض المعتقلين الذين كانوا محتجزين بالولايات المتحدة الأمريكية، في إطار محاربة الإرهاب وبتهمة انتمائهم إلى تنظيم القاعدة.

في البداية هاجمت الحكومة على كل الجهات التي كشفت نقل محتجزين من أمريكا إلى المغرب، واتهمتها بإثارة البلبلة وسط صفوف الشعب المغربي، بل هناك من مسؤولي الدولة من ذهبوا إلى حد اتهامها بالتعامل مع الخارج والاستخارة للإساءة المتعمدة للمغرب وزرع الفتنة. لكن ظهر بعد أيام أن نفي الحكومة لم يكن إلا للتغطية عن حقائق قائمة انفضحت كل حيتياتها، وفات على حكومتنا أن حبل الكذب قصير. إذ لم تمر إلا أيام معدودة عن تصريحات وزير الداخلية، ووزير الاتصال الناطق باسم الحكومة، والمفتش العام للقوات المسلحة الملكية، والقائمين على وكالة المغرب العربي للأنباء، والتي استأسدوا بواسطتها على كل الجهات الوطنية والأجنبية، حتى انكشف المستور وتأكد بالملموس أنه تم فعلا تنقيل محتجزين إلى المغرب من طرف واشنطن، بل هناك أحد ضحايا هذا التنقيل الذي فضح مكان احتجازه وأساليب التعذيب التي تعرض إليها. وتناسلت بعد ذلك التصريحات، وتبين أن عناصر أمنية مغربية اتجهت إلى معتقل كواتانامو لمد يد المساعدة للجلادين الأمريكيين؛ ومن الحالات التي كشفت المستور، محمد بنيام الذي استضافه مركز تمارة مدة 18 شهرا، والذي هو الآن بصدد استكمال ملف تقديم دعوة ضد المغرب بانجلترا بمساعدة إحدى المنظمات الحقوقية البريطانية – عملا بمقتضيات اتفاقية مناهضة التعذيب المصادق عليها من طرف المغرب، والتي تمنحه هذا الحق.

+ + +
مكافحة الإرهاب

أقر الكثيرون أنه، تحت ستار مكافحة الإرهاب، تمت "شرعنة" وتكريس انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وكانت وقتها هيئة الإنصاف والمصالحة بصدد التحقيق بشأن مثيلاتها مورست في عهد الملك الراحل الحسن الثاني وجبر الضرر بخصوصها. وهذا أمر ظل عصيا على الفهم، إذ لازال العديد من ضحايا تلك الانتهاكات ينتظرون الإنصاف، ما دام أن أكثر من جهة مسؤولة أقرت بكل وضوح بحدوث تجاوزات، إلا أن هذا الإقرار لم تتبعه أي محاولة لرفع هذا الحيف، وهذا أمر ظل هو كذلك عسير الفهم.

أكدت جملة من التقارير أن ملفي الاختطاف والاعتقال السياسي والتعسفي ظلت قائمة في السنوات الأولى من العهد الجديد. وهذا إضافة لحالات الوفيات، وحالات الشطط في استعمال السلطة. كما أن كل التقارير الحقوقية ركزت بشكل واضح على عدم استقلالية القضاء في هذه القضايا، بل بعضها نفت صفة العدل والنزاهة عن الكثير من الأحكام الصادرة. كما أن بعض الأصوات استنكرت التمييز بين المعتقلين السياسيين، إذ منذ السنوات الأولى للعهد الجديد رفضت حكومة اليوسفي الحديث عن أكثر من 50 سجينا سياسيا إسلاميا.

+ + +
جماعة العدل والإحسان

إن المتتبع للأحداث عبر 7 سنوات من حكم الملك محمد السادس، يلاحظ أن الجماعة استنكفت في البداية عن مسايرة السلطة في التصعيد، لكنها سرعان ما انخرطت في التصعيد المضاد دون الانزلاق إلى العنف، وفي هذا الصدد قال أحد قيادي الجماعة: "الحكومة نزلت أسفل دركات الخسران السياسي وحضيض الاستبداد الدموي [...] والحكومة ليست إلا عربة من العربات المجرورة في قطار المخزن المعروف بانجازاته السوداء في مضمار حقوق الإنسان"، وأضاف "إن كل هذا لن يؤثر على سير الجماعة لأنها كيان موجود بقوة الواقع والقانون".

سعى النظام دائما لمنع الجماعة بمختلف الوسائل، لأنها أضحت تمتلك آليات وأدوات التأثير في الصفوف الشعبية، لاسيما كلما اقتربت الاستحقاقات والانتخابات (وهذا ما تأكد من جديد مع قرب 2007). وهناك حقيقة أخرى لا يختلف عليها اثنين بالمغرب، وهي هاجس الخوف الكبير من حصول الحركة الإسلامية على الأغلبية، وهو أمر وارد إن شاركت فصائل وحساسيات الحركة الإسلامية في اللعبة السياسية، أراد من أراد وكره من كره. ويتأكد هذا المنحى بفعل الحصيلة الهزيلة جدا للحكومة، والتي لا تكاد تبين، منذ بداية العهد الجديد إلى الآن.

ويقر أغلب الملاحظين، أن السلطة، منذ اعتلاء محمد السادس العرش، سعت بشكل مباشر ومفضوح أحيانا، وغير مباشر ومغلف أحيانا أخرى، إلى اعتماد سياسات قمعية تجاه الجماعة بهدف عرقلة تجدرها في صفوف المجتمع المغربي، الذي لم يعد يحتاج إلى دليل.

ويبدو هذه المرة أن الجماعة اختارت التصعيد هي كذلك، لاسيما بعد أن توصلت إلى إحراج النظام خارجيا، علما أنه في كل مرة اعتمد فيها النظام سياسات التصعيد، صادف بعض الفشل الذي استفادت منه الجماعة عبر المزيد من تقوية مواقعها.

وهذا ما لم يقو بعد مبلورو السياسات الأمنية على استيعابه.

ففي السنوات الأولى من حكم الملك محمد السادس، بدأت تظهر إشارات قوية بخصوص تطورات جديدة في جملة من مواقف الجماعة قبيل فك الحصار على الشيخ ياسين صرح وزير العدل، عمر عزيمان آنذاك، قائلا إنه وضع الشيخ رهن الإقامة الإجبارية، وهذا غير صحيح من وجهة نظر القانون وحقوق الإنسان وأنه من حقه ممارسة نشاطه السياسي في إطار احترام اللعبة الديمقراطية؛ آنذاك دعا فتح الله أرسلان لمشاركة جميع الفاعلين السياسيين (بما فيهم الجماعة) لبناء مرحلة جديدة من أجل إخراج المغرب من مشاكله. لكن سرعان ما أعادت رسالة عبد السلام ياسين إلى الملك ("إلى من يهمه الأمر") علاقة الجماعة والسلطة إلى نقطة الصفر من جديد، وبذلك بدا بجلاء أن للسلطة والنظام حساباتهما وللجماعة هي الأخرى حساباتها كذلك، واتضحت الصورة، فما دامت الجماعة ترفض الاعتراف بالشرعية الدينية للملك بإمارة المؤمنين، فلا مجال للسماح لها بالنشاط.

وقد سبق لعبد السلام ياسين أن صرح في لقاء نشرته الصحيفة الألمانية "فيلت" في صيف 2000: "قبل ثلاثة أعوام عرضوا علينا تأسيس حزب سياسي، بشرط أن نقلع عن توجيه النقد إلى القصر الملكي، وهذا ما رفضناه. وعلى الحكومة أن تعلم أننا لسنا أقلية ولسنا نخبة متدينة، فنحن نمثل الأغلبية، أي الشعب ذاته، وبالطبع فإن لدى الحكومة مخاوفها من أن يحصل أصحاب اللحي على الأغلبية في الانتخابات (...) إن حركة العدل والإحسان تمثل أغلبية الشعب، وبذلك فإنها قادرة على اكتساح الانتخابات إن وجدت ديمقراطية فعلية".

ظلت سياسة السلطة تجاه الجماعة تسير في اتجاه واحد منذ حرب الشواطئ مرورا بالتصفية الإعلامية، والقمع الطلابي، ومنع الأنشطة الثقافية؛ وكلها إجراءات تروم إبعادها على أي فضاء سعيا وراء إضعاف امتداداتها الاجتماعية، لكن العكس هو الذي كان يحصل. وبالرغم من ذلك استمر النظام في اعتماد نفس السياسة ونفس النهج.

+ + +
الحركة الإسلامية

تميز العهد الجديد في بداية الأمر بتطورات وتحولات في المشهد الحركي الإسلامي، لاسيما بخصوص حركة التوحيد والإصلاح وحليفها حزب العدالة والتنمية وجماعة العدل والإحسان.

ومن المعروف، أنه إلى حدود التسعينيات، كانت المشاركة السياسية منبوذة في عرف الحركة الإسلامية، سواء من طرف فعالياتها أو من جانب النظام والنخبة السياسية.

ومن المعلوم أن الملك محمد السادس تطرق في أطروحته لنيل الدكتوراه، إلى إشكالية الحركة الإسلامية ودافع عن نظرة متوازنة، مفادها أن عدم الترخيص للحركة الإسلامية يدفعها إلى السرية واعتماد العنف، وهذا ما يهدد الاستقرار. وفي ذات الوقت يمكن اعتبار هذا الترخيص بمثابة تهديد المسار الديمقراطي، بل إنه قد يدفع القوى الخارجية إلى التدخل في شؤون البلاد الداخلية.

ويبدو أن السلطة السياسية في العهد الجديد اعتمدت نهج محاولة احتواء الإسلاميين، أي الاستمرار على نهج الملك الراحل الحسن الثاني، والمتمثلة في تقريب وإدماج التيارات المعتدلة المنخرطة في التنظيمات القابلة لشروط اللعبة السياسية، وبالمقابل تحجيم التيارات الرافضة والحد من تغلغلها في المجتمع، في حين تعامل النظام مع التيارات الهامشية باعتبار سياسة التجاهل.

وحسب أحد المحللين ارتكز تعاطي العهد الجديد مع الحركة الإسلامية بالمغرب على توجيه أجنني يرمي آنذاك إلى الحد من تأثير الفاعلين الإسلاميين في الركح السياسي، قصد صدهم قبل الخروج عن حدود السيطرة والضبط، تحسبا لتهديدهم للاستقرار بالمنطقة؛ وحسب المحلل، تأكد هذا التوجه بعد مظاهرة الدار البيضاء الضخمة بخصوص المرأة.

ومن أولى مؤشرات تدجين الفصائل المعتدلة للحركة الإسلامية، السماح لأحمد الريسوني (حركة التوحيد والإصلاح) بالمشاركة في إلقاء الدروس الحسنية.

بعد ذلك رفع الحصار عن مرشد جماعة العدل والإحسان، والسماح بتأسيس حزب البديل الحضاري الذي اختار سبيل المشاركة السياسية قصد التغيير الاجتماعي.

وعموما، بخصوص الحركة الإسلامية، تميز عهد الملك محمد السادس بهواجس التخوف من المد الإسلامي والخطر الذي يشكله على استقراره؛ الشيء الذي أدى إلى بلورة رؤية لتدبير الحقل الديني وإعادة هيكلته. وتأكد أنه بقدر ما كانت تتقدم التيارات الإسلامية في دعمها للنظام السياسي وقبول اللعبة بقدر ما يتوسع إدماجها.

بنى العهد الجديد سياسته تجاه الحركة الإسلامية على منظور مزدوج يتراوح بين الإدماج والاحتواء من جهة، والإقصاء والتصدي من جهة أخرى، فقد تم إدماج حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح، ومقابل ذلك الاستمرار في تحجيم جماعة العدل والإحسان. وبين هذا وذاك، اعتماد سياسة تجاهل بخصوص جملة من التنظيمات الإسلامية الصغيرة، وقد استغل النظام الخطابات المروجة بخصوص الخطر الأصولي إلى حد الذهاب إلى الانقلاب على الهامش الديمقراطي الذي انطلق مع بداية العهد الجديد.

+ + +
الملك والاقتصاد

إن القصر الملكي، في شخص الملك، أضحى اليوم المقاول الأول في المغرب، مع فارق بارز بين الأمس واليوم، إذ أن الرأسمال الملكي تخلى على جملة من القطاعات غير المربحة، وفي عهد الملك محمد السادس بدأ الاهتمام بتنمية الثروات الملكية بعقلية مقولاتية، وبالتالي السعي لتقوية الموقع القوي أصلا في النسيج الاقتصادي، وذلك بوضع اليد على قطاعات بكاملها. وفي هذا الصدد وجبت الإشارة إلى أن جملة من الجنرالات، عندما شعروا بأن الأمور أضحت تتحرك في اتجاه لا يرضيهم اضطروا للخروج من بعض القطاعات بطريقة تضمن لهم ولو جزءا من مصالحهم.

ولعل من أبرز الحالات حالة كل من الجنرال القادري وبنسليمان اللذان تخليا على شركة "كابن" KABEN (قطاع الصيد في أعالي البحار) لفائدة المجموعة الملكية "أونا".

+ + +
تجديد اتفاقية الصيد البحري

كان من المفروض استعمال ورقة الصيد البحري للدفاع عن وجهة نظر المغرب في المفاوضات مع أوروبا لفرض مصالحه. وفعلا في البداية وظف المغرب هذه الورقة بنجاح من خلال رفض تجديد الاتفاقية، إلا أنه، في نهاية المطاف، عمد إلى الاكتفاء بتعديل بعض بنودها قبل قبول تجديدها بدل الرفض، إلى حين تحقيق أكبر حد ممكن من المطلوب انجازه.

وقيل آنذاك أن الحكومة كانت مضطرة لتجديد الاتفاقية بسرعة باعتبار أنها تذر على الخزينة العامة ما يناهز 5 مليار درهم، وهي في أمس الحاجة إليها، خاصة بعد الخسارة التي تسبب فيها انخفاض الموارد من جراء إلغاء الرسوم والحقوق الجمركية (إذ بلغت تلك الخسارة ما يناهز المليارين من الدراهم في السنة الأولى لتصل إلى أكثر من 8 مليارات درهم بعد ذلك).

وقد زادت حاجة الخزينة العامة للموارد نظرا لتدني مستوى النمو، هذا بالإضافة إلى انعكاسات الجفاف.
في سنة 2000، شكل إنهاء العمل باتفاقية الصيد البحري، بؤرة توتر العلاقات المغربية الإسبانية، وتبع ذلك مشكل جزيرة ليلى ثم تفجير موجة عنصرية ضد المهاجرين المغاربة، وهذا مباشرة بعد فشل مفاوضات الصيد البحري؛ وفي نهاية المطاف، أبرمت الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي في ظروف كان المغرب في وضعية ضعف بخصوصها.

+ + +
حتى مكافحة الفساد.. تمليه علينا واشنطن


لم يعد يخفى على أحد الآن أنه على إثر أحداث 11 سبتمبر 2001 قررت واشنطن ألا تتسامح مع عمليات تهريب الأموال إلى الخارج، وأنه أضحى من الواجب التحري بدقة شديدة بشأن مصادرها وأهدافها. لهذا فرضت واشنطن على جملة من الدول القيام بإصلاحات مالية رأتها ضرورية لمحاربة كل أشكال الفساد والتهريب وتبييض الأموال. ومن هذا المنطلق أصدر بنك المغرب سنة 2003 منشورا بخصوص اليقظة لمواجهة كل عملية مالية مشتبه فيها؛ وقد كشف أكثر من مصدر، أن عدة ضغوط مورست على وزارتي المالية والعدل وبنك المغرب لترقية مضامين المنشور المذكور إلى قانون واضح المعالم، لاسيما وأن المغرب لم يكن يتوفر على جهاز كفء في قضايا الجريمة المالية أو مؤهل لإنجاز تحقيقات في العمليات المالية والبنكية.

والإقرار بمثل هذا القانون ضروري بالنسبة لكل أعضاء منظمة "كافيمول"، أي المجموعة المالية الدولية بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي منظمة جهوية متخصصة في محاربة تبييض رؤوس المال.
وتتأسس مضامين هذا القانون على تجريم كل عمليات تهريب للمخدرات، والأعضاء البشرية، والمهاجرين والأسلحة، والعتاد، وأية معاملات مالية فاسدة كالرشوة وتحويل الأموال العمومية وتقليد المنتوجات وتزوير العملة.

ومن المعلوم، على سبيل المثال لا الحصر – أننا نلاحظ في مناطق الشمال إحداث فضاءات سياحية وفنادق ومقاهي وعمارات، بمبالغ خيالية لا يمكن استرجاعها من أرباح يومية بسيطة إلا بعد عشرات السنين؛ وهذا كاف بوفرة لإثارة الشبهات الكبيرة؛ لكن الجهات المعنية لا تهمها مثل هذه الشبهات.
وحتى قانون التصريح بالممتلكات، الذي نادى به الملك في رسالته الموجهة في فاتح نوفمبر 1999، للمناظرة حول الأخلاقيات في المرفق العام وضع جانبا.

ومما جاء في الرسالة الملكية: "... ولا بد لبلوغ هذا المرمى الأساسي -التخليق في المرفق العام- من تفعيل قانون الإقرار بالممتلكات حتى يستجيب للآمال المنوطة به لوقاية الصرح الإداري من كل ما يخل بالسلوك المرغوب فيه".

وفي هذا الصدد تساءل أحدهم: هل هذا القانون يعني حقا كل القائمين على الأمور والمسؤولين كيفما كان موقعهم؟

إن الواقع يفيد أن العديد من الأشخاص اغتنوا مؤخرا بمجرد ولوجهم دهاليز السلطة ودواليب صناعة القرار، لهذا تم وضع قانون التصريح بالممتلكات على الرفوف، لأنه في حالة تفعيله سينكشف الكثيرون، وباعتبار أن تفعيله يعين كذلك حق وإمكانية المواطن للتصريح بالشبهات سواء تعلق الأمر باختلاسات أو ارتشاء.

وعموما يمكن القول أن هذا القانون صدر بعد ضجة كبيرة، إلا أنه يتم التعامل معه بالكثير من الإهمال.

+ + +
"كابوس" البترول

يتذكر الجميع إعلان الملك محمد السادس يوم الأحد 28 غشت 2000 عن اكتشاف كميات مهمة من النفط والغاز بتالسينت (الراشيدية) خلال خطاب "ذكرى ثورة الملك والشعب". ومن المعلوم أن الملك شدد في خطابه على أن الحدث (اكتشاف النفط بالمغرب) لن يثني البلاد عن مواصلة مسيرتها في تنمية مختلف قطاعاته الإستراتيجية الأخرى، السياحة والصيد البحري وتكنولوجيا المعلومات.

آنذاك قيل إن المغرب أصبح بلدا نفطيا، وإنه يتوفر على مخزون يقدر ما بين 12 و 15 مليار برميل، وبدأ الحلم الذي سيتحول إلى كابوس.

آمل الكثيرون أن ينعكس هذا الاكتشاف إيجابيا على أداء الاقتصاد المغربي، في حين أكدت بعض الأصوات القليلة على تشكيكهم في الأمر، اعتبارا لمعطيات غفلها القائمون على الأمور.

ففي الستينيات قامت إحدى الشركات السبعة العملاقة، المتحكمة في إنتاج النفط آنذاك (les 7 majors) بمسح شامل وبتنقيب بالصحراء وببعض مناطق جنوب المغرب، وتأكد لها أنه لا وجود للنفط في البر، في حين تبين وجوده في البحر بالساحل الأطلسي إلا أن كلفة استخراجه كانت باهظة آنذاك فلم تهتم بالأمر، وضمنت هذه المعلومات في تقرير ظل سريا إلى أن كشفت على فحواها إحدى الصحف االأنكلوساكسونية في غضون السبعينيات، وهو نفس التقرير الذي اعتمد عليه أبرهام السرفاتي للإقرار بدون تردد نفي ما تم الإعلان عنه بخصوص وجود البترول بتالسينت.

وفعلا بعد أيام تم الاعتراف بأن النفط المغربي تبخر، ولم يكن إلا مجرد حلم سرعان ما تبدد.

+ + +
"تخريجة" من النوع الرديء

عرفت 7 سنوات من حكم الملك محمد السادس بعض "التخريجات" لم يرض عنها أغلب المغاربة، واعتبرها البعض أنها ساهمت في تشويه صور المغرب عبر العالم؛ ومن هذه التخريجات ما جاد به "ذكاء" القاضي المغربي المكلف بالتحقيق في ملف "قضية اغتيال المهدي بن بركة". لقد صرح هذا القاضي، رسميا وبصفة مسؤولة لنظيره الفرنسي، المكلف بالتحقيق في نفس النازلة، أنه لم يتمكن من التعرف أو العثور على الأشخاص الواردة أسماؤهم في لائحة المدعوين للإدلاء بشهاداتهم في نازلة اختطاف واغتيال المهدي بن بركة، علما أن من بين هؤلاء جنرالات معروفين مثل الثور الأبيض، بل منهم من يحتلون مواقع وازنة في دواليب وآليات صناعة القرار، من ضمنهم مثلا الجنرال عبد الحق القادري والجنرال حسني بنسليمان.

ولم يقتصر "ذكاء" القاضي عند هذا الحد، بل تجاوزه، إذ صرح أنه لم يتمكن من التعرف على المكان المدعو PF3، ولربما لا وجود له، علما أن هذا المكان لازال قائما وموضوع حراسة مشددة، وعائلات الضحايا يعرفونه ويعلمون أين يقع، وقد منعوا مؤخرا من تنظيم وقفة أمامه.

+ + +
منتدى المستقبل لماذا بالرباط؟!

من المعلوم أن العاصمة المغربية – الرباط – قامت باستضافة منتدى المستقبل في نهاية سنة 2004، وقيل آنذاك إن الغرض منه هو طرح السبل الناجعة للإصلاح في الشرق الأوسط ودول شمال إفريقيا. ولم يخف على أحد أن هذا المنتدى انعقد تحت إشراف العم سام. وجاءت إلى الرباط الدول الصناعية الثمانية الكبرى ووفود أوروبية ودولية، اقتصادية وسياسية، وكذلك وفود وزارية عربية من عشرين دولة عربية، جاءت تنشد الإصلاح بعدما كانت تخشى كثيرا نتائجه بالأمس القريب، ما دامت واشنطن قد هندست لما سمي بـ "مشروع الإصلاح والديمقراطية، للشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا"، وهو الغول الذي أرعب القائمين على الأمور في الدول العربية.

وفي رأي العديد من المحللين السياسيين، فإن المغرب قد مضى في هذا الطريق كون اعتباره الأكثر أمنا، ثم لأن واشنطن هي التي قامت بتمهيده، بالرغم من كل رفض شعبي له.

ومن المعلوم أن بداية الانطلاقة للمنتدى كانت في سبتمبر 2004 في نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حينما أعلن محمد بن عيسى، وزير الخارجية والتعاون، بأن المغرب يشرفه أن يستضيف منتدى المستقبل، آنذاك رد عليه الوزير الأمريكي، كولن باول، شاكرا المغرب. وآنذاك أقرت الكثير من الوسائل الإعلامية الغربية، وكذلك بعض المسؤولين الأمريكيين، بصعوبة إقناع أي دولة عربية باستضافة المنتدى المتعلق بمبادرة الإصلاح الأمريكية.

وإذا كانت أغلب مراكز البحث والدراسات أقرت بأن الإصلاح مرهون بمدى تطور ونمو القوى المدنية العربية، وبلوغها درجة التغيير بالاستناد لمعايير القيم الاجتماعية والدينية، فإن الموقف الأوروبي أكد على اعتبار أن التدخل العالمي ينبغي أن يصب في دعم الجوانب الاقتصادية، ودفع المبادرات الفردية، وتحسين الظروف البيئية للعمل. لكن ما صرح به كولن باول للوزراء العرب بالرباط، كان مغايرا إذ قال في كلمة الافتتاح: "إننا قمنا بوضع صياغة عامة، نرغب في تحقيقها، من أجل التوصل إلى مجتمع مدني متطور". ولم تقلص واشنطن من سقف ما تنتظره من القادة العرب إلا بفعل الموقف الأوروبي – لاسيما الفرنسي – الذي أحل لنفسه أخذ مكان العرب، وبالتالي رفض سياسة "التبشير الأمريكية بالديمقراطية".
علما أنه لم يتجرأ أي عربي بالرباط، خلال منتدى المستقبل، الحديث ولا التلميح للصراع العربي الإسرائيلي ولا للقضية الفلسطينية وقضية العراق.

وقد لاحظ جملة من المحللين الاستراتيجيين أن المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية، سعوا آنذاك للتقرب من المغرب ليتمكنوا من ضمان حضور قوي في شمال إفريقيا، وهو حضور ضروري لبناء وضع إستراتيجي يعيق ربط الصلات والمصالح المشتركة ما بين الجنوب الأوروبي والشمال الإفريقي، ويؤمن للعم سام التحكم في الموقع الجغرافي الحيوي الذي يحتله المغرب. كما أن واشنطن ظلت تسعى على الدوام إلى دفع المغرب للانخراط الكلي في المشروع الأمريكي العالمي في مواجهة "الإرهاب"، بغض النظر عما يسببه هذا الانخراط من تجاوزات. وفي هذا الصدد أقر تقرير منظمة "هيومان رايتس ووش" - الصادر في أكتوبر 2004 - "بأن الحرب على الإرهاب تعرقل جهود المغرب لإحراز تقدم في الحقوق الإنسانية".

وما جرى ويجري الآن في العراق وفلسطين ولبنان - وغدا في سوريا لا محالة - ما هو إلا إلحاح لما يخفيه مخطط واشنطن تحت تسمية "مشروع الإصلاح والديمقراطية للشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا" وهذا ما تعيه جيدا الآن الأنظمة العربية، لذلك لا خيار لها إلا الصمت ولا شيء آخر إلا الصمت.

+ + +
تداعيات اعترافات البخاري

تميزت بداية عهد الملك محمد السادس باعترافات عميل المخابرات (الكاب 1) أحمد البخاري، إذ كشف على جملة من جوانب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بخصوص الاغتيال والاختطاف والتعذيب والنهب والاستبداد. وتأكد ضلوع جملة من المسؤولين الوازنين في الدولة – بعضهم لازالوا إلى حد الآن يحتلون مواقع بارزة في دواليب ودوائر صنع القرار. وقد قامت عدة محاولات لإخراس البخاري بشتى الوسائل. وبذلك تأكد التورط المضاعف للدولة في الانتهاكات الجسيمة، لا على مستوى اقترافها فحسب، إذ تبين بجلاء أنها سادت كنمط للتعامل وتكرست كذلك ولم تكن مجرد استثناءات، وإنما كذلك لم تحضر الإرادة السياسية والشجاعة الكافية لتنحية شخصيات وازنة من الصورة، تأكد بالملموس تورطها المفضوح في تلك الانتهاكات، وهذا إلى حد كاد يسود الاعتقاد معه أن هناك لوبيات لن يتمكن أحد من زحزحتها من مكانها مهما كان الأمر. وهذا ما ولد إحباطا كبيرا لدى القوى الساعية إلى التغيير الفعلي. وهذه من الأمور التي تؤاخذ على العهد الجديد من طرف الكثيرين.

+ + +

خلاصة القول

إذا كان المغرب قد حقق خطوات رائدة وغير مسبوقة، على امتداد 7 سنوات من حكم الملك محمد السادس (1999 – 2006) في جملة من المجالات والقطاعات، فإنه مازال لحد الآن لم يضع اليد على أجدى السبل لضمان تفعيل العلاقة بين حدي المعادلة (الانتقال الديمقراطي والتنمية).

لذلك لا يمكن الحديث عن تقدم فعلي إلا بربط ما تحقق سياسيا وتشريعيا وتنظيميا من جهة، وما تحقق اجتماعيا واقتصاديا من جهة أخرى، إذ بدون هذا الربط تكون النتيجة، في نهاية المطاف، هي نسف ما تم تحقيقه من تقدم. وهذه هي الوضعية التي يعيشها المغرب الآن، فلا تستقيم الصورة بتقييم ما تحقق سياسيا وتشريعيا وتنظيميا دون ربطه بالضرورة بما تحقق اجتماعيا واقتصاديا ومعاشيا على أرض الواقع؛ والفصل بين جانبي المعادلة يعد صبا للمياه النادرة في رمال الصحاري القاحلة.

وذلك لسبب بسيط، يعرفه الجميع: المواطنة ليست مجرد واجبات، وحقوق سياسية ومدنية، إنها أولا وقبل كل شيء حقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية، وكان من الأولى قلب الآية، بتقديم الحقوق الثانية عن الأولى، على اعتبار أن الحصيلة تظل صفرا. إن تقدمنا على الصعيد السياسي والتشريعي والتنظيمي، وتقهقرنا على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والمعاشي للمواطن، هو ماذا ينفع نص متقدم في مجال المشاركة السياسية لمن لا موقع له تحت شمس وطنه لتمكينه من الشعور بالكرامة، فلو كانت القضية تهم أقلية لهان الأمر، ولكنه يهم الأغلبية وهذا ما لا يستسيغه العقل.

إن المواطنة لا تؤتي أكلها إلا إذا لاحت في الأفق ظروف عيش أفضل، وهذا لا زال مفقودا عندنا.

ويرى أغلب المحللين الاقتصاديين أنه لن تستقيم معادلة الانتقال الديمقراطي/ التنمية إلا بالاهتمام، كخطوة أولى، بإشكالية نهج وسياسة وتوزيع الدخل والثروات المعتمدة؛ وفي هذا الصدد هناك الكثير من الإجراءات يمكن القيام بها دون أن تتطلب ميزانيات إضافية، فمتى ستحضر هذه الشجاعة؟

+ + +
الإعلامي حسن الراشدي مدير مكتب قناة الجزيرة بالرباط

محمد السادس ورث إرثا ثقيلا لكنه دشن مرحلة مهمة في تاريخ المغرب

+ + +

- بعد سبع سنوات من الحكم، ما هي النقط التي تحسب للملك محمد السادس، والنقط التي تحسب عليه؟

+ مما لا شك فيه أن نظام محمد السادس تميز بتدشين مرحلة مهمة في تاريخ المغرب الحديث، وهي مرحلة الانفتاح السياسي وتكريس الديمقراطية في المغرب؛ فكلنا نتفق على أن محمد السادس حينما تقلد مقاليد الحكم ورث إرثا ثقيلا، يعد عبئا لا شك أنه كان جسيما في بعض جوانبه، حيث أن هناك ملفات كثيرة، مثل ملف الفساد، ملف حقوق الإنسان، ثم النهضة التنموية الاقتصادية... وقد شكلت هذه العوامل مجتمعة إرثا ثقيلا بالنسبة لبداية حكم محمد السادس.

أما الآن، وبعد مرور سبع سنوات من حكمه، يمكن القول بأن ما يميز هذا النظام، يتمثل في أهداف مخططة ومرامي وبعد نظر ورحابة صدر. وبفضل ما سبق قوله تمكن هذا النظام من استقطاب أهم الكوادر والخبرات المتواجدة في هذا البلد، سواء في صفوف الشباب أو غير الشباب، كذلك تمكن هذا النظام من تكريس شرعيته بالتصاقه بخدمة المشاريع المجتمعية، والمشاريع التنموية وزرع الروح في الطبقة الوسطى التي تلاشت بشكل واضح في العهد السابق. كذلك نسجل لنظام محمد السادس في بدايته، حرصه على خدمة المشروع الداخلي، بمعنى تركيز الاهتمام على كل ما يهم المغاربة، عن طريق خلق مشاريع تخدم الطبقة المتوسطة.

أما على المستوى الخارجي، فلا شك أن البدايات كانت صعبة، لأن محمد السادس ورث إرثا ثقيلا، من أبرز سماته القطيعة التي طبعت علاقة المغرب مع إفريقيا، بسبب قضية الصحراء، أما الآن فقد نجح المغرب في إعادة ما يناهز 90 في المائة من موقعه الإفريقي، ولا شك أنه في نهاية هذه السنة أو بداية السنة المقبلة، قد يعود المغرب إلى الأسرة الإفريقية، لأن مسار محمد السادس على المستوى الخارجي، يتركز أيضا على اعتبار إفريقيا، القاعدة الخلفية الأساسية لأي نمو مستقبلي في المغرب، بالإضافة إلى الحفاظ على علاقات متوازنة مع أوروبا وأمريكا.

كما استطاع محمد السادس أن يدير أزمة الصحراء بكثير من الحزم والتشدد، تجاه الحقوق المكتسبة. حيث كانت فكرة منح الحكم الذاتي للصحراء من أهم الانجازات التي تحققت، والتي ستمكن المغرب من تجاوز مشكل عمّر 30 سنة، وستعطيه ما يكفي من الأوكسجين لمواجهة القضايا القادمة، بكل تحدياتها ومشاكلها، ذلك أنه خلال عشر سنوات القادمة، سيزداد عدد السكان وستزداد معه المشاكل اليومية للمواطن المغربي، مثل مشكل البطالة، مشكل التنمية الاقتصادية، مشكل توفير السكن، وكل القضايا المتعلقة بخدمة المواطن العادي، والتي ستكون صعبة مستقبلا.

إذا ما نحج المغرب بفضل هذا التوجه الذي يسير في طريقه النظام الحالي، أؤكد أن المغرب ستصبح له الفرصة الكافية لتوفير كل المتطلبات اللازمة لمواجهة المشاكل المستقبلية.

- ما هي المتغيرات الأساسية التي بها يمكن التمييز بين عهد الحسن الثاني، وعهد محمد السادس؟

+ قال المرحوم الحسن الثاني في آخر أيامه، "لكل رجل أسلوبه في الحكم"؛ فالحسن الثاني كان له أسلوب متميز بإيجابياته وسلبياته.. أما محمد السادس، فله أسلوبه أيضا، كرجل دولة، كوطني، كأب للمغاربة، وكأمير المؤمنين. ذلك أن من أهم مميزات أسلوب محمد السادس، حرصه الشديد على محاربة الفساد، فمن الصعب اليوم، أن يتستر المغاربة، مسؤولين كانوا أو شعبيين على أي فاسد، عكس ما كان في النظام السابق، حيث كان الرجل يقاس بملفاته في الفساد.

أما محمد السادس، فله أسلوب حداثي، إذ يتمتع بسعة صدر لتقبل الانتقادات وللاستماع؛ فهو فنان يجيد الاستماع أكثر ما يجيد الحديث.

- لكن ألا تعتبرون أن استمرار احتلال مواقع بنى الدولة، من طرف شخصيات قيل إنها مازالت أيديها متورطة في مجموعة من الإشكالات، لا يخدم إستراتيجية محمد السادس؟

+ حسب منظوري البسيط، إن محمد السادس يحارب على عدة واجهات، وأي محارب يعتمد إستراتيجية ما، لا يستطيع فتح مئات الجبهات في آن واحد؛ فمحمد السادس يأخذ أنفاسه، لفتح الجبهة التي يعرف مسبقا، أنه سينتصر فيها.

- الآن مضت سبع سنوات، وقد كان الملك محمد السادس ينعت أساسا بالملك الشاب، وهو الآن أب، وعمره 43 سنة، فهل مازال يمكن الحديث عن العهد الجديد؟

+ إلى الآن لم يطرأ أي تطور يُسْقِطُ عنه هذه الصفة؛ فهذه الصفة يجب أن نراها ونتصورها ككرويين (يضحك)، فحكام العرب يشكلون فريقا، ومقارنة مع ما بلغه الحكام العرب من سن، يبقى ملك المغرب وملك الأردن ورئيس سوريا، هم الشباب في هذا الفريق.

- جاء في كلامكم أن المغرب يعيش حاليا انتقالا ديمقراطيا، أين يتجلى هذا الانتقال الديمقراطي؟

+ شخصيا، أعطيت لي الفرصة، لأتابع الانتقال الديمقراطي من بعيد، بحكم أني لم أكن داخل هذه الدوامة، وهذا البعد مكنني من جمع أطراف الصورة الضائعة.

فالانتقال الديمقراطي يمكن تلخيصه من وجهة نظري في أمر واحد، هو أنه طوال السنوات الماضية، تابعنا كل المحاولات التي قامت بها قناة الجزيرة لفتح مكتب في المغرب، ولم نستطع القيام بذلك إلا في عهد محمد السادس، وهذا المؤشر لا يمكن إلا أن أعتبره انتقالا ديمقراطيا، وقس هذا الأمر على عدة قطاعات.

- من خلال حديثكم، يتضح أنكم متفائلون لعهد محمد السادس، على الرغم من التراجعات التي حصلت، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو حتى الحقوقي، في حين أن البعض يعتبر أن دار لقمان ما زالت على حاليها، فما قولكم في هذا؟

+ أنا لا أدافع عن أي جهة وإنما أحاول أن أكون محايدا في طرحي وفي إجاباتي على أسئلتكم، لهذا أعتقد أنه بعد 16 سنة في المهجر، وبعد التصاقي بإفريقيا اتضح لي جليا أن المغرب يتميز بمجموعة من الإيجابيات مقارنة مع دول الجوار، وعيب المغاربة أنهم يقارنون أنفسهم بأوروبا، فحتى في الإخفاقات والنجاحات لابد أن نقارن أنفسنا بدول الجوار، لنعرف هل نتقدم أم لا.

أعتقد أنه في كل حساباتنا لابد من العودة إلى دول الجوار وإلى أصولنا الإفريقية، فالناس الذين قابلتهم في "سيراليون، الكونغو، الصومال..." يعتبرون مدينة الدار البيضاء، وكأنها نيويورك.

- في نفس الإطار، ألا تعتبرون أن الوضع السائد على مستوى المغرب العربي هو المسؤول بدرجة كبيرة عن عدم اهتمام المغرب بدوره على المستوى الإفريقي؟

+ يجب ألا ننسى أن المغرب منذ الحرب الباردة، كان بلدا مستهدفا، اتفقنا على ذلك أم لم نتفق، وأنا لا أتحدث بعقلية المؤامرة، لكن علينا ألا ننسى أن المغرب لا يملك نفطا أو غازا أو موارد خيالية؛ فالمغرب في تدبير شأنه، فيه كثير من البركة الإلهية، كما أن المغرب ورث مخلفات الحرب الباردة، التي لا تزال إلى اليوم تلعب ضد استقراره وأمنه، وتلعب حتى ضد تطلعاته السياسية والاقتصادية.

أما دور المغرب في إفريقيا، فأعتقد أن قضية الصحراء كانت السبب في إحداث القطيعة مع إفريقيا منذ فجر الثمانينيات، أما الآن فقد اتضح ديبلوماسيا، أن سياسة المقعد الشاغر وديبلوماسية الصالونات، لم تخدم قضيتنا، لهذا، بدأ المغرب يغير من إستراتيجية ديبلوماسيته، عن طريق اللجوء إلى الديبلوماسية الشعبية التي تكرست في السنتين الأخيرتين، عبر عدة بعثات قام بها نواب برلمانيون، ثم الأحزاب التي بدأت تبادر بدورها للعب دور فعال في تنشيط الديبلوماسية الشعبية، وها هي النتائج بدأت ملامحها تظهر الآن.

فالاستفادة من هذا التغيير الإستراتيجي، في المسار الديبلوماسي المغربي، بدأت تظهر ملامحه الآن، حتى فيما يتعلق بتأسيس المجلس الاستشاري الملكي لشؤون الصحراء، الذي يندرج أيضا في هذا التغيير الإستراتيجي الحاصل في المغرب، على أساس اعتبار الديبلوماسية الشعبية رافدا أساسيا لخدمة الديبلوماسية الرسمية وليس بديلا لها.

كما لا يجب أن ننسى الدور الفاعل الذي أصبح يلعبه المجتمع المدني في هذا المسار، والذي ينبغي أن نستمر في تشجيعه إلى ما لا نهاية، لأن نتائجه أيضا كانت واضحة، وجد إيجابية بالنسبة للمغرب على العديد من المستويات.

- تحدثتم عن إشكالية أساسية، وهي ضعف الطبقة الوسطى على المستوى الاقتصادي، والتي تتجلى بالأساس في الفوارق الاجتماعية الشاسعة التي مازالت تطبع البنية الاقتصادية والاجتماعية، ألا تعتبرون، أنه حان الوقت من أجل إعادة توزيع الثروات، بهدف تحسين وضعية الطبقة الوسطى؟

+ بطبيعة الحال، نتفق معك أن الطبقة الوسطى هي طبقة مسحوقة وربما منعدمة، لكن هذا لا يحصل فقط في المغرب، فحتى في دول الجوار وفي الدول الغنية، التي بدأت الآن تجتهد في استرداد مديونيتها الخارجية،

إن الطبقة الوسطى منعدمة، وانعدامها، لم يأت بين عشية وضحاها، بل كان نتيجة تراكمات وسياسات خاطئة في الماضي، أما الآن فترميم هذه الطبقة يكاد يكون مهمة مستحيلة، وإن كنا نلمس بعض المحاولات من أجل إعادة الحياة لهذه الطبقة، التي إن لم تكن قد انتهت فهي تحتضر. والركيزة الأساسية في هذه العملية، هو تشجيع المبادرات الفردية عند هذه الطبقة، وها نحن نواكب الآن عدة مؤسسات وُجِدَت لتشجيع المقاولات الصغيرة والمتوسطة، ووجدت لتشجيع الأفراد على النهوض بمشاريع اقتصادية صغيرة، كما وجدت أيضا من أجل توفير مكاتب بنكية ومؤسسات مصرفية، لإعطاء تسهيلات لصغار المقاولين وللشباب وأيضا لصغار المهنيين، لكن العملية صعبة جدا، قد لا تنجح فيها الدولة بسرعة؛ وهذه الإجراءات لازالت تنقصها بعض النواقص، والمتمثلة في النظام الضريبي وعدم تشجيع المستثمر الصغير بالشكل الكافي وإعطائه ضمانات، كذلك ينبغي التفكير في خلق ثقافة من أجل مواجهة ثقافة ورثها المواطن المغربي، والمتمثلة في ثقافة الإتكالية، فكلنا نتفق أنه إلى حدود السبعينيات، كانت الأسر المغربية ترفض تزويج بناتها إلا من موظفين، لهم رقم وظيفي، وهذه العقلية للأسف لازالت سائدة.

إذن طغيان مثل هذه العقلية هي السبب في توظيف جيش من الموظفين لا ينفع في شيء، بل أكثر من هذا، يشكل هذا الجيش من الموظفين عبئا حتى على سير الأداء الوظيفي لهؤلاء الموظفين؛ لهذا لابد من محاربة الثقافة الاتكالية عن طريق تشجيع المبادرات الفردية، وإعطاء ما يكفي من التسهيلات لإحياء هذه الطبقة التي كما قلت لم تعد تشكل تلك الأداة الرابطة بين الطبقة العليا والطبقة الدنيا.

- من الملاحظ أن الملك محمد السادس كشخص وكمؤسسة، له حضور قوي على المستوى الاقتصادي، كذلك من الملاحظ أن مجموعة من القرارات الأساسية والجوهرية على المستوى الاقتصادي، تدبر خارج دائرة الحكومة وهو ما يعرف بالصناديق الخاصة، كيف تقرؤون هذا الأسلوب في إطار المسيرة التنموية في البلاد؟

+ في الحقيقة أنا عاجز عن الإجابة عن هذا السؤال، لأنني لا أتوفر على معطيات، وحتى إذا كانت جهة تتوفر على مثل هذه الصناديق فهي تعرف بالصناديق السوداء، أو الصناديق الخاصة...

- (أقاطعه) إني أعني بهذه الصناديق، الصناديق المرتبطة بالملك، كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية؟

+ يبدو لي أنه في كثير من الأحيان، وحينما تغيب المبادرة الحزبية، وكذلك حينما تبقى الحكومة مقيدة ببرامج وبميزانيات محدودة، تأتي المبادرة الملكية، وخصوصا منها الاجتماعية، لسد فراغ موجود، وقد تكون عاملا محرضا للباقي على السير في نفس الاتجاه.

ومثل هذه المبادرات الملكية، تأتي أيضا للفت الانتباه إلى قطاع معين، وكمثال على ذلك، ما قام به الملك في مدينة الحسيمة، فقد تبعته مجموعة من المبادرات من طرف أبناء المنطقة القاطنين في المهجر، حيث فتح هؤلاء حسابات بنكية في المنطقة، كما تم التنسيق مع دوائر مغربية للتشجيع على مساعدات منكوبي الزلزال.

- باعتباركم رَجُلَ إعلام، ما هي التغييرات التي عرفها قطاع الإعلام في عهد محمد السادس؟

+ لقد طرأ على ميدان الإعلام مجموعة من التغييرات، منها ما هو سلبي ومنها ما هو إيجابي؛ أما الجانب السلبي، فيتمثل في تعامل السلطة الغليظ مع بعض الصحف والمجلات، والذي بلغ إلى حد محاكمتها. هذا التعامل كاد أن يُؤثر على مسار الانفتاح الإعلامي، الذي يعتبر مكسبا مهما.

أما الجانب الإيجابي فيتمثل في إنشاء المجلس الأعلى للسمعي البصري، والذي لا يوجد في أي بلد عربي. لكن في مقابل ذلك لا يجب تضييق الخناق، أكثر من اللازم على بعض وسائل الإعلام، حتى لا نخدش الصورة الجميلة التي بناها محمد السادس، سواء في مجال حقوق الإنسان، أو في مجال الإعلام، أو على مستوى المبادرات الاقتصادية.

+ + +
فتح الله أرسلان الناطق الرسمي لجماعة العدل والإحسان

شعار العهد الجديد كذبة سرعان ما سينكشف أمرها

+ + +

- سبع سنوات من حكم الملك، ما هي في نظركم النقط التي تحسب له والتي تحسب عليه؟
+ كان النظام ومن يشترك معه في المصالح وأيضا بعض ممن اعتبرها فرصة لتفاؤل جديد، يروجون بقوة مع بداية حكم الملك الحالي للعديد من الشعارات التي تبشر بالتغيير وتزف أنباء قدوم عهد مخالف للسابق، وأعطوا لهذه الآمال العريضة عناوين رنانة مثل " ملك الفقراء" و " العهد الجديد" و" المفهوم الجديد للسلطة".... وكان لنا نحن والعديد من الفاعلين والمراقبين رأي آخر يرى ما وراء هذه الشعارات من أسئلة دقيقة وعميقة وتأسيسية. لأن صلب القضية ليس في تدبيج الشعارات والخطب بل في بسط الأرضية التي يراد إطلاق تلك الشعارات فيها. وكان دافعنا في هذا الطرح أننا نرى بالعين المجردة وبالأدلة الساطعة الصادمة هشاشة الأرضية وتفكك الأسس إن لم أقل غيابها كحال من يريد بناء السقف على غير أساس. وهذا عبرنا عنه بكل قوة وصدق وغيرة من خلال رسالة الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين للملك المعنونة ب" مذكرة إلى من يهمه الأمر"، حيث قلنا بوضوح إن حجم الأزمة الموروثة لا تكفي فيه تدابير إدارية إنما تلزمه مشاريع إرادية كبرى تدل فعلا على إرادة القطيعة مع عهد الاستبداد. فشعار "ملك الفقراء" لا يمكن تجسيده من خلال أساليب تكرس نفس السياسة السابقة أي سياسة الأعطيات والمنح والحملات الموسمية التي ينقشع ضبابها على استمرار الفقير في فقره والجائع في مسغبته لما ينتهي مفعول الوجبة وتختفي أضواء الكاميرات. ولا حقيقة لشعار إنعاش الاستثمار والشق الأكبر من أموال المغاربة ما يزال مهربا إلى الخارج. كما أن شعار"المفهوم الجديد للسلطة" يعد أكبر كذبة حديثة لأن تغيير أي مفهوم لا يكون من خلال شعار براق في حين أن العقلية التي تقف وراءه غاية في القدم والتكلس. من أجل موقفنا هذا وصفنا لحظتها بالتيئيسيين والمستعجلين، لكن مع مرور الوقت بدأت نغمة التبرير تتصاعد من الحديث عن وجود جيوب المقاومة إلى قصر الوقت المتاح في محاولة للتستر على طامة الطوام وهي أن أكبر ممانع لأي تحرك نحو التغيير هي العقلية السائدة في كل دواليب الحكم من أعلاها إلى أدناها. ومع الاستمرار في مرور الوقت أخذ أوار التبرير يخمد بعد انفضاحه التام ليترك الساحة مفتوحة على تصاعد الأوار الناتج عن خيبات الشعب في كل الشعارات، والجميع يتابع هذا التصاعد المخيف المتجلي في التوترات الحادة على كل صعيد وفي كل مجال.

هذه هي الحقيقة الساطعة والتي لا ينفيها إلا طامع في إمكانية الانتفاع من الوضع الحالي إلى أقصى حد ممكن على حساب مصالح الشعب. هذه هي الحقيقة، فيما يبقى بعض مما يعتبره البعض مكتسبات مجرد فتات جزئي لا يغير من المعادلة شيئا وأوراق ذابلة يحاولون بها إخفاء الغابة الكثيفة من الأزمات الحادة جدا جدا جدا.

- أين تلمسون في جماعة العدل والإحسان المواقف التي ظلمتم فيها في عهد محمد السادس؟

+ لو اقتصرت المظالم على العدل والإحسان لهان الخطب. المعضلة أعم فهي مظلمة شعب بكامله. وهنا نقدر، كما العديد من الفاعلين والمتابعين، أن طغمة تستأثر بكل شيء ؛ بالخيرات و قرارات المصير وكل الحقوق. يوما بعد يوم يزداد رهن رقاب كل الشعب بالنزعات الخاصة وأهواء قلة متنفذة. أما ما يروج له من مكتسبات فلا يصمد أمام الواقع الناطق بأرقامه الصارخة والتي لم تتحرك، طيلة عهود المخزن، إلا في الاتجاه السالب. فهم ما يزالون يحكمون شعبا أكثر من نصفه أميون، وخيرة شبابه عاطلون في الوقت الذي لا يستطيعون حتى تعويض المناصب الشاغرة بفعل التقاعد العادي،حسب التقييم الرسمي، ناهيك عن إحداث مناصب جديدة، وسوقه تزداد ضيقا على المنتج المحلي لصالح المضاربين الأجانب الذين لا يمرون إلى سوقنا إلا عبر الصفقات ذات الرائحة الكريهة مع كبار المضاربين المحليين، أما التعليم فهو من فشل إلى فشل فلا هو مرتبط بهموم الشعب ولا بهموم البحث العلمي الصرف ولا بسوق الشغل، والساحة المقابلة لمقر البرلمان شاهدة ناطقة. أما أوضاع الحريات فلنقرأ بؤسها في جميع المجالات ذات الصلة؛ لنقرأ حرية التعبير من خلال المحاكمات بالجملة للصحافيين ومحاكمة الأستاذة ندية ياسين ومنع كل صحف العدل والإحسان والحجب المتكرر لمواقعها الإلكترونية، والمحاكمات الصورية المفتقرة لأبسط شروط المحاكمة العادلة مما ينتج عنه إقبار المئات في غياهب السجون. حرية التجمع والتنظيم والاحتجاج نستطلع أخبارها من خلال القمع الشرس لكل تجمع احتجاجي أينما كان وليبقى مسلسل القمع ضد المعطلين والمكفوفين وهيئات رجال التعليم بالرباط وحملات المداهمات لبيوت أعضاء العدل والإحسان وفض الاجتماعات بالعنف وسرقة المتاع الخاص وترويع الأهالي أبأس الصور في سجل النظام المغربي في كل أطواره. إضافة لما تتعرض له كل الجمعيات الجادة من صنوف التضييق. وبالمناسبة هذا التقييم لا نقول به وحدنا إنما نجده لدى كل فاعل صادق وفي كل تقرير نزيه، ويكفي الاطلاع على التقارير الصادرة فقط خلال السنتين الأخيرتين عن جهات مختلفة لنقف على حجم الجريمة المرتكبة في حق شعب بكامله.

- هل لا زلنا نعيش عهدا جديدا بعد سبع سنوات من الحكم، وهل لا زال الملك شابا وهو يبلغ 43 سنة؟

+ ومتى ولد الجديد حتى نتساءل عن مراحل نموه أو تطوره. الأمر لم يتجاوز الشعارات الرنانة والتي يعرف صائغوها بهتانها قبل غيرهم. التغيير إرادة حقيقة وليس أمنيات حالمة. وشرط الإرادة، الكفيل وحده بإنتاج وتنفيذ المشاريع الكبرى، لا يعتبر فيه سن أو جنس أو انتماء إنما المعتبر فيه الأسلوب المنتهج في إشراك الجميع واعتبار كل الطاقات وإيجاد بيئة سياسية سليمة وحرة. بل إن الأخطر في بلدنا هو عندما نركز على شكليات السن والجنس والانتماء من أجل تشريع الاستبداد. وهذا كلما بقي موجودا فلا مجال للحديث عن تلك المصطلحات الكبيرة مثل التجديد أو الانتقال أو غيرها.

- تميزت فترة حكم الملك طيلة سبع سنوات بمجموعة من المواقف، منها محاكمة ندية ياسين وحرب الشواطئ والهجمة الأخيرة. لمن تحملون المسؤولية ؟

+ ولك أن تضيفي أيضا إلى تلك الميزات الحميدة ما كان ويكون بين تلك الحروب الكبرى ضد جماعة العدل والإحسان من تضييق دائم على أنشطتها وهضم لحقوق أعضائها ومنعنا من حرية التعبير وإغلاق صحفنا وفتح متواصل للزنازن في وجوهنا فلا تخرج مجموعة إلا لكي تحل أخرى، ثم المحاكمات التي لا تنقطع. كل ما ذكرته وذكرته وغير ذلك كثير من الصفحات السوداء في سيرة المخزن تجاهنا من المؤكد أن المخزن يقف وراءها بكل أجهزته ومستوياته، وعليه من الجازم أنه لا يمكن إعفاء أي طرف من مكونات المخزن من المسؤولية. وهذا إن لم يقله البعض اليوم في المخزن، خوفا أو تزلفا، فسيتسابق إلى ذكر مثالبه والقول فيه ما ترفع عن قوله الفرزدق وجرير في بعضهما.

ومن المعضلات الخطيرة لدى النظام المغربي أنه في دستوره يشرع لسيطرته المطلقة على أهم منافذ القرار وفي نفس الوقت يشرع لعدم مسؤوليته عن أية تبعات قانونية لقراراته. وهذا ما يرفضه كل عقل سليم ومنطق سوي. وأي طريق إلى التغيير السياسي الحقيقي لا بد أن يمر من هذا المدخل المهم أي إقران كل مسؤولية بالمساءلة.

- لكن في الآن ذاته تميزت فترة تولي الملك بالإفراج عن عبد السلام ياسين، كيف تقرؤون هذه المفارقة؟ ألا تعتبر هذه النقطة إشارة منه لنهاية القطيعة مع جماعتكم؟

+ لا بد من التأكيد أولا أن الحصار لم يرفع أبدا إنما خفت حدته فقط ولكل زائر لبيت الأستاذ عبد السلام ياسين أن يلمس ذلك ويراه بعينه، فما تزال فرق من البوليس مرابطة بباب البيت وفي كل الأزقة المؤدية إليه، كما أن فرقة أخرى تتحرك معه كظله في كل تحركاته خارج البيت. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإننا كنا دائما وما نزال نعتبر أن الحصار ليس حصار الرجل لأن اسمه عبد السلام ياسين ولكن لأنه يمثل دعوة وهي دعوة العدل والإحسان. ولهذا فالحصار والتضييق يشمل كل من وما يمثل هذه الدعوة وفي المقدمة الأستاذ عبد السلام ياسين، ثم كل الجماعة، مؤسسات وأفرادا، وأيضا الهيئات والمجالات التي يشتم فيها وجودنا أو تأثيرنا. أما مسألة حصار الأستاذ عبد السلام ياسين فإن سعي النظام لإنهائها ليس لأجل حل مشكلة العدل والإحسان إنما لأجل حل مشكلة النظام الذي تورط في هذا الملف ولم يهتد إلى أخف السبل ضررا عليه للخروج من الورطة.

- سبع سنوات من الحكم دون أن تكون هناك مبادرة لتعديل أو تغيير الدستور، أي هل أنتم أيضا تذهبون مع الطرح الذي يقول أن الملك يحكم بجلباب أبيه، وهل الظرفية تساعد الآن لتغيير الدستور، وما هي مطالبكم في هذا الصدد؟

هل الملك يحكم بجلباب أبيه؟ أو بجلباب آخر قد يكون أضيق من جلباب أبيه؟ على أي حال لكل تقييمه ورأيه، أما نحن فقد كنا من السباقين إلى القول بأن النظام السياسي لم يتغير فيه شيء، و أن شعار العهد الجديد كذبة بلقاء سرعان ما سينكشف أمرها، وكان دليلنا هو تجاهل المذكرة التي بعثناها للملك، والتي اقترحنا من خلالها تغييرا تاريخيا. تعرضنا آنذاك لبعض الانتقاد، وطلب منا أن نمهل الملك، لكن الآن وبعد مرور سبع سنوات من انتقدونا بالأمس يؤكدون من خلال بعض حواراتهم أن لا شيء تغير، بل الأدهى من ذلك أن تضييعنا للوقت لا يزيدنا إلا انحطاطا.

أما فيما يتعلق بالمراهنة على التغيير الدستوري، فإني أؤكد من جديد أن ذلك لا يغير في الوقت الراهن من طبيعة النظام الاستبدادية شيئا، وذلك لأن لا جديد على مستوى الإرادة السياسية، فالإرادة التي حكمت التعديلات السابقة للدستور هي نفس الإرادة المهيمنة حاليا، وهي إرادة تريد دستورا السيادة فيه للحاكم وليس للأمة، تريد حاكما فوق الدستور، وليس حاكما محكوما بالدستور. ولعل النقاش الذي كان منذ أيام حول تعديل الدستور يؤكد ذلك جليا، فما تسرب من مذكرات على اختلافها يبين أن المطالب لا تتجاوز سقف الإرادة التي أشرت إليها، فحتى التي تطالب بحصر اختصاصات الملك فهي لم تذهب بعيدا عما هو موجود حاليا. قلت مطالب وهذا مكمن الخلل يطلبون من الملك تغيير الدستور وليس هناك تدافع أو نقاش جدي لتغيير حقيقي، فالدستور في أصله ممنوح وحتى التغييرات أو التعديلات تكون ممنوحة، بل أذهب إلى أبعد من ذلك وأقول أن الكلام حول الدستور أحيانا يكون مفتعلا ولأغراض سياسوية أو انتخابوية ليس إلا.

أما بخصوص مقترحاتنا فإننا نرفض أولا وبشدة هذه الصيغة المطلبية التي ليس لها من مفعول سوى تكريس أن الدستور، وما يرتبط به من تعديل أو تغيير، منحة من الملك لرعاياه يمنحها متى شاء وكيف شاء. ونرى ثانيا أن أي تعديل في المضمون سيبقى محكوما بطبيعة النظام الاستبدادية وجوهره الفردي ما لم تتغير طريقة وضع الدستور.

أوضح، إننا في العدل والإحسان ندعو إلى جمعية تأسيسية منتخبة يوكل إليها وضع مشروع دستور جديد يرسم بوضوح شكل النظام السياسي، ويبين بوضوح علاقة الحاكم بالمحكومين، واضعا حدا لكل أشكال الاستبداد والغموض، ويحدد الحقوق والواجبات، و يصون الكرامة والحريات. و بعد وضع المشروع يعرض على استفتاء شعبي حر ونزيه. هذا هو المسلك الطبيعي لدستور يتوخى منه إحقاق العدل والحرية و الكرامة.

في الأخير أقول إن أي تغيير حقيقي في المسار الدستوري لابد له من إرادة سياسية غير الإرادة السياسوية المهيمنة حاليا، والإرادة السياسية لها ارتباط بميزان القوة، ونحن نمد يدنا لكل من يعمل لتغيير هذا الميزان حتى يصبح لصالح الشعب.ولا يهم في البداية أن نتفق حول المضامين، الذي يهم هو أن نتفق حول طريقة ومسطرة وضع الدستور.

+ + +
علي فقير ناشط حقوقي
+ + +
إذا كان الحسن الثاني يستشير الأحزاب أما محمد السادس فإنه لا يمر من حلقة التشاور
+ + +

- مرت 7 سنوات من حكم الملك محمد السادس، ما هي في نظركم النقط التي تحسب له والتي تحسب عليه؟
+ قبل الجواب على سؤالكم لابد من توضيح نقطتين: إن ما يصطلح عليه بالعهد الجديد بدأ تقريبا ( سنة بعد) مع عهد ما يصطلح عليه بالتناوب التوافقي، ويصعب فصل تقييم حصيلة عهد عن حصيلة العهد الآخر؛ هذا من جهة، ومن جهة ثانية، لا يمكن فصل مبادرات ومواقف رئيس دولة عن جوهر مصالح الطبقة أو الطبقات الاجتماعية السائدة؛ فرغم أهمية دور الفرد في التاريخ، وفي قيادة الدولة، فالأساسي هو العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة، ودور الدولة كجهاز يسهر بالأساس على مصالح تلك القاعدة الاجتماعية.

لهذا سأكتفي في جوابي على حصيلة " العهد الجديد"، التي ابتدأت منذ يوليو 1999 بعد وفاة الحسن الثاني كرمز " للعهد القديم" ومجيء محمد السادس، رمز " العهد الجديد".

يمكن تركيز " منجزات العهد الجديد " في النقط آلاتية:

ـ عودة المناضل أبراهام السرفاتي الذي " انتزعت " منه جنسيته المغربية في "العهد القديم".

ـ تنحية وزير الداخلية، إدريس البصري، أحد رموز عهد الحسن الثاني.

ـ تجاوز جانب من الغموض والطقوس والقدسية التي كانت تحيط بزواج الملوك والسلاطين المغاربة، شكلا ومضمونا، حيث أصبحت الأميرة سلمى، زوجة الملك، والمنحدرة من وسط شعبي، تقوم بأنشطة اجتماعية كسائر "السيدات الأوائل" في البلدان العصرية.

ـ إخراج مدونة الأسرة إلى الوجود التي استجابت لجزء من مطالب الحركة النسائية الديمقراطية.

ـ إنشاء المعهد الملكي الأمازيغي، رغم أن هذه المبادرة لا تستجيب لجوهر مطالب الحركة الديمقراطية عامة، والحركة الأمازيغية خاصة ( دسترة اللغة الأمازيغية كلغة وطنية رسمية بجانب اللغة العربية....)

ـ إذا كانت جل الزيارات الخارجية للحسن الثاني تدور بين واشنطن وباريس والرياض، فان أغلب زيارات محمد السادس قد همت بلدان أخرى ( أسيوية، إفريقية وأمريكية ـ لاتينية) ومن ضمنها بلدان فقيرة، لا يمكن أن نتصور زيارة الحسن الثاني لها.

ـ زيارة الملك الجديد لجل الأقاليم بما فيها الأقاليم المغضوب عليها في عهد أبيه.

ـ تتميز العلاقات " الإنسانية" بين محمد السادس وبعض الفئات الاجتماعية المهمشة (المعوقين، الفئات الفقيرة والقروية، نزلاء الخيريات، العجزة...) بنوع من الشعبوية. لا شك أنه يوجد وراء هذه المبادرات والسلوكيات بصمات محمد السادس كانسان، لكن تبقى المسألة دونما تأثير يذكر من ناحية المدلول السياسي وانعكاساته على الواقع المر لهذه الفئات.

ـ تمكن العهد الجديد من استقطاب أطر معارضة سابقا من الأوساط الاتحادية والماركسية ـ اللينينية، ومن توظيفها في ترويج مبادراته ومواقفه ( داخليا وخارجيا)، بتأطير من رموز العهد القديم المتورطين في نهب المال العام وفي الجرائم السياسية.

ـ توهم جزء هام من الرأي العام الداخلي والخارجي " بحسن نوايا العهد الجديد"، في الكشف عن الحقيقة في ما جرى سابقا وفي جبر الضرر، وقد لعب " الحياحا" الجدد دورا بارزا في عملية محاولة تبييض وجه الحكم.

ـ خلق عدة صناديق ممولة من عائدات الخوصصة ومن مصادر أخرى وهي غير خاضعة لأية مراقبة مؤسساتية، حكومية كانت أو برلمانية.

- أطلق على عهد الملك محمد السادس " العهد الجديد"، ما هي في نظركم تجليات هذا العهد، وهل مازلنا نعيش عهدا جديدا بعد مرور سنوات من الحكم؟

+ لقد أجبت سابقا عن بعض عناصر هذا السؤال، وبتركيز؛ يمكن القول أن الجديد في كل هذا يتلخص في وفاة رئيس دولة، وفي تولي ابنه مقاليد تلك الدولة، أ ما جوهر البنى السياسية والاقتصادية والواقع الاجتماعي والثقافي، فلم تعرف جديدا ولا تحولا يثير الانتباه. فجوهر الحكم بقي بين يدي الملك الجديد، والحكومة هي عبارة عن مجموعة من المنفذين، وجميع الوزراء يصرحون بأنهم يشتغلون حسب التوجيهات الملكية (وليس حسب برامج أحزابهم)، والبرلمان بغرفتيه يبقى آلية لتسجيل ما قرر في المحيط الملكي، ويبقى المنتخبون المحيلون أشباه أعوان موظفي وزارة الداخلية (فاقد الشيء لا يعطيه)؛ وزيادة على كل هذا بقي العديد من المتورطين في الجرائم الاقتصادية والسياسية يتحكمون في أهم دواليب الدولة.

- في رأيكم هل يمكن اعتبار أننا نعيش انتقالا ديمقراطيا فعليا في عهد محمد السادس، وإن كان في رأيكم قد انطلق، فأين وصل؟

+ لا يمكن الحديث عن انتقال ديمقراطي للأسباب آلاتية:

ـ فالدستور كأسمى قانون، والذي يشرع نوعا من الاستبداد، وينفي الأمازيغية ثقافة ولغة، وينفي المساواة بين المرأة والرجل... بقي دون تغيير.

ـ استمرار سياسة الاختطاف والتعذيب.

ـ أسلوب مواجهة الحركات المطلبية والاحتجاجية لم يتجاوز لغة العصا.

ـ استمرار سياسة المضايقات والمتابعات القضائية تجاه المنابر المستقلة.

ـ التضييق المتواصل على أنشطة القوى المعارضة الراديكالية، إسلامية كانت أو ماركسية.

ـ منع هذه القوى من إسماع صوتها عبر المنابر الإعلامية الرسمية بالرغم من أن هذه الأخيرة ممولة من طرف الشعب.

ـ إن القوانين والمساطر المتحكمة في الانتخابات، زيادة على إشراف وتحكم وزارة الداخلية (وزارة السيادة) في جميع مراحلها، يجعل منها انتخابات موجهة تضبط التوزيع المسبق للمقاعد وتصنع التحالفات وفق الأهداف الإستراتيجية والظرفية للنظام.

- من أهم ما قام به محمد السادس في فترة حكمه، على المستوى الحقوقي، تأسيس هيأة الإنصاف والمصالحة من أ جل طي ملف الانتهاكات الجسيمة؛ باعتباركم فاعلا حقوقيا، هل تعتبر مثل هذه المبادرات كافية لطي هذا الملف طيا نهائيا؟

+ إن ما يجري على المستوى الحقوقي هو استمرار لما بدأه الحسن الثاني منذ التسعينيات، والهدف منه هو محاولة محو فظاعة الجرائم من الذاكرة الجماعية التي ارتكبت في حق الشعب المغربي. ولا يمكن فهم خلق وزارة حقوق الإنسان، والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وهيأة التعويض إلا في هذا الإطار. أمام فشل هذه المحاولة، بفضل مواقف الحركة الحقوقية والقوى اليسارية، التجأ العهد الجديد إلى إنشاء هيأة الإنصاف والمصالحة كإحدى آليات التعتيم لتحقيق إستراتيجية النظام في هذا الميدان، ومن المهام التي طرحت على الهيئة،هناك ضرورة طمس الحقيقة وعدم تحديد المسؤوليات الفردية والمؤسساتية فيما جرى، وتمكين المجرمين من الإفلات من العدالة، وهكذا " أنهت" الهيأة أشغالها دون التوصل إلى الحقيقة ولا أن تحدد المسؤوليات... لقد اعتمد الحكم أسلوبين لتحقيق أهدافه: أسلوب تدجين واستقطاب " نخب"، خصوصا من الوسط الذي تعرض مباشرة للقمع ( الحركة الاتحادية والحركة الماركسية ـ اللينينية) وذلك لإعطاء نوع من المصداقية لسياسته الحقوقية؛ ويتجلى الأسلوب الثاني في عملية الإغراءات المادية للضحايا الأفراد.

إن الحديث عن طي " صفحة الماضي" يبقى وهما للأسباب التالية:

ـ الأحداث التاريخية ليست مجرد كلمات مكتوبة على الورق يمكن محو ما لا يعجبنا منها.

ـ إذا كان هناك ضحايا (المعتدى عليهم في اللغة القانونية)، وهذا ما لا ينفيه أحد، فيجب من الناحية القانونية تحديد المعتدي (أو المعتدين، أفرادا كانوا أو مؤسسات)، ويجب كذلك معرفة كل ما جرى ( إجلاء كل الحقيقة)، وبعد الكشف عن الحقيقة، كامل الحقيقة المتعلقة بالانتهاكات، تجيء مرحلة جبر الضرر، والتي تكون فيها الكلمة الأولى للضحايا. لا يتوقف جبر الضرر على الجانب المادي للأفراد، لأن ما جرى ويجري يهم الشعب المغربي برمته، والمناطق المنكوبة (الريف، خنيفرة، كلميمة، الدار البيضاء…)، كما يهم القوى السياسية التي استهدفها القمع بشكل همجي ( الحركة الاتحادية والحركة الماركسية ـ اللينينية)؛ ففي جبر الضرر ما هو مادي، وهو ثانوي ولا يهمني أنا كمعتقل سابق، وفيه ما هو اجتماعي، سياسي ومؤسساتي، لا يمكن بلوغه إلا ببناء مجتمع جديد على أنقاض المجتمع الحالي.

ففي اعتقادي، يمكن للاعتذار الرسمي أن " يلطف" شيئا ما "الأجواء"، لكن لا يمكن لأي إجراء مهما كان أن يمحي من ذاكرتنا " صفحة الماضي"، لأن ما جرى ويجري اليوم، ليس إلا جانبا من الصراع الطبقي الذي لا يتحكم في أشكاله ومجراه موقف أو إرادة شخص أو مجموعة من الأشخاص. هذا هو جوهر الصراع، الذي نخوضه كمناضلين، ضد منظور الدولة وامتداداتها داخل الحقل السياسي والحقوقي عامة، وداخل المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف خاصة...

- في رأيكم، هل نهج تدبير شؤون الحكم بالنسبة للملك محمد السادس يختلف عن نهج أبيه أم أنه يحكم بجلباب أبيه؟

+ يمكن تلخيص مرجعية الدولة المغربية في العهدين: "القديم" و"الجديد" في نقطتين.

تشكل المصالح الاقتصادية والسياسية، للتكتل الطبقي السائد، الركيزة الأولى للمرجعية. يتكون هذا التكتل من البرجوازية الرأسمالية الكبيرة، ومن ملاكي الأراضي الكبار، ومن البرجوازية البيروقراطية ( الأطر العليا للدولة، كالضباط ومديري المؤسسات العمومية…)، ومن المنتخبين الانتهازيين الوصوليين، ومن مختلف المضاربين والمتاجرين في المخدرات والجنس…، ومن رهط مرتكبي الجرائم الاقتصادية والسياسية. أما الركيزة الثانية لمرجعية الدولة المغربية، فهي تتكون من المؤسسات المالية العالمية، والدول الإمبريالية وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.

والخلاصة أن جوهر السياسة المتبعة لم يتغير من عهد للآخر، وأن وضعية مختلف طبقات الشعب، من كادحين ومعطلين ومهمشين زادت سوءا، وهذا خلافا لما يروجه " تجار الأوهام"، أكانوا من ركائز العهد القديم، أو من المهرولين الجدد، ومن أشباه المثقفين، الذين تخلوا عن مبادئهم وقناعتهم الثورية، وتحولوا إلى خدام ومداحي " العهد الجديد ". من الناحية الشكلية، وكما قلت سابقا، فأسلوب محمد السادس يختلف عن أسلوب أبيه، وهذا شيء طبيعي، وإذا كان العديد من المهتمين يفضلون أسلوب الابن، فإنني أسجل مفارقة، في إطار العلاقة بين الملكين، بالأحزاب السياسية البرلمانية: فالحسن الثاني يستشير الأحزاب ويفرض في آخر المطاف قناعته الشخصية على الجميع (عملا بالمثل الشعبي المتخلف: (شاور المراة وماديرش برايها)؛ أما محمد السادس، فإنه يطبق مباشرة آرائه دون المرور من حلقة التشاور المباشر الشكلي.

+ + +
عبد السلام أديب باحث اقتصادي
+ + +


النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي ساد في عهد الحسن الثاني هو السائد في عهد محمد السادس
+ + +

- ما هو الفرق القائم بين عهد الملك الراحل الحسن الثاني والملك محمد السادس في المجال الاقتصادي والاجتماعي؟

+ إن أي متتبع موضوعي للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سيتبادر إلى ذهنه أن النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي ساد في عهد الراحل الحسن الثاني هو نفسه السائد حاليا في عهد الملك محمد السادس مع بعض التغيرات في الشكل والملامح، فهذا النظام الذي كان طفلا في العهد السابق بلغ سن المراهقة حاليا، وبطبيعة الحال هناك تغيرات فزيولوجية ونفسية إضافة إلى تغير الملامح الخارجية.

وما يمكن استخلاصه من هذه الفكرة هو طابع الاستمرارية لنفس النظام وإن كان ذلك بأساليب جديدة. وإذا كان العهد السابق قد دام أربعين سنة، فقد مر انطلقا من هيمنة الاقتصاد العمومي الذي دام عقدين من الزمن تم تحول ابتداء من عقد الثمانينيات نحو إعطاء دور الريادة للقطاع الخاص الوطني والأجنبي، لكن خلال الحقبتين الأولى والثانية كان الدور الحاسم في المجالين الاقتصادي والاجتماعي لما يسمى بالمخزن الاقتصادي.

فعقب عقدين من التدبير العمومي (الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين) حيث ساد قطاع عمومي بعيدا عن المساءلة الديموقراطية وتعرض لاختلاسات مفرطة لا زال أبطالها بعيدين عن المحاسبة وهو ما أدى إلى انفجار المديونية الخارجية ووقوع المغرب تحت وصاية المؤسسات المالية الدولية، تم التحول في إطار ما يسمى بسياسات التقويم الهيكلي نحو الاقتصاد الليبرالي والخوصصة والمراهنة على الاستثمارات الأجنبية الخاصة وعلى التجارة الخارجية، لكن الريادة في هذا المجال قادتها نفس الفئة التي كانت تدير الاقتصاد العمومي سابقا هي التي تحولت نحو التدبير الخصوصي لكبريات الشركات سواء في إطار احتكارات وطنية أو بتعاقد مع الشركات متعددة الاستيطان على أساس المناولة.

فالنظام الاقتصادي والاجتماعي الحالي هو وريث للمرحلة الثانية من العهد السابق، ولا زالت نفس المبادئ تحكمه، أي ازدواجية الأداء الاقتصادي ظاهره اعتماد ما يسمى بالليبرالية والمنافسة الحرة وباطنه هيمنة واحتكار مطلقين للمخزن الاقتصادي على المساحة الاقتصادية.

- هل مازلنا نعيش عهدا جديدا؟

+ إذا كنت تتحدث عن المجال الاقتصادي والاجتماعي فليس هناك عهد جديد، لأن الأجندة التي تحكم هذه المجالات ظلت هي نفسها، بل الاستمرارية هي سيدة هذه المجالات، وكل المؤشرات تدل على أن الافلاسات الاقتصادية والاختناقات الاجتماعية قد تعقدت أكثر، فالنمو الاقتصادي يظل بعيدا عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولا شيء يؤكد بعد على قطيعة مع الماضي وبداية عهد جديد من الممارسة الديموقراطية لهذه المجالات.

- بعد 7 سنوات من حكم الملك محمد السادس، فما هي الحصيلة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي؟ وما هي النقط التي تحسب له وتحسب عليه؟

+ أعتقد أنني قدمت جوابا غير مباشر على الجزء الأول من هذا السؤال حينما تحدثت عن استمرارية نفس النهج الاقتصادي والاجتماعي السابق، وأتمنى لو كان لدينا دستور ومؤسسات ديموقراطية من طبيعتها إخضاع كل درجات الحكم للمسائلة والمحاسبة وبدون أية رقابة ذاتية أو خارجية حتى يتمكن الجميع المشاركة في تقييم نزيه لمثل هذه الأشياء.

- من المعروف أنه لا ديمقراطية بدون تنمية، ويقال أن المغرب يعيش انتقالا ديمقراطيا، فما هي طبيعة الارتباط بين هذا المسار والتنمية؟ وماذا تحقق في المجال الاجتماعي والاقتصادي بخصوص الارتباط بين الديمقراطية والتنمية في عهد الملك محمد السادس؟

+ هناك علاقة جدلية بين الديموقراطية والتنمية، فكما أن لا ديموقراطية بدون تنمية كذلك لا مجال للتنمية بدون ديموقراطية. فالحديث على أن المغرب يعيش انتقالا ديموقراطيا لا يعني أننا انتقلنا فعلا نحو الديموقراطية، كما أن العصرنة وتشييد البنيات التحتية وازدهار مجموعة من الشركات الكبرى وإطلاق برامج لمحاربة الفقر المطلق لا يعني أننا انطلقنا في طرق التنمية لأن حسابا بسيطا نميز فيه بين عدد المستفيدين وعدد المهمشين وآفاق المستقبل سيبين لنا أننا لا زلنا بعيدين عن ولوج عهد التنمية الشاملة. وإذا ما تمت المفاضلة بين الديموقراطية والتنمية فسأختار الديموقراطية أولا كما تنص عليها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وأنا على يقين بأن مثل هذه الديموقراطية ستقود حتما نحو التنمية إن انطلق مسلسلها فعلا.

- اعتمادا على حصيلة 7 سنوات من حكم الملك محمد السادس، كيف ترون مغرب الغد القريب؟

+ إذا ما اعتمدنا على ما أشرت إليه من قبل بأن الاستمرارية هي التي طبعت الأداء الاقتصادي للسبعة سنوات الماضية، وأن مختلف المؤشرات تدل على أن المغرب لا زال بعيدا عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، فمن المؤكد أن مغرب الغد سيبقى رهينا بيد أبنائه، فإذا ما كانت هناك إرادة حقيقية للتغيير، فيجب أن تبدأ من الآن عبر وضع دستور ديموقراطي صياغة ومضمونا وفصل حقيقي للسلطات وحكومة منبثقة بكاملها عن البرلمان ومسؤولة أمامه وتتوفر فعلا على السلطة التنفيذية لبرامج تدافع عنها خلال الحملة الانتخابية وأن يشرف قضاء مستقل ونزيه على تنظيم الانتخابات. فمثل هذه المطالب هي المدخل الحقيقي للديموقراطية بعد ذلك يمكن أن تأتي مسألة التنمية حسب تنافس برامج الأحزاب السياسية التي تكون ممثلة بالفعل لطموحات الجماهير الشعبية وعلى رأسها الطبقة العاملة.

إن الإنسان يصنع تاريخه، فالمستقبل القريب لا يمكن أن يكون أحسن حالا من الماضي إذا لم يقم المغاربة بصنع غذهم كما يحلمون به، ولعل أجمل حلم هو أن نعيش في ديموقراطية حقيقية يتشارك فيها جميع المغاربة في تشييد تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة وبالتالي إخضاع كل البرامج للاختيار الديموقراطي ومحاسبة كل ممارس للسلطة في الجوانب المسؤول عنها.

إن السير نحو المستقبل لا يسير بشكل مستقيم فكما يمكن أن تتقهقر الأمور إلى الوراء يمكنها أن تتقدم إلى الأمام، ويبقى العنصر الحاسم هو مدى نضالية الإنسان المغربي لتحقيق مستقبل أفضل في ضل ديموقراطية سياسية واقتصادية لا مجال فيه لسيادة الفكر الوحيد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى