الأحد ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٥
بقلم بسمة فتحي صالح

ياسين

كان يحاول بكل ما يمتلك من أساليب، المحافظة على وضعه، والحيلولة دون انجرافه السريع للأسوأ، وكانت آخر أبحاث وتجارب الإيقاف تلك، تكديس المعاجم اللغوية والبحث عن معنى اسمه.. ظنّاً منه أن لكل إنسان نصيباً من اسمه.. فربما كان حجر النحس الأول الذي رُمي به حال سقوطه إلى ضجيج الأرض.

("ياسين".. "ياسين".. "ياسين") لم يجد له معنىً محدداً، وفي أفضل المعاجم وُضع اسمه وخلفه تقبع نقطتان مشيرتان إلى أن "ياسين" هو: "اسمٌ لذكر".

غادر المكتبة، وترك أكداس المعاجم على الطاولة، متجاهلاً اللوحة الكرتونية المكتوبة بخطٍ أسود رديء "الرجاء عدم ترك الكتب على الطاولة، وإعادتها حيث رفوفها المخصصة والمُعتمدة على التصنيف"، وصاح -طبعا في سرِّه فهو لم يعد بوسعه الصراخ خارج صدره منذ زمنٍ طويل لا يستطيع هو تحديده كما الجميع طبعا- "اسم ذكر..؟! هذا فقط.. وهل أتوا بشيء جديد؟ حتى هنا "ياسين" حظك مُقْتِر؟ ضاقت اللغة أن تحتفظ لك بأحد جيوبها معنى لاسمك..؟!!"

ذهب إلى الكشك الذي يزوّده بالكتب ـ عندما يتوفر بجيبه بضعة دنانيرـ ، كان يغبط صاحب الكشك أنه يرتع بين أرتال الحكمة والروعة التي تفيض منها كتب كشكه. ولكنه كان ينزعج من كثرة الزّحام هناك، لا من أجل الاطلاع على الكتب وشرائها بل لأن الكشك يقع بشكل شبه ملاصق لأحد المطاعم التي تقدم وجبتها الأساسية "المنسف"، فيتساءل عن العلاقة التي تجمع بين الطرفين..! وما يثير غثيانه أكثر، اضطرار صاحب الكشك عرض الكتب الجنسية في واجهة كشكه، وكأنها هي الكتب الأكثر طلباً، بينما يحتفظ بالكنوز الحقيقية في الداخل، لقِلّة الباحثين عنها..!!

بعد أن فشل بإيجاد رواية "الحلاج يصلب من جديد" سار في منطقة (وسط البلد) بشكل أتوماتيكي مُبرمَجٍ فقد حفظ شوارعها عن ظهر قلب وعلى مدى سبع وعشرين سنة، بخطى معتدلة، الناظِر له يدرك أن هذا الرجل يسير دون وجهةٍ حقيقية، بسبب رأسه المدوّر والذي يشبه الكُرة لولا نتوء نظارته التي تنقذ الوضع وتضيف سنواتٍ أخرى لعمره، وكذلك رقبته المرنة التي جعلت من رأسه أشبه بطائر البومة التي تستطيع أن تلفّ رقبتها دورة كاملة حتى لا تَفْلت منها حركة واحدة بأي اتجاه!

كان يعشق تأمل وجوه الناس، والأزقة، ولولا طبعه الخجول وخوفه الدفين، لغامر ودخل أحد فنادق (وسط البلد)، التي يتخيل غرفها صغيرة أو بالكاد تتسع لسرير حديدي ضعيف يصدر عنه صريرٌ حادٌ، إذا ما انقلب النائم لا إراديا على جنبه الآخر، وكذلك بجانب السرير (كُميدينو) حديد صدئة يضعُ فيها النزيل سجائره المحلية الرخيصة وعلبة الثقاب وحامِلة مفاتيح تضم مفاتيح كثيرة لا يعرف متى بالضبط فقدت أبوابها، وكذلك يتخيل أيضاً أن الحمّام يتشارك به مجموعة من النزلاء في آن معاً. كان يعشق كل تناقضات (وسط البلد) لأنها فقط من يستطيع ضَمّ جميع فئات المجتمع من الغني مُرتدي بدلة "الفرزاتشي" وراكِب سيارة المرسيدس، إلى ذلك الموظف الذي يتأبّط الصحيفة بينما تحمل يداه أكياس الخضرة الذابلة الواشِية ببساطة راتبه، مروراً بـ(نابليون) ذلك المأفون ذي الشعر الطويل القذر وملابسه الغريبة والتي يرتديها –ذاتها- صيفاً شتاءً وجزمته العالية التي يبالغ بتنظيفها دوناً عن كل ما يرتديه، وعصاه التي يجلد بها الهواء ويصيح (أنا نابليون)..!

ينسى الوقت هناك، ويشعر بحزن شفاف، ربما لأنه يستذكر سنوات حياته القليلة المليئة بالتفاصيل المعتادة وغير المهمة والطّاحنة بآن واحد..!! كان ينظر في وجوه الناس يشعر أنه يقرأ مجلداً في وجه كل واحد منهم، ويبحثُ عن العدالة في أي زقاق اختبأت، ويشاطر أفلاطون أحلامه وبحثه عن المسكن الحقيقي للروح -"المدينة الفاضلة"، وكم يبتهل إلى الله أن لا يوجد شخص آخر يراقب الناس مثله، خشية أن يكشف الآخر أجيج الحزن الأصيل في نفسه، طرد هذه الفكرة بِسَير قدميه إلى الزاوية التي اختارها العم (أبو العبد) ووضع عليها عربة التّحميص الخاصة بالفستق منذ ما يزيد عن عشرين سنة. (العم أبو العبد) الوحيد الذي يشعر به ويقول له: ( "ياسين"، عمي هوّنها بتهون، نص الألف خَمِسْمِيِّة..!!، من يوم ما عرفتك صغير وأنت هيك.. عَشو؟ دراسة .. ودرست.. والشغل رايح ييجي يا عمي بييجي لا تقلق..)

ابتسم ياسين بدوره ربما لأنه سمع اسمه وتذكر أنه لا يحملُ معنى سوى اسم لذكر الأمر الذي جعله يتصور ذكراً طويل القامة ممتلئ الصدر ويحمل ملامحَ حادة يضيف تواجده هالة من الإرباك في أي مكان، نفض هذا التصور من مخيلته سريعاً - لأنه على نقيضه تماماً، معتدل القامة، نحيف جداً، يسير في أي مكان دون أن يلحظه أحد.. هكذا كان يظن- وشرع يتأمل تلك البشرة فاحمة السواد التي يمتلكها العم (أبو العبد)، وأسنانه التي تشكِّل ثروة ضخمة لو كانت حبات لؤلؤ حقيقية، لا أسنان في فم ستينيٍّ عجوز محنيّ الظهر، وأكمل: (آآه يا عم أبو العبد، أنت من يفهمني.. احرص على الفستق أحبه ساخناً لا محروقاً) واستدرك (العم أبو العبد) الفستق، وعبأ بكيس ورقي مقداراً بعشرة قروش، بينما أكمل "ياسين" صمته متأمِّلاً يديْ (العم أبو العبد) بأصابعهما المقفّعتَين.

استدار عائداً إلى البيت بينما تجتاحه رغبة عارمة بالبكاء...

مازال يضغط طيف ذلك الذكر -طويل القامة ممتلئ الصدر صاحب الملامح الحادة والذي يضيف تواجده هالة من الإرباك في أي مكان، على مخيلته رافضاً الانزياح، مما جعله يتساءل: (أين أنا منه؟! أين أنا مني؟! وأين أنا من شهادتي النائمة بين أشعاري الخبيئة؟! بل أين أنا عن هذا السيرك المُسمى بالكون..!!)

لم يدرك أنه وصل بيته، إلا حين صاحت أمه به: ("يااااسين"، أنا أمك.. ألقي عليّ التحية فقط، لا أريد أكثر من هذا.. لأعلم أنك عدت..!!). نظر ببرود إلى كيس الفستق الورقي الذي بين يديه، ودُهش فعلاً أن حباته قد نفذتْ، وهذا يعني أنه وصل، فقد اعتاد أن يحضر كمية تكفيه طيلة الطريق وحتى باب البيت، وكذلك كان يجلس قِبالته ذلك الذكر - طويل القامة ممتلئ الصدر صاحب الملامح الحادة والذي يضيف تواجده هالة من الإرباك في أي مكان.

تردد صدى اسمه في أذنه آلاف المرات..اختلط الاسم بنفسه.. ("يااااسين"، "يااااسين"، "يااااسين")

انتصب صائحاً بأعلى صوته كما لم يفعل مسبقاً.. متشبثاً بكيس الفستق الفارغ:

اضطربت طبول قلبه، بدأ جبينه يَنُزُّ عرقاً.. اصفرّ وجهه، صاح بصوتٍ تنشقٌّ له السماء، دار حول ذاته، نفض يديه، وشخصتْ عيناه فوق الباب عند كل استدارة، ليظهر بوضوح معنى اسمه (("ياسين".. "يااااسين" .. يا "سين".. يا "سين".. يا "ســين".. يا "س" .. يا "س")) حتى سقط أرضاً وكان آخر ما رآه ذلك الذكر - طويل القامة ممتلئ الصدر صاحب الملامح الحادة والذي يضيف تواجده هالة من الإرباك في أي مكان،يلوّح بكفّيه بمحاذاة أذنيه، ويمدُّ له لسانه..


مشاركة منتدى

  • بصراحة ماستفدتش حاجة من هالمقال كنت فعلا بتمنى اعرف كل شىء عن ياسين من كل حاجة وما هو سر حبي لهذه السورة القراءنيه بالتحديد وما سبب عشقي لها وكنت اريد ان اعرف معنى الاسم ومن هم ال يس وما سر تسمية السورة بهذا الاسم لكنى لم اجد ماريد للاسف

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى