الخميس ١٢ آذار (مارس) ٢٠١٥
بقلم غزالة الزهراء

نهاية مشوشة

القاعة الفسيحة الأرجاء تغلي بالنسوة والفتيات، يثرثرن من غير توقف، في مآقيهن يتناسل الأمل ويزدهر، لازلن متشبثات بأهداب الحياة إلى آخر رمق، ومن حين لحين تتخلل ثرثرتهن بعض الضحكات المتفائلة، من يراهن يجزم بكل تأكيد أن المرض لم ينقر أبوابهن، أحاديثهن متشعبة، متشابكة، هذه تتحدث بزهو عن فلذات كبدها الذين ترعرعوا أمام عينيها، وتزوجوا، وأنجبوا وصار لهم أحفاد، وأخرى تطلق تنهيداتها بألم قاس قائلة: أولادي الثلاثة لم يفوزوا لحد الساعة بمناصب شغل، ولم يفكروا في الزواج مطلقا.
سألتها المرأة التي تقابلها: ومن يعيلهم؟
ـــ أنا أخدم في بيوت الناس، وأوفر لهم اللقمة النقية.
نطقت أخرى: أنا لا أنجب على الإطلاق، زوجي متفهم لوضعيتي حيث جلبنا طفلا من دار الأيتام، وقمنا برعايته، هو نعم الولد البار.
تنتهج أحاديث النساء والشابات منحى آخر.
تقول إحداهن بأسف شديد: ألا تلاحظن بأن ظاهرة اختطاف الأطفال الصغار استفحلت بكثرة في مجتمعنا هذا؟
ترد أخرى وهي ترتجف من هول ما حدث: ابنتي البالغة من العمر سبع سنوات كادت تضيع مني، لحسن الحظ تفطنت لامرأة تقتفي آثارها، أسرعت الخطى، ثم ركضت لا تلوي على شيء.

أخيرا حان دور بسمة، أشارت لها الممرضة بالدخول، نقرت على الباب، دلفت بإعياء تام، ألفت الطبيب وائل جالسا خلف مكتبه البني الأنيق، يرفل في مئزره الناصع البياض، وتتدلى سماعة من عنقه.
ـــ مم تشتكين؟
ـــ ضيق عسير في صدري يكاد يخنقني.
ـــ هل أنت عاملة أم ماكثة بالبيت؟
ـــ عاملة.
ـــ ما طبيعة العمل الذي تمارسينه؟
ـــ مهنة التعليم.
أجرى لها الفحوصات الطبية مؤكدا أن حالتها هذه من الواجب متابعتها باستمرار.
أمطرته بوابل من الأسئلة: هل صحتي في غاية الخطر؟ وماذا يجب علي فعله؟ وهل أشفى في قريب الآجال؟
علق على ذلك بهدوء تام: إنك قلقة، وقلقك هذا جزء لا يتجزأ من مرضك، ألا تدركين بأن القلق هو علة هذا العصر؟
ـــ أعرف ذلك.
ـــ أنت مصابة بداء الربو،إنه في بداية ظهوره، إذا استخففت بصحتك ولم تتابعي العلاج فسوف يستفحل فيك الداء ويصبح أكثر خطورة على حياتك، اعتني بنفسك جيدا، الإنسان طبيب نفسه، والوقاية خير من قنطار علاج.

تحرك وائل نحو مكتبه بنشاط ملحوظ، وعاد للجلوس مجددا، سألها وقد أمسك القلم بين أصابعه: الاسم والسن من فضلك.
أجابته للتو، دون ذلك على الوصفة كما أنه ذكر لها عدة أدوية يتوجب عليها تناولها في حينها، ثم مدها إياها قائلا: عليك أن تعودي للفحص ثانية لأطمئن على حالتك.

الآن عليها التوجه إلى الصيدلية، راتبها الشهري يكاد ينفذ، الكراء، الديون، و.....، و.....، و......
زارته للمرة الثانية جاعلة نصب عينيها "صحتي هي الأهم"
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مشعة تنبض بألف معنى ومعنى، هتف في بحر من السعادة اللامتناهية: المعلمة بسمة، أليس كذلك؟
ـــ أجل.
تململت في مقعدها كالجريح المصاب إذ أخذ يرمقها بنظرات ولهى ذائبة في يم من الحنان الرومانسي الدفاق.
ـــ هل ترهقك مهنة التعليم؟
ـــ إنها مرهقة بالفعل، ولكنها أشرف مهنة ملائمة للمرأة.
ـــ أختي كذلك مدرسة، عيبها الوحيد تتشكى باستمرار، وتفكر في تقديم استقالتها.
ـــ إلى هذا الحد !
ـــ مصممة على ذلك دون هوادة.
ـــ التعليم هو متنفسي الوحيد، لن أستغني عنه مادمت قادرة على العطاء.
ـــ أنت من اللائي يتفانين في أداء رسالتهن على أكمل وجه، ولذا أنت متحمسة على المضي قدما في هذا الدرب العويص.
هبطت غلالة من الصمت الشفاف بينهما، أنشأ يعبث بالقلم الفضي كأنما يفتش عن كلام آخر ليوغل فيه، ويلقيه على مسمعها.

داخلها ضيق وإحراج شديدان، وتاهت خلف أسوار حيرتها ظبية شاردة، باحثة عن طوق النجاة، مزق ذلك الصمت الذي لفهما على حين غرة: سأفحصك الآن، وسأرى إن طرأ عليك بعض التحسن.
بعد الفحص نطق لتوه: العلاج سيثبت فعاليته إن داومت عليه.
وأضاف بكل جرأة محطما كل الحواجز الشاهقة التي تفصلهما: لقد استحوذت على كامل إعجابي من أول زيارة، أنت معلمة جسورة، ذكية، طموحة، ومثابرة، إنك....
وابتلعته دائرة الصمت ابتلاعا.
بامتنان حقيقي هتفت: هذه مجاملة منك، أشكرك.
ـــ لا، أبدا، ليست مجاملة كما تعتقدين، إنها الحقيقة الناصعة.
همت بالانصراف.
انبرى قائلا وعيناه الذكيتان تومضان ارتياحا: أتمنى تكرار الزيارة عما قريب لمتابعة حالتك.
انسلت خارجة من عيادته وهي مضطربة بعض الشيء، صوته الرجولي الناضج يسكن أذنيها كالحلم الجميل، ويتسرب إلى فؤادها بهدوء مثلما تتسرب خيوط الشمس الدافئة إلى قلب النائم فتوقظه من وهاد أحلامه.

تكررت زياراتها الشهية فوق هضبة الحياة.
حبل متين من الألفة يربطهما بشدة، بسمة ليست راضية عن نفسها على ما هي عليه، أحيانا تحكم على علاقتها به بأنها صائبة مئة بالمئة، وأحيانا أخرى ترى العكس تماما، وما عليها إلا إعادة حساباتها الخاطئة، وانسحابها بصمت مفجع من ميدان حياته.
ـــ حاولي بكل ما في وسعك أن تكوني إلى جانبي لنعب رحيق السعادة معا.
ـــ أو تظن أن طوفان السعادة سيغمرني إن استحوذت على رجل مرتبط وله أربعة أولاد أكبرهم في سن العشرين؟ أو تظن ذلك؟
ـــ لا تعاتبيني على زواجي القديم، كان غلطة عمري كلها، وحاليا أسعى إلى تصحيح هذه الغلطة التي تنغص علي سر الحياة.
ـــ تصححها بماذا؟
ـــ بزواجي منك، أتمانعين؟
ـــ تربط مصيرك بمصيري أنا؟
ـــ وما الغرابة في ذلك؟
ـــ أتود ارتكاب حماقة أخرى؟
ـــ ارتباطي بك تسمينه حماقة؟ ما هذا الهراء الذي تتفوهين به؟
ـــ ارتباطنا لا يجدي نفعا على الإطلاق، مآله الفشل المحقق لا محالة.
ـــ أرجوك كفي من هذا الهذر.

تتابعت الأيام تشاكس بعضها، تتغزل بمفاتن الزمن الجريء، ساردة ألف حكاية رومانسية للهائمين والحيارى، زماننا هذا متخم بشتى الأسرار والمفاجآت، ولكن ليس للزمان أمان.
انغمست في أحراش التخمين الشائكة، اختلط عليها البياض والسواد، اطمئنان نسبي يغمرها أو يكاد، تساءلت وهي تتأرجح كطائرة مروحية بين السماء والأرض: هل تعلقت بهذا الرجل الناضج الذي استوطنت عيناه الذكيتان أحلام الماضي الدفين؟ هل ما أكنه له حبا جارفا يفوق الخيال أم هذا مجرد انبهار ساحق بشخصيته القوية، الساحرة، والمميزة؟

اختلت بنفسها في غرفتها، وأخذت تسترجع اللقطات الشهية التي جمعتها بوائل حيث قال:
ـــ حمامتي الجريئة، الوادعة في وداعة الروح لا تطرقي قلبا آخر غير قلبي.
ـــ لا تنأي عن محيطي الفضي حتى لا تتداعى جسور أسراري، وأصبح طفلا مشاغبا في ذاكرة النسيان.
صورة وائل تتمايل نشوى في خيالها الجامح، وتلثم سنوات عمرها المخضوضرة البكر، وتخدر أوردتها إلى حد الضلوع، فجأة أسدل الحزن أرديته القاتمة فوق شغاف قلبها، حاصرتها الشكوك والهواجس من كل جانب، تساؤلات مضطرمة كالجحيم تلهب جمجمتها، وائل ليس لها، وهي ليست له، إنه لغيرها، لامرأة أخرى تعبر معه مشوار الحياة، لا يحق لها الاستيلاء عليه، من المؤسف حقا أن تتحول إلى عنصر هدام، شعرت بفؤادها المسالم يبكي في تؤدة، يجهش كالحيارى اللواتي تهن في مفترق الطرقات، ستحسم أمرها هذه المرة، وتقرر انسحابها النهائي.

مفاجأة غير متوقعة بانتظارها، إنه يترقب خروجها من المدرسة في سيارته، ترجل وقال في حبور عارم كالشلال: سنقوم بجولة ممتعة معا، ستكون أروع جولة بدون شك.
وأشار إليها بإشارة من يده لتمتطي سيارته، أبدت رفضها الكامل، اعتذرت بأدب كبير، لكنه ترجاها وألح على موقفه، أخيرا أذعنت لطلبه وركبت.

انطلقت السيارة الأنيقة تمضغ المسافات مضغا.
ـــ ألم تتوقعي مجيئي إلى مقر عملك؟
ـــ ..........
قلق خبيث الطعم بدأ يسمم أحشاءها، يعتصر معدتها، مرارته اللاذعة غير المحتملة تطفح في حلقها.
فجأة أوقف سيارته في مكان آمن، تلفظ وهو يحوطها بدفء نظراته، ويطوقها بابتسامته: ما الذي يشغل تفكيرك إلى هذا الحد؟
نطقت ورذاذ الأسى يتناثر بداخلها: سنفترق عما قريب.
تعتمت أساريره، اتسعت حدقتا عينيه اضطرابا ودهشة، صاح في شبه ثورة: ما الذي قلب كيانك رأسا على عقب؟
ـــ من واجبنا ألا نتجاهل الحقيقة العارية من كل نفاق وزيف، وألا نعلن هروبنا السلبي إلى الأمام.
وأضافت: هذا آخر لقاء يجمعنا، تذكرني خيرا فقط.
ـــ أنت مصممة على تعذيب نفسي ونفسك.
ـــ ليست لي الشجاعة الكافية في مقابلتك وأنا .........
ـــ أنت ماذا؟
ـــ طرق بابي خطيب.
ـــ ماذا كان رد فعلك؟
ـــ أعلنت موافقتي.
ـــ أنت تعدمين نفسك، هذا هو الجنون بعينه.
ـــ خير من أن أعدم أسرة بكاملها.
تأفف بعنف كمن يبعد كابوسا مرعبا ربض فوق صدره لسنوات طوال، أطلق لسيارته العنان حتى كادت عجلاتها تطير في الهواء.
بذعر كبير صرخت: قلل من السرعة، سنهلك لا محالة.
شرع وائل يخفض من سرعته الجنونية شيئا فشيئا، عاد الاطمئنان يغمرها من جديد، وتنفست الصعداء.
في أسف شديد سال لسانه يقول: يبدو أن الحظ الباسم يأبى الوقوف بجانبي، ولن أتذوق طعم السعادة قط.
لم تعلق على كلامه بشيء، صمت مشؤوم تملكها، وبعثرها كحبيبات رمل على شاطئ.

نداء مخملي جميل انبجس في عالمها الفسيح، داهمها من باب الفضول والتحدي:ابحثي عن أطياف سعادتك بين أحضان رجل واع يقدر أنوثتك، ويرفع من شأنك وقيمتك، وائل طبيب ماهر، يملك سيارة من آخر طراز، وسكنا فخما، ورصيدا معتبرا في البنك، لا تعلني رفضك له جزافا، تريثي قليلا، وفكري على مهل، واستعملي كل ذكائك للفوز به، كوني له الزوجة المخلصة، المتفانية في خدمته وإسعاده، أنت نصفه الآخر، فالحياة لن تكون لها نكهتها الخاصة وعبيرها الفواح من غيركما.

أحست بسمة بالضعف أمام وائل، وأنها ستنصاع رغم إرادتها لهذا النداء العاصف، وتنساق وراء عواطفها المحمومة ليقهرا معا أيام الرتابة، والفوضى، والرداءة، والملل.
نطقت كأنها تحت مؤثر سحري عجيب: أنا .......موافقة.
لم يصدق ما سمعه، أوقف سيارته مجددا، طافت بوجهه القمحي اللون علامات الرضا والارتياح، أحاطها بدفء عينيه الذكيتين كما تحاط الأسرار الغالية بسياج من الكتمان.
ـــ عليك تقرير مصيرك بنفسك، أعلني قرارك الحكيم أمام الملأ قبل فوات الأوان، الفرصة الذهبية لن تسنح للمرء إلا مرة واحدة في العمر، لقد خلقنا لبعض، عليك أن تتفهمي ذلك جيدا.
ارتجفت بغتة كأنما صعقة كهربائية رجت أوصالها، تنهدت ثم قالت: تراجعت عن قراري، لن أخون خطيبي، الخيانة ليست من شيمي.
ـــ ما الذي غيرك فجأة؟ أمرك غريب حقا، أي نوع من النساء أنت؟ أخبريني.

شغل المحرك، أدار المقود، صوت احتكاك العجلات بالإسفلت يهدر في جنون أعمى، يتحدى الطقوس وثرثرة الزمن الرديء.
وهكذا أسدل الستار على حكايتهما التي حبكتها يد القدر، وأودعها الزمن المشاغب في أرشيف ملفاته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى