السبت ١٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢١
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

9- المرأة في التراث العربي بين خطابين

(عُوران الثقافة!)

ناقشنا في المساق السابق موقف (علي أحمد سعيد/ أدونيس) المُمَجِّد لفِكر (أبي العلاء المعرِّي)، غير ناظرٍ إناه، المليء بمواقف متناقضة، ومنها مواقفه الجاهليَّة من المرأة. متغنِّـــيًا دائمًا ببيته:9

اثنانِ أَهلُ الأَرضِ: ذو دِينٍ بِلا
عَقلٍ، وآخَرُ عاقلٌ لا دِين لَهُ

وقلنا: إنَّ غاية ما تصوِّره الأبيات، التي منها هذا الشاهد الأدونيسي، المأساة العامَّة في اختلال الموازين بين بني الإنسان، منتقِدًا الشاعرُ أَتباع الدِّيانات جميعًا. ولكن أليس في أهل الأرض ذو دِينٍ عاقل، أو عاقلٌ دَيِّن؟ وليكن المعرِّيَّ نفسه؟! وكأنَّ هاتين الصِّفتَين لا تجتمعان في امرئٍ واحد. ولو كان ذلك ما عناه النصُّ، لَما قَدَّمَ أبياتًا لوصف فساد أتباع الدِّيانات- عرضناها على القارئ في المساق السابق- مصوِّرًا التعارض بين ما يقولون وما يُضمِرون، وبين كلامهم عن ادِّعاء الأنوار واستحلالهم الخمور، ولَما كان معنًى لتخويفهم بالقضاء السَّماوي، ولَما وصفَ بعضهم بالهفوة، وآخَرين بعدم الاهتداء، أو بالحَيرة، أو بالضَّلال، بل لوَصفَ الأديان ذاتها بتلك المعايب، لا أهلها. وإنَّما ظاهرُ النصِّ تعريةُ زَيغ الناس عن الجادَّة المستقيمة، الآخِذة بمعادلة العقل والدِّين.

هذا كل ما هنالك. غير أن المطلوب إثباته- اعتسافًا- لدَى من يستشهدون ببيت المعرِّي الأخير، نقيض ذلك؛ فالمطلوب إثباته أنَّ الشاعر كان يمتدح "ذا العقل بلا دِين"، ويهجو في المقابل: "الدَّيِّن"- وهو بالضرورة دَيِّنٌ بدِينٍ محدَّدٍ مؤرِّق- ولذا لا عقل له!

وهكذا تلعب الإديولوجيَّات بالعقول، وتبعث على تدليس النصوص والمعاني، مصوِّرةً المعرِّي- كما في هذا النموذج- على أنَّه ذلك المفكِّر العقلاني المتحرِّر، نصير العقلانيَّة المطلَقة، والحُريَّة الجذريَّة من الأديان. ويا لها من عقلانيَّةٍ وحُريَّةٍ لدَى رجلٍ ظلَّ أميل إلى العقل التقليدي، والطبيعة الخرافيَّة، حتى إنَّه ليدعو صراحة- في ما يدعو إليه- إلى "دفن المرأة"؟! أفلا يقرأ هؤلاء غير ما يُحِبُّون أو يتوهَّمون؟ أينهم عن لزوميَّته(1)، مثلًا:

وإنْ تُعْطَ الإناثَ ، فأيُّ بُؤْسٍ
تَبَـــيَّنَ في وُجُـــــوْهِ مُقَسَّـمــــــــاتِ
يُــرِدْنَ بُـعــــولـــــــةً ويُــردْنَ حَــــــلـْــــــيـــًا
ويَلقينَ الخُطـــوبَ مُلوَّمـــاتِ
ولَــسْــــنَ بدافِعـــاتٍ يَـــومَ حَــــربٍ
ولا فـي غـــــــــــارةٍ مـــتَـغَــــشِّــــمـاتِ
ودَفْـنٌ والحَـــــــوادثُ فاجِعـَاتٌ
لإحداهنَّ إحْدَى المَكْرُماتِ
وقــد يَــفـقـِـــدنَ أزواجًـــا كِـــــرامًا
فــــــــــــــيا للنِّـــــــــــــسـوةِ المــــتــأيـِّــــــماتِ
يَــــلِــــدْنَ أعـاديـًــــــا ويــكُــــنَّ عـــــــــــارًا
إذا أَمســــــــــينَ فـي المتهضَّمــاتِ!

فيا له من شاعرٍ فيلسوفٍ، تنويريٍّ، متحرِّرٍ حقًّا! على أنَّه في لُزوميَّته هذه، ذات المطلع:

ترنَّمْ في نهاركَ مُستعينًا
بذِكــر اللهِ فـي المــــترنِّمـــاتِ

قد سجَّل نفسه بنفسه في المدرسة التي قال: إنَّ الإنسان فيها: "دَيِّنٌ لا عَقلَ لَهُ"! لأنَّه إنَّما وصلَ إلى ازدراء المرأة رهبانيَّةً ابتدعَها، وتبتُّلًا متكلَّفًا، وتعاليًا عن مصاحبة النِّساء، بوصفهنَّ لديه حبائل الشيطان، ولا تأتي من ورائهن إلَّا ألوان الشُّرور.

غير أنَّ مثقَّفينا عُوْرٌ، غالبًا؛ فلا يقرؤون إلَّا ما يعشقون، ولا يرون سِوَى ما يُقيِّدون به عقولهم وضمائرهم إديولوجيًّا. ثمَّ أينهم عن بقيَّة لُزوميَّة المعرِّي(2) تلك، التي يعبِّر فيها عن أنَّه ضِدَّ تعليم المرأة، قائلًا:

فَحَـمْـلُ مَغـازِلِ النِّسوانِ أَوْلَى
بِهِـــــنَّ مِـنَ الـــــيَـراعِ مُــــــقَـــــــلَّمــاتِ
سِهـامٌ إِنْ عَـرَفْـنَ كِـتابَ لِسْنٍ
رَجَـعـْـنَ بِـما يَسوءُ مُسَـمَّماتِ
ويَـتــرُكــــنَ الرَّشـــــيـدَ بِغَــــيـرِ لُـــــــبٍّ
أَتَـــــــــــــيْـــنَ لِـــــهَـدْيِــــــــــهِ مُـتَـعَـلِّمـــــــــــاتِ
لِيَـأخُــذْنَ التِّــــلاوَةَ عَن عَجُــــــوزٍ
مِـنَ اللَّائـــــي فَـغَــرْنَ مُهَـــــــــــتَّماتِ
يُـسَــبِّـــــحْــنَ المَـــــليـكَ بِكُـــــلِّ جُـــــنــْـــحٍ
ويَركَعْنَ الضُّحـــَـى مُـتَـأَثِّـــــمَـاتِ
فَمـا عَيـْبٌ عَلى الفَتَـياتِ لَحـْـــــنٌ
إِذا قُــــــلْـنَ الـمُــرادَ مُـتَـرْجِــــماتِ
ولا يُـدْنَــــــــــــيــْنَ مِـــــنْ رَجُـــــلٍ ضَريـــــرٍ
يُـــــــلَـــــقِّـــــنُــــــهُـــــــــــنَّ آيـًـــــا مُـحـكَــمــــــاتِ
سِوَى مَن كانَ مُرتَـعِــــــشًـا يَــــــداهُ
ولِـــــمَّــــــتــُــــهُ مِــنَ المُـــــــتَـــثَـــــــغِّـــــمـــــــاتِ!

ذاك، إذن، هو فليسوف (الـمَعَرَّة)، الذي شغفَ بعض أدعياء الحداثة الشِّعريَّة، بلا حداثة حضاريَّة، وعُوران الثقافة المجانيَّة، فِكرًا وعقلانيَّةً أصوليَّة! فهم إمَّا لا يقرؤون، وإمَّا يقرؤون ولا يفهمون، وإمَّا يقرؤون ويفهمون غير أنَّ دَيدنهم أن ينتقوا ما يَغُشُّون به قارئيهم حين يكتبون، مُخْفين البضاعة الرديئة تحت ما ظاهره الصَّلاح.

(1) المعرِّي، أبو العلاء، (1992)، شرح اللُّزوميات، تحقيق: منير المدني وزينب القوصي ووفاء الأعصر وسيِّدة حامد، بإشراف ومراجعة: حسين نصَّار، (القاهرة: الهيئة المِصْريَّة العامَّة للكتاب)، 1: 277/ 25- 30.

(2) م.ن، 1: 279- 280/ 59- 61، 63- 67.

(*) هذا المقال جزء تاسع من ورقة بحثٍ قُدِّمت فكرتها في محاضرةٍ حِواريَّةٍ في (الصالون الثقافي بنادي جُدَّة الأدبي الثقافي)، مساء الأحد 28 فبراير 2021، بإدارة: (الشاعرة جواهر حسن القرشي).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى