الجمعة ١٨ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم راندا رأفت

النيل صانع الحضارات

لو نظرت إلى معصمك لوجدت وريدك الأزرق أقرب الشبه إلى تفرعات دلتا نهر النيل عند مصبه في البحر المتوسط، ثم أقرب الشبه في تعرجاته إلى القلب، حتى منبعة في اثيوبيا عند بحيرة فيكتوريا؛ فلا عجب أن يكون النيل هو شريان الحياة ووريدها لمصر.

نهر النيل أطول أنهار العالم، يبلغ طوله حوالي 6738 كيلو متر، يجرى فى مصر لمسافة 1532 كيلو متر. واتخذ نهر النيل شكله الحالي في نهاية العصر الحجري القديم، أى منذ حوالي 20 إلى 100 ألف عام تقريباً؛ ونتيجة لهطول الأمطار على هضبة الحبشة يصل الفيضان سنوياً إلي مصر حاملاً معه الطمي أو الغرين الذي منه تكون الوادي والدلتا، يرى بعض علماء الجغرفيا أن النيل عمل على توسيع كسر في الحجر الجيري حتى كون فجوات، ثم ملأ الفجوات بركام المرتفعات الجنوببية بطغيانه على البحر المتوسط حتى كون الدلتا.

يجري النيل من الجنوب إلى الشمال؛ ليتفرع إلى فرعين يصبـان في البحر المتوسط هما فرع رشيد وفرع دمياط، يجري النيل في حوض عظيم تبلغ مساحته مليونين وتسعمائة ألف كيلو متر مربع، ويمثل الركن الشمالي الشرقي من أفريقيا، يجري بداية من خط الاستواء حتى البحر المتوسط، ويمر في عشر دول هي: مصر، أوغندا، إثيوبيا، إريتريا، السودان، الكونغو، الديمقراطية، بوروندي، تنزانيا، رواندا، كينيا.

جميع دول دول حوض النيل تعيش على الري بالمطر والنهر، لكن مصر تعيش على النيل فقط.

كتب هيرودوت المؤرخ اليوناني الذي زار مصر في القرن الخامس قبل الميلاد: "إن مصر هبة النيل" صدق هيرودوت في ذلك؛ فالتربة والحاصلات الزراعية والنبات والحيوان والحياة الإنسانية على وجه السواء يقرر مصيرها النيل.

يعيش شعب مصر على ضفاف وادي النيل، وقد بدأ حياته في الوادي منذ بضعة الآف من السنين، استطاع خلالها أن يبني صرح الحضارة في أرجاء هذا الوادي قبل أي شعب آخر.

عاش المصريون على الزراعة فكانوا في حاجة دائما إلى الاستقرار؛ حيث النيل يحتاج إلى تنظيم وتخطيط وترتيب وتنسيق وحفر وحرث وزرع، ويعتمد النيل على الفيضان السنوي، هذا الفيضان تسببه أمطار الربيع وذوبان الثلوج في مرتفعات الجبال العالية، وانتظام هذه الأحوال الطبيعية يعادله انتظام مماثل في حياة وعادات الشعب.

ونتيجة لهذا النظام في حياة المصريين ظهرت الحاجة لإقامة الدولة، تعد مصر أول دولة في تاريخ الإنسانية، وهي أول أرض في التاريخ قامت على العلم والعمل

بالعمل زرع المصري وحرث وحصد وبالعلم نظم وخطط واقام السدود وحفر الترع، فكان النيل هو المعلم الأول للبشرية وللحضارة الإنسانية.

في مصر الفرعونية ارتبط فيضان النيل بطقوس شبه مقدسة، حيث كان المصريون يقيمون احتفالات وفاء النيل ابتهاجا بالفيضان. كما قاموا بتسجيل هذه الاحتفالات في صور نحتت على جدران معابدهم ومقابرهم والأهرامات لبيان مدى تقديسهم لهذا الفيضان.

ففي قصيدة فرعونية ترجع إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد تقول:

"حمدا لك أيها النيل!
الذي يتفجرمن باطن الأرض؛
ثم يجري ليغذي مصر
فهو الذي يسقي الحقول،
وقد خلفه رع ليطعم كل دابة وماشية،
ويرسل الماء إلى جهات بعيدة فيرويها ويطفئ ظمئها
إله الزراعة كاب يحبه، وإله الصناعة فتاح معني به
فلولاه ما ازدهرت الزراعة ولا الصناعة
ولولاه ما حصد القمح ولا الشعير وامتلئت بها الخزائن
واقامت الهياكل حفلات الشكر على الغلة الموفورة والخير العميم
والويل للأرض ومن عليها حين يقل ماؤه ويجيء فيضانه شحيحا قليلا
فهنالك تهلك النفوس وينادي الجميع بالويل والثبور
حتى إذا ارتفع وفاض وانتشر الفرح والابتهاج في كل مكان
وضحك الجميع"

أطلق المصريون القدماء على النيل اسم " ابترعا " أي النهر العظيم. ومن هذا اللفظ اشتقت كلمة الترعة. وأما لفظ النيل فأصله مصري قديم، أو فارسي بمعنى أزرق.

وقد عبد المصريون القدماء عددا من الأرباب والربات التي ارتبطت بنهر النيل.

كان الرب الرئيسي أو أبو الأرباب هو (حابي) الذي كان يصور في هيئة رجل ذي ثديين وبطن ممتلئة مطلى باللون الأسود أو الأزرق (الأسود لون الأرض الخصبة، والأزرق لون مياة النيل)، ويرمز الرب حابي إلى الخصب الذي يمنحه النيل لمصر.

وكان حابي يصور في أحيان آخرى حاملا زهورا ودواجن وأسماكا وخضراوات وفاكهة إلى جانب سعفة نخيل (رمزا للنعم التي يجود بها النيل).

وأحيانا آخرى كان يصور حابي حاملا على رأسه زهرة اللوتس (شعار مصر العليا) ونبات البردي (شعار مصر السفلى).

ونظرا لأهمية الزراعة على مصر العصور؛ اعتقد المصريون القدماء أن نمط الحياة المثالي هو النمط الفلاحي القائم على الزراعة والحقول الخضراء، فبعد الموت وانتهاء الحساب أمام محكمة اوزوريس ينتقل الإنسان للعيش في الحقول والجنة التي هي مصر آخرى، يرويها نيل آخر تجري فيها الأنشطة الزراعية العادية

وكان للنيل فوائد جمة في حياة المصريين، لا تقتصر أهميته على الزراعة والري فقط، بل كان الطريق العام الذي تمر فيه التجارة وهو حلقة الاتصال بين مصر والعالم الخارجي، وأمد النيل مع القنوات والترع والمستنقعات والبحيرات، المصريين بأنواع عديدة من الطعام، وكانت الأسماك على وجه الخصوص مصدرا هاما للتغذية، وكانت تنظف وتملح من أجل حفظها لفترات طويلة،

استخدمت المراكب أو القوارب في صيد الأسماك؛ بالشباك أو الرماح أو السلال المخروطية.

وتظهر مشاهد صيد الأسماك منقوشة على جدران المقابر، وقد زودت المقابر بالأسماك الجافة لكي يستخدمها المتوفى في القرابين؛ وصورت بين القرابين المقدمة إلى الأرباب وإلى المتوفى.

وكانت أراضي الدلتا الخصبة مليئة بالمستنقعات التي كان ينمو بها نبات البردي البري والزهور؛ في بيئة نموذجية، وقد كان أعضاء الأسر الموسرة وخدامهم يقضون أوقات الفراغ بتلك الأماكن؛ مستمتعين بصيد الأسماك وقنص الحيوانات، مثل أفراس البحر والضباع والغزلان والجاموس البري والتماسيح.

وكانت الطيور تصطاد بقذفها بما يشبه القوس أو توقع في الشباك؛ كما كانت تجمع الطيور والزهور وثمار الفاكهة.
وكان الناس في بعض الأحيان ينظمون مسابقات رياضية؛ تضم بين فقراتها سباقات السباحة والتجديف ومباريات المصارعة والقتال ومختلف الألعاب.

هذا في عصر الفراعنة، وفي العصر البطلمي فقد إهتم البطالمة بتشييد المعابد على ضفاف النيل، وتزويدها بمقاييس فيضان الميل، ويتكون مقياس النيل الخاص بجزيرة فيلة من سلم نقشت على جدرانه الداخلية قياسات الفيضان بالأذرع، كما نقش أيضا توقيت وزمن الفيضان.

أما مصر فى العصر الرومانى، فقد أولى الحكام الرومان بعض العناية بالمبانى المتعلقة بالنيل التى شيدت فى عصور سابقة؛ للحصول على التقييم الحقيقى.

وفي العصر الإسلامي قد عثر على مراجع عربية تشير إلى أوقات الفيضان وطرق قياس النيل والمقاييس التي أنشأها المسلمون للوقوف على زيادة ونقصان ماء النيل، وكانت الضرائب وقتذاك ترتبط بأوقات الفيضان، وقد بنى العرب القنوات والجسور والخلجان لأجل الري والزراعة.

وكانت الاحتفالات والأدعية تعقد داخل جامع عمرو بن العاص، لزيادة ماء النيل.

وكان لمياه النيل دوراً حيوياً في الشعائر الدينية الإسلامية حيث أنه لازم للوضوء الذي يعد أمراً ضرورياً قبل الصلاة. ولقد كان مسجد عمرو بن العاص ومسجد أحمد بن طولون بالقرب من نهر النيل عند بنائهم.

شهدت مراحل التاريخ الحضاري المصري - كما يرويها الجعرافي المصري الشهير (جمال حمدان)- صراع ملحمي بين الانسان المصري والنيل، المرحلة الأولي مرحلة فجر الفن الزراعي وهي المرحلة التي سبقت اكتشاف الزراعة بمعناها الصحيح، في هذه المرحلة كان النيل كل شيء بالنسبة للانسان وكان الإنسان مجرد مقلد للطبيعة أسيرا للنيل.
المرحلة الثانية مرحلة الري الحوضي، في هذه الفترة صار الفلاح أشبه بالمهندس الجغرافي فقد أعاد خلق الطبيعة، وجعل شبكة السدود والترع طبيعة ثانية للوادي، وهذه الفترة كانت أطول فترات التاريخ.

والمرحلة الثالثة هي مرحلة الفن الزراعي الحديث التي بدأت منذ قرن ونصف، وتعد هذه المرحلة طفرة حقيقية قلبت موازين هيكل الزراعة المصرية، أهم هذا التغير أنه بعد أن كانت مصر مزروعة شتوية قوامها الحبوب وهدفها الاستهلاك المحلي والكفاية الذاتية فقط، أصبحت حقلا منتجا على مدار السنة وفتحت الأسواق العالمية والتبادل التجاري، بذلك تضاعف الدخل القومي، وتغيرت مستوى معيشة السكان.

ويمكن رواية تاريخ النيل المصري من جهة آخرى وهي مراحل التحكم في الفيضان.

ففي البداية ساد الاعتقاد أن نقص الفيضان ما هو إلا نقمة من الإله حابي إله الفيضان، ثم أتجه التفكير في كيفية الإسفادة من الفيضان الغزير عند نقص المياه، ففكروا في التخزين، وكان الهدف الاساسي من التخزين هو تسوية ايراد النهر في مواسم السنة كلها وتنظيم التصرف والسيطرة عليه.

اتجه التفكير أولا إلى إقامة الترع وبعد نجاح فكرة الترع، حاولوا تعميق هذه الترع لتستوعب كمية أكبر من الماء.

لكن تعميق الترع كلف الفلاح المصري الكثير فهو يحتاج إلى تكاليف باهظة لرفع مستويات المياة في الترع، ومصاريف آخرى للصيانة، وآخرى لإزالة الرواسب التي تترسب في قاع الترع.
وفي عام 1833 في عهد محمد علي اتجه التفكير إلى غلق فم فرع رشيد وتعطيل الجريان فيه بسد من الصحور الضخمة والأحجار لتحويل الجريان إلى فرع دمياط والترع التي تاخذ منه وكان هذا الإجراء مقدمة أوحت بفكرة استخدام القناطر.

والقناطر عبارة عن بناء يوضع في مجرى النيل من جانبة الأيسر إلى جانبه الأيمن، ويبني من الأحجار القوية، وبه فتحات تغلق وتفتح ببوابات حديدية ضخمة للتحكم في جريانه.

وطبيعة القناطر رفع مستوى الماء الجاري ليصل إلى ارتفاع معين لتغذية الترع التي تقع في مستوى أعلى من مستوى الجريان الفيضي في النهر، وكان في موسم الفيضان يتم فتح جميع الفتحات وترك الجريان حرا.

ثم أوحى نجاح قناطر الدلتا بإقامة قناطر آخرى على النيل في أماكن متفرقة، فانشئ قناطر أسيوط 1902، وزفتى1903.

وأخيرا اتجه التفكير إلى انشاء سد ضخم على النيل لتخزين المياه فى السنوات ذات الايراد العالى لاستخدامها فى السنوات ذات الايراد المنخفض، فكان من الطبيعي أن يدور البحث عن مجرى للنهر في مصر لإختيار الموقع الملائم الذي يكفل تحويل جزء من مجرى النهر ووادية إلى حوض كبير للتخزين، مع توافر شرطان أساسيان:

1- أن يكون الموقع داخل حدود مصر، هذا من الناحية السياسية حتى لا يسمح لأي دولة بالتدخل في مورد أساسي من موارد الحياة مصر.

2- أن يكون الموقع في اقصى جنوب مصر لإمكان الاستفادة من حوض التخزيين في ري أكبر مساحة ممكنة من رقعة الأراضي المزروعة في مصر.

3- أن يكون الموقع صالحا من وجهة النظر الفنية الهندسية، بمعنى أن يكون في منطقة النهر عندها ضيقا حتى لا يزداد عرض البناء ويضعف، ولا يكون شديد العمق حتى لا ترتفع تكاليف البناء، كما كان من الضروري أن تتوافر الصخور الصلبة القوية في قاع النهر وعلى جانبية لإرساء قواعد البناء الضخم بحيث يتحمل ضغطا كبيرا.

لهذه الأسباب الثلاثة وقع الاختيار على أسوان، وتم انشاء السد بحيث يمتد في مساحة طولها 2 كيلو متر مربع، وقد روعي في البناء أن يكون كتلة صلبة شديدة التماسك ويضم فتحات أفقية؛ تسمح بمرور المياة خلالها ويتحكم فيها بوابات عمودية من الصلب ضخمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى