الخميس ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٦

لغة القرآن ومحاولة تحديدها وحصرها

ثمة نغمة تتزايد بين بعض اللغويين في جعل المفردة القرآنية كأنها هي المقصودة حصرًا، وأنها هي قانون لغوي، فإذا وردت في القرآن استخدامات (أتى) و (جاء) عمد بعضهم إلى تحميل النص باجتهادات في معنى كل منهما، قد يصح بعضها، وقد لا يصح. وهكذا لاحظت من وقف على الفرق بين (عام) و(سنة) و(حول)، فحاول أن يثبت أن (السنة) ترد في القرآن في ذِكر سلبي، بينما (العام) في الخير والنعمة، وأن (الحول) ليس اثني عشر شهرًا...إلخ وبالتالي فإن هذا التفريق - في رأيهم- ينطبق على اللغة العربية.

لا شك أن الاجتهادات مثيرة للاهتمام، وقد تكون صحيحة أو طريفة، ولكنها ليست كافية لأن تكون سببًا للإعجاز، فهناك استخدامات منها ما سبقت نزول القرآن، وهي من الشعر الجاهلي، فلا بد من النظر إليها، ونحن نعلم أن ابن عباس -رضي الله عنه- كان يشرح ألفاظ القرآن بما يحفظه من الشعر الجاهلي.

آخر ما قرأت في هذا الباب أن هناك من أنكر على الشعراء استخدام لفظ (عيون) جمعًا لعين- أي الباصرة، بدعوى أن القرآن الكريم لم يستخدمها، بل استخدم (أعين) في آيات مختلفة.
ثم استشهدوا بالقرآن بأن (عيون) هي جمع لعين الماء.

أقول إن المعاجم جمعت (عين) على أعين وعيون، وهناك جموع أخرى.

إذا عدت إلى الشعر الجاهلي وجدت أبياتًا ترد فيها لفظة (عيون) وأبياتًا أخرى فيها لفظ (أعين) وفي كلا المعنيين، فإليكم نماذج:

يقول امرؤ القيس:

كأن عيون الوحش حول خبائنا
وأرجلنا الجزعُ الذي لم يُثقبِ

يقول أمية بن أبي الصلت:

تريك إذا وقفت على خلاء
وقد أمِنتْ عيون الناظرينا

يقول لبيد:

أبا مالك إن كنت بالسير معجبًا
فدونك فانظر في عيون نسائكا

المُهلهِل بن ربيعة:

ولأقتلنَّ جَحاجحًا من بكركم
ولأبكينَّ بها جفونَ عيونِ
حتى تظل الحاملات مخافة
من وقعنا يقذفن كل جنين

الأعشى:

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة
إلى ضوء نار في اليفاع تحرق

وثمة نماذج كثيرة في شعر النابغة، ثم في شعر الإسلاميين الأوائل وصولاً إلى ابن الرومي وأبي تمام والبحتري والمتنبي والمعري.

إذن لماذا أتكلف التفسير وأقول بعدم صحة (عيون) جمعًا للعين الباصرة؟

لماذا أقول أنها ليست من الفصيحة، والقرآن نزل بلغة العرب؟

من جهة أخرى فإن جمع (عين) الماء هو كذلك (عيون) و(أعين)، ومن الشعراء القدامى من استخدم (الأعين) للماء، ويحضرني في ذلك قول ابن المعتز:

ويمطرنا السقف من بيتنا
ومن تحتنا أعين تنبع

فهل نقول للشاعر إن (أعين) خاصة بالعيون التي نرى بها؟

الكلمتان في معنييهما تجمعان على (عيون) و (أعين)، ولا بأس في ذلك.
يقول الشافعي مستخدما الجمعين في معنى واحد:

سهرت أعين ونامت عيون
في أمور تكون أو لا تكون

نلاحظ كذلك أن الرقباء سُمّوا مجازًا عيونًا، وذلك لأن الواحد منهم عين على سواه (مجاز مرسل علاقته الجزئية) لأنه يستخدم عينه في مهمته.

أخلص إلى القول إن الاجتهاد في تعليل ظاهرة قرآنية هو جميل، ولكنه غير ملزم حتمًا في اللغة وتطورها أو حصرها، وبالتالي فهو غير ملزم في تحديد معناها مطلقًا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى