السبت ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
اصدار جديد
بقلم بشير خلف

حديث صريح مع الدكتور أبو القاسم سعد الله

في الفكر والثقافة واللغة والتاريخ للمؤلف مراد وزناجي

صدر عن دار النشر(الحبر) تعاونية عيسات إيدير بالجزائر العاصمة كتاب قيّمٌ من الحجم المتوسط، يحمل عنوان: حديث صريح مع أ.د.أبو القاسم سعد الله في الفكر والثقافة واللغة والتاريخ للمؤلف الأستاذ مراد وزناجي ..تأتي قيمة وأهمية الكتاب من حيث أنه بالرغم ممّا كُتب الكثير عن الدكتور أبو القاسم سعد الله، أو حتّى ممّا أدلى به هو شخصيا للإعلام ـ وإنْ كان هذا ليس بالكثيرـ إلاّ أن هذا الكتاب مضمونه جاء على لسان الدكتور نفسه، حيث هي أحاديث صريحة في كل قضايا الفكر، والثقافة، واللغة، والتاريخ استطاع المؤلف الشاب مراد وزناجي أن يجمعها، وأن يرتبها بدقة، وأن يقدمها للقراء كوجبة معرفية شهيّة تجذب القارئ إليها،في متعة، وسياحة فكرية تأخذه إلى أن يرافق هذه الشخصية الموسوعية منذ نشأته، في ربوع (البدوع) ضواحي مدينة قمار بالجنوب الجزائري إلى يومنا هذا عبْر مسيرة طويلة في عالم الفكر والثقافة وخاصة التاريخ ..والتاريخ الوطني بخاصة.

لمّا وُضع الكتاب بين يديّ وقرأته قراءة أولى ..فثانية وتمتعتُ بمضمونه واستفدتُ منه كثيرا، وبالرغم من معرفتي الشخصية للدكتور أبو القاسم سعد الله، وتتبعي لأغلب ما ينشره من مقالات منذ عرفته، إلى آخر ما نشره حول العلاقات الثقافية ما بين مصر والجزائر عبر التاريخ، وأغلب الكتب التي نشرها.. إلاّ أن تمتعي بهذا الكتاب كان أكثر لكونه يحمل أحاديث صريحة في أغلب القضايا التي أنذر الدكتور حياته من أجلها، كما أن هذه المتعة جاءت من إصرار المؤلف وصبره الطويل حتى يظفر بهذه الأحاديث الشيّقة، وكذا طريقة تقديمها من خلال أسلوبه الجميل الجذّاب.

ولعلّ ما يُغري القارئ بدْءا وهو يتصفّح الكتاب ذلكم الإهداء الجميل الذي استهلّ به المؤلف كتابه ..إهداء موجّه إلى مؤرخ الجزائر الأول الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله حفظه الله ورعاه، وجعله ذخرا للأجيال، شامخا رغم تواضعه، نبراسا رغم اعتكافه.

بعد هذه المقدمة الجميلة تعرض المؤلف إلى التعريف أو بالأصح تذكير القارئ بماهية الدكتور أبو القاسم سعد الله، والظروف التي تعرّف فيها عليه، وتعدد لقاءاته معه، وإلحاحه في إجراء حوار صحفي معه لصالح إحدى اليوميات الجزائرية، والدكتور يعتذر بلطف كعادته، وهو الرجل الذي يؤثر العزلة، ويمقت الأضواء الكاشفة..إلى أن نجح هذا المؤلف بعد إصرار كانت بدايته منذ عودة الدكتور سنة 2002 من الأردن إلى الجزائر إلى منتصف شهر ماي 2008 حيث بدأت عمليات المحاورة والتسجيل التي كانت ثمرتها هذا الكتاب.

إن المؤلف مراد وزناجي في المقدمة يعرّف بالدكتور أبو القاسم سعد الله باعتباره أحد علماء الجزائر المعروفين،إذْ ليس عالما فحسب، ولكنه المناضل والمؤرخ والمفكر، والكاتب، والرحّالة الذي يلاحق المعرفة أينما هي متلقّيا في البداية، ومقدما فيما بعد، وهو الذي ألّف العشرات من الكتب، ونفض الغبار عن الكثير من المواضيع، والقضايا التي لها علاقة بهويّة الأمة الجزائرية.

إن هذه الشخصية الوطنية يقول المؤلف: تُعدّ بمثابة شهادة حيّة، وموسوعة فكريّة يتوجّب التعريف بها من خلال إسهاماتها النضالية، وأعمالها الأكاديمية الجليلة، وبأفكارها النيّرة، وعوض نشْر هذا الحوار في مجرّد صفحة من جريدة، جاءت فكرة طبْعه، ونشْــره في كتاب تعميمًا للفائدة، وحفاظًا على قيمته التاريخية والأرشيفية.

يتضمّن الكتاب(الحوار) في قسمه الأول السيرة الذاتية، العلمية، النضالية لأستاذنا الكبير كما يرويها هو بنفسه، ثم في القسم الثاني(آراء ومواقف) جملة من الأسئلة العامّة التي كانت ولا تزال تشغل بال عددٍ من الباحثين والمهتمّين بالتاريخ، والثقافة، والفكر، واللغة.

إن القسم الأول من الحوار الخاص بمسيرة الأستاذ الذاتية العلمية والنضالية قد تمّ تسجيله بالصوت، أمّا القسم الثاني المتعلّق بالأسئلة العامّة، فإن الأستاذ الدكتور فضّل الإجابة عنها كتابة.

وحتّى نقرّب القارئ الكريم من مضمون الكتاب نُورد بعض المقتطفات، ولا نقول بعض المختارات لأن كلّ ما في الكتابات مختارات..فحينما يتحدّث الأستاذ سعد الله عن ظروف نشأته، وصعوبات الحياة أيام صباه وما لاقاه من ضنك العيش هو وإخوته ليتأكّدنّ للقارئ الكريم أنّ صناعة المجد ليست بالأمر السّهل، وتبوّأ المكانة التي وصل إليها سعد الله وأمثاله أُخِذت غلابًا..يقول الدكتور سعد الله:

« ..فأنا من مواليد ( حوالي) سنة 1930 وأقول حوالي لأنه آنذاك لم يكن هناك ما يُعرفُ حاليا (بالنقمة) أو (النكوة) لذلك فهم قدّروا عمري تقديرا.وُلدتُ ببلدة (قمار) بوادي سوف، وبالضبط بضاحيةٍ تُسمّى (البدوع) وأصلها عربيٌّ من البدع أو الابتداع، وهو إنشاء الشيء من لا شيء..أنحدر من عائلة فقيرة جدّا، بسيطة ومتديّنة، تحاول أن تعيش بوسائلها على الفلاحة، والفلاحة تقتضي وجود أرضٍ وأملاكٍ، وهذا لم يكن موجودا إلاّ في أعماق الرمال الحرة.

وُلدتُ في عائلة كثيرة العدد، والناس يدعوننا(أولاد علي مسعودة)، وعلي هو جدّي لأبي، ونحن ننتسب إلى عرْشيْن كبيريْن هما أولاد عبد القادر من جهة الأب، وأولاد بوعافية من جهة الأم، وعندما حلّت الحرب العالمية الثانية كانت هناك خصاصةٌ في المئونة والموادّ الغذائية..أتذكّر مثلاً أن الناس عندنا كانوا يتناولون أوراقًا من النباتات الجافّة عوض نبتة الشاي، وكأني بهم يتخيّلونها شايًا، وكنّا نأكل في اليوم تمراتٍ معدوداتٍ لكلّ واحد منّا خمس حبّاتٍ حتّى لا نموت جوعًا، والوالد رحمه الله هو منْ كان يقنّن هذا الأمر..وكنّا لا نلبس جديدًا، الكبير منّا يترك لباسه للأصغر منه وهكذا، أي أن الألبسة الواحدة كان يتداولها الأولاد.أذكر أيضا أن أوّل قميصٍ ارتديته لم يكن جديدا، لأنه كان لباسا عسكريا بلون" كاكي" من مخلّفات الحرب العالمية الثانية، اشتراه لي والدي مكافأة لي على ختْم القرآن الكريم.وبهذه المناسبة أيضا ختْم القرآن جعل أبي وليمةً ذبح فيها كبشيْن، وأقام حفلة دينية تُسمّى عندنا " تقصيد" أي إنشاد القصائد والمدائح النبوية من قِبل فرقة مختصّة.

وكنّا ننتعل(العفّان) وهو حذاءٌ مصنوعٌ من الشعر والصوف نمشي به على الرمال في الشتاء فقط، حتّى لايؤذيها البرد والصقيع، أمّا في بقية فصول السنة فنحن حُفّاة.

منطقة وادي سوف التي وُلدتُ بها ذات هواء طلْقٍ، وهي أكثر من صحراوية، إنها واحاتٌ مفتوحة للرمال والرياح، تربتها قاحلةٌ بعيدة الماء غالبا، قليلة الإنتاج، معظم إنتاجها غرْساتُ نخيلٍ، وشجراتُ دخّانٍ، وهي تُسمّى واحات سوف، أو وادي سُوف.»

بمثل هذا الأسلوب الجميل، والاسترسال الأخّاذ يأخذ الدكتور سعد الله القارئ في القسم الأول من الكتاب إلى محطّات حياته الحافلة بالمعرفة الشمولية، والخبرات الحياتية الثريّة بدْءا من وصْف منطقة وادي سوف وسكّانها، وتاريخها إلى حياته في أمريكا ـ التي اختلفت عن الحيوات الأخرى إنْ في مسقط الرأس، أو في تونس، أو في القاهرة ـ مرورا بالحصول على شهادتي الأهلية والتحصيل من جامع الزيتونة بتونس، ورئاسته للبعثة الطلابية الزيتونية بتونس سنة 1952 ، وكتابته في جريدة البصائر عن الحرية والاستقلال وهو طالبٌ والثورة لم تندلع بعد، ودراسته بالقاهرة وحياته بها، ونشاطاته ..محطات يستعرض فيها قضايا أخرى مهمّة جدّا كتنافس حزب الشعب، وجمعية العلماء لاستقطاب الشباب المتعلّم، وتخطيط ابن باديس لإشراك المرأة في قضية التعليم والتكوين، والإخوان الليبيون كانوا يعتبرون الجزائريين ملائكة..

الجزء الأول بقدْر ما هو سيرة ذاتية، إلاّ أنه ذاكرة حيّة ليس لشاهدٍ على العصر فحسب ، إنما من صُنّاع الفكر والتنوير في هذا العصر، والمؤثر فيه أيضا، ولا أحْسب أن هذا التأثير سيخبو؛ إنما بمرور الأيام سيرسخ وسيكون مرجعية لكلّ باحثٍ ودارسٍ.

أُقــرّ أني أطلتُ في هذا العرض للكتاب، وبالرغم من ذاك تجدني مضطرًّا أن أعرض بعض عناوين مكوّنات الجزء الثاني من الكتاب الذي يحمل عنوان: (آراء ومواقف)

ـ الفرنكفونيون يتحرّكون بإيعازات...إنهم غير قادرين على المنافسة.

ـ لهذه الأسباب رفضتُ تولّي عدّة مناصب.

ـ لو تشبّع الجزائريون من دراسة العهد العثماني لامتلأوا فخْرا واعتزازا .

ـ الأمير عبد القادر حاول إنشاء دولة تقوم على مبادئ الخلفاء الراشدين، وملامح النُّظم الأوروبية.

ـ ما الفائدة أن يكشف الجزائريون الآن عن تصفية الحسابات والتصرّفات الرعناء التي قام بها بعض المناضلين أثناء الثورة.

مواضيع هامة جدّا أخرى يحفل بها هذا القسم الثاني من الكتاب. إنّ هذا العرض مهما استطردنا فيه لن يُغني البتّة عن قراءة الكتاب قراءة متأنية للكشف عن مضمون الكتاب الذي يُعدّ وثيقة معرفية، تاريخية هامّة. أدعو الجميع إلى الحصول عليه واقتنائه..شكرا للمؤلف الشاب مراد وزناجي على هذه الهدية الجميلة، وألْف تحيّة للدكتور سعد الله بلقاسم على هذا الفيض المعرفي ، الذي تفتخر به الجزائر، بل الإنسانية كلّها.

في الفكر والثقافة واللغة والتاريخ للمؤلف مراد وزناجي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى