الثلاثاء ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦
بقلم حسين سرمك حسن

حقـول (أور أوتو) المزهـرة

تأليف: د. علي حداد

إصدار: دار ضفاف (الشارقة/بغداد)

قليلة هي الكتب التي تعالج أدب الأطفال في الثقافة العراقية على الرغم من خطورة هذا النوع من الأدب، كما هم قليلون كتّاب أدب الأطفال في بلادنا على الرغم من خطورة هذه الشريحة التي ينبني عليها مستقبل البلدان. ويمكن أن نتصور حجم الخسارة في ثقافتنا من خلال الإشارة إلى أن العراق شهد إصدار أول مجلة لأدب الأطفال في الوطن العربي.
ويدرك د. علي حداد مؤلف الكتاب القيم الذي أصدرته دار ضفاف مؤخرا وعنوانه : "حقـول (أور أوتو) المزهـرة؛ عن شعر الأطفال ومنجزه في العراق" هذه الحقيقة بقوة حين يقول في مقدمة كتابه الوافية:

(لا يكاد خطاب الطفولة الأدبي ليتوقف عند حد ، لما فيه من خصب وتجدد ، يتماهى مع ما في الطفولة من غنى وتنوع وتطلع دائب نحو المستقبل الذي تحتكر وحدها الوجهة إليه،كون المستقبل هو مساحة الوجود الزماني والمكاني الذي سيوطد الطفل حضوره وفعله الإنساني فيه ، ليصنع ذلك المستقبل على وفق ما يناسبه ويخصه ، ويؤشر حصته الإنسانية المعلنة عنه .
أما نحن ـ الكبارـ فنمتلك الحاضر وحده لننجز فيه ما يخصنا ويشير إلينا ، ولكنه ـ أيضاً ـ ما سيلقي بكثير من ظلاله على الطفولة التي تعايشنا مما يناسبها ـ أولا يناسبها ـ من تفوهات الحاضر ومحدداته ، ليصبح حضور الطفل بيننا مسؤولية إنسانية تتطلب مدركاً عالياً من الوعي والتيقن السلوكي والأخلاقي الذي يهيئه لزمانه القادم .

إن ماينبغي تقديمه للطفل من الفنون الجميلة المختلفة ـ سواء الأدبية منها أو الموسيقية او التشكيلية ـ هو في حقيقته جهد نبيل وخلاق لتشكيل سمات حضوره الإنساني المتنامي ، وترسيخ قيم الثقة والانسجام مع كل مظاهر الوجود البشري والطبيعي من حوله ، وبما يوطد الشعور بالتوازن ـ في الأحاسيس والتمثل القيمي ـ المستجيب لكل ما في أفق الإنسانية ومظاهر الكون من قيم خير وجمال وانسجام صنعته يد الخالق ـ جلت قدرته ـ في أروع صورة وأبهى مظهر). (ص 5و6).

وهو يستعير روح مقالة لكاتبة غربية تساءلت فيها : لماذا نقص القصص على الأطفال؟ ليطرح تساؤلا لا يقل أهمية ومرتبطا بموضوع كتابه المركزي وهو: لماذا نكتب الشعر للأطفال؟ ويجيب عليه:

(لغرض الإجابة ـ وبشيء من التحويرـ يمكننا أن نستعير ما قالته أيضاً ونجعله صالحاً له كذلك ، فنقول إننا نكتب الشعر لتحقيق الغايات الآتية :

ـ مساعدة الأطفال على السماع الإيقاعي وتذوقه.
ـ زيادة المحصول اللغوي لمعجم الطفل .
ـ توسيع المساحة الحركية للطفل وإضفاء الانسجام والحيوية عليها .
ـ تنظيم ملكة النطق عند الطفل وتعزيزها وتطويرها.
ـ خلق ميل فطري عند الطفل للكلمات المموسقة .
ـ توفير حالة من التواصل بين الأطفال بعضهم البعض ، وكذلك مع محيطهم الاجتماعي من خلال الأغاني والأناشيد التي يجتمعون على أدائها) . (ص 8و9).

اشتمل محتوى الكتاب (294 صفحة) على مقدمة وقسمين وخاتمة ومكتبة قراءات. خصص الكاتب القسم الأول من كتابه لطرح مدخل نظري عن الطفولة وأدب الطفل من خلال ثلاثة فصول:
الفصل الأول: الطفولة وشخصية الطفل
الفصل الثاني - أدب الطفل - المفهوم والعناصر الأساس
الفصل الثالث - أدب الطفل ... عناصر مضافة

أما القسم الثاني من الكتاب فتناول فيه الكاتب بالتحليل: شعر الأطفال في العراق ...آفاق وتجارب، وذلك من خلال أربعة فصول هي :

الفصل الأول - ترانيم من (بيت الألواح) عن المدرسة العراقية في شعر الأطفال. وفي هذا الفصل قسم الكاتب أجيال شعراء الأطفال إلى أربعة أقسام هي:

*الجيل الأول :

وهو جيل الريادة الذي بدأ تطلعاته في الكتابة للأطفال منذ عشرينات القرن الماضي . وكان ذلك قد تحقق على يد الشاعر العراقي الكبير(معروف الرصافي) أكثر من سواه، ليكون ممثله والأبرز فيه ، فقد شكلت تجربته أهم وأغزر ما أنتجه العراق من شعر الأطفال في مرحلته تلك.

*الجيل الثاني :

ومثّله جيل ساير منجز من سبقه ، وأضاف إليه ، وواصله بعده حتى آواخر الستينات من القرن نفسه ، نجده في كثير من النصوص الشعرية التي كتبها (مصطفى جواد) في المرحلة المبكرة واللاحقة , إذ هو " ممن أسسوا لشعر الأطفال في العراق منذ أن كان طالباً في دار المعلمين العالية ببغداد " .وكذلك الجهد الشعري المتميز الذي أنجزه كل من : (باقر سماكه) و(أحمد حقي الحلي)، حتى ليمكن القول أن منجز الأخيرين من شعر الأطفال مما يمكن عده " المثال الأبرز والخط الصحيح الذي يمثل واقع أدب الأطفال الشعري في مدة بين الحربين ومابعدها.
ويشير الكاتب إلى ملاحظة مهمة هي عدم اهتمام رواد الشعر الحديث (السياب ونازك وغيرهما) بالكتابة في مجال أدب الأطفال.

* الجيل الثالث :

وتبينه الممارسات الجادة والخصيبة كذلك لشعراء عراقيين كان بعضهم من البارزين في المشهد الشعري العراقي كله، كـ (عبد الرزاق عبد الواحد) و(علي جعفر العلاق)،أو من جعلوا توجهاتهم إلى شعر الأطفال غاية أساس لانشغالاتهم الأدبية، كـ (فاروق سلوم).

لقد عايش شعر الأطفال ـ بل أدبهم بعامة ـ ومنذ سبعينات القرن الماضي ـ متأسساً على جهود أولئك الشعراء وإدارتهم للمؤسسات المتخصصة بثقافة الأطفال ـ المرحلة الذهبية في العراق، من حيث اهتمام الدولة به. فقد أنشئت (دار ثقافة الأطفال) وتبنت نشر كل ما يتعلق بالثقافة الموجهة إليهم، واستقطبت الطاقات العراقية والعربية، وبادرت بطبع المنجز العراقي والعربي وترجمة العالمي منه كذلك، وأصدرت مجلة (مجلتي) وصحيفة (المزمار)، كما قدمت سلاسل من الإصدارات الدورية لشعر الأطفال وقصصهم ومسرحهم، وما كانت تجده مهماً من الدراسات المهتمة بهذا الشأن.لقد أشاعت دار ثقافة الأطفال باهتمامها يشعر الأطفال جواً حيوياً جعل المشاركة واسعة، حتى لاتكاد تجد شاعرا عراقياً من شعراء هذه المرحلة لم يكتب أو يفكر بأن يكتب للأطفال إلا في استثناءات قليلة. الأمر الذي " ساعد على التجريب، ومن ثم بروز بعض الأسماء الجديدة ".

* الجيل الرابع :

وقد برز معظم شعرائه منذ الثمانينات وحتى وقتنا الراهن،حيث تواترت فيه أسماء الشعراء الذين يكتبون للأطفال، سواء من كان يكتبه إلى جانب تميزه في الكتابة للكبار، كـ (جواد الحطاب) و(عبد الرزاق الربيعي)، أو من كرس جهده الإبداعي لكتابة أدب الأطفال من الشعر والسرد وعكف عليه وحده، كـ : (فاضل الكعبي) و(جعفر علي جاسم ) و(خيون دواي الفهد) و(محمد جبار حسن) و(جليل خزعل) و(محمد جواد كاظم) وغيرهم كثير، حتى كان ذلك النشاط المتدافع مدعاة لأن تتأسس رابطة لأدب الأطفال في العام 1993م). (من ص 106 إلى ص 109).
الفصل الثاني - راهن شعر الأطفال في العراق (مسعى تطبيقي)
الفصل الثالث - الشعر في الكتاب المدرسي؛ معاينة في كتب القراءة للمرحلة الابتدائية في العراق
الفصل الرابع - شعر الأطفـال في العـراق؛ مواقف وتجارب

معروف الرصافي: الريادة التربوية وتمثلها في الكتابة الشعرية للأطفال
حسين قدوري: الفنان كبير المقام الذي أخذته الطفولة إلى عوالمها
الانهماك بالطفولة وعياً وتجربة: منجز (فاضل عباس الكعبي) مثالاً

حين تنسل القصيدة إلى الطفولة بهدوء عذب: نصوص (عبد الرزاق الربيعي ) للأطفال.
ويشير الكاتب في مقدمته إلى أن كتابه هذا هو الثالث في مجال البحث في أدب الطفل (ص 10) حيث سبق أن صدر له في مجال دراسة أدب الأطفال كتابان، هما (اليد والبرعم ـ دراسات في أدب الطفل، صنعاء 2000م ) و (ديوان الطقل في الأدب الشعبي اليمني، صنعاء2004م) . كما صدرت له في مجال الكتابة الإبداعية للأطفال مجموعة قصصية بعنوان (لماذا رحلت الينابيع إلى الجبال البعيدة وقصص أخرى) عن دار ثقافة الأطفال في العراق، بغداد 2013م). (ص 12 و13).
في خاتمة الكتاب يحيلنا المؤلف إلى مسألتين مهمتين؛ الأولى بعد الإشادة بالجهد الرائع والمميز للمبدعين العراقيين في مجال أدب الطفل الذين كتبوا نصوصهم بخلاقية عالية وبإحساس حقيقي بالمسؤولية وبأبوة عذبة حانية بلا جزاء ولا شكور كالعادة، ترى حقا أن هذا الجهد المبدع الهائل سوف يُجهض ولا يحقق أهدافه إن لم يتم تصدّي مؤسسات الدولة لتوصيله للفئة المستهدفة وهم الأطفال أنفسهم حيث يقول الكاتب:

(لعلها من بداهة القول أن نذكر أن (أدب الطفل) بفنونه المختلفة لايكتب ليقرأه الكبار أمثالنا ويتدارسونه، بل الأساس فيه أن يذهب إلى المجتمع الذي كتب من أجله: (الأطفال) يتلقونه ، ويتعايشون مع أفكاره وجماليات تعبيره، وتجري إحالته ـ عبر فاعلية (التغذية المرتدة) ـ إلى خبرة ثقافية وسلوكية وذوقية.وهذا يعني وجوب إيصاله إلى الأطفال وجعله ضمن المستلزمات القرائية الأساس التي تتكفل جهات رعاية الطفولة المختلفة ـ بدءاً من العائلة وانتهاء بمؤسسات الدولة الثقافية والتربوية ـ بوضعها بين أيديهم، لتصير (القراءة) واحدة من الهوايات التي ينبغي إشباع حاجتهم إليها، لاسيما أن القراءة تمثل واحدة من حقوق الطفل التي كفلتها لهالدساتير والاتفاقات المعلنة من قبل منظمات حقوق الإنسان، ومنظمة رعاية الطفولة على نحو خاص). (ص 282).
أما المسألة الثانية فقد نفوق الأولى أهمية وحساسية حيث يقول الكاتب:

(تبقى تؤرقنا مسألة أخرى نجدها جديرة بالإشارة إليها، وتتبدى في أن من يرصد مناهج الدراسة ـ في مرحلتها الجامعية ـ عندنا سيواجهه الحيف الكبير الذي يناله أدب الطفل بفنونه المختلفة، إذ لا يكاد يأبه له أو تؤشر حصته في مناهج الدراسات الأدبية لأقسام اللغة العربية، على عكس ما هو عليه الحال في الجامعات العربية الذي يدرس فيها هذا الأدب مادة منهجية مهمة. وسيكون الأمر مثيراً للاستغراب أكثر أن لا نجد مثل هذا المقرر الدراسي في أقسام كليات التربية عندنا تلك التي يفترض تخصصها أنها تخرج المدرسين الذين يقدمون لطلابهم خبرة علمية وثقافية متعددة المجالات ،ومنها المتعلق باللغة العربية وآدابها. ولنا أن نتساءل هنا: كيف سيتسنى للمدرس ـ الذي لم ينل تلك المعرفة الثقافية والجمالية لطلابه، ولم يطلع عليها فيما درسه بكليته وقسمه ـ أن يضعها في متناول احتياجات طلابه لها ؟!

إننا ندعو إلى إدراك أهمية (أدب الطفل) وتدارك غيابه من مناهج الدراسة الجامعية عندنا ، والسعي الحثيث لاعتماده درساً منهجياً في أقسام اللغة العربية بكليات الآداب والتربية في جامعاتنا، كما تفعل ذلك جامعات الدنيا كلها. ولن نعدم أن نصنع له مفردات منهجية متميزة مادمنا نتوافر على هذا الرصيد المعطاء والخصيب من المنجز الأدبي الذي صنعته أجيال فذة من المبدعين العراقيين). (ص 283).

تحية للدكتور علي حدّاد..

ملاحظة بسيطة

تبقى ملاحظة بسيطة. حين قرأتُ عنوان الفصل الأول من القسم الثاني وهو: (ترانيم من (بيت الألواح)؛ عن المدرسة العراقية في شعر الأطفال)، اعتقدت أن الكاتب سوف يتعرض لملامح مدرسة عراقية قديمة في أدب الطفل تمتد جذورها في تربة الحضارة العراقية القديمة (السومرية تحديدا). إذ من غير المعقول أن العراقيين القدماء النعروفين بعبقريتهم الريادية العظيمة قد أهملوا أطفالهم في الترقيص والتنويم على سبيل المثال. ولا يمكن أن تخلوا مناهج المدراس السومرية وهي البلاد التي شهدت ميلاد أول مدرسة في تاريخ البشرية حسب نوح كريمر من قصائد وحكايات للأطفال.

الكاتب نفسه التفت إلى هذا الموضوع من خلال العنوان المميز الذي اختاره لكتابه والذي يفسره بقوله:

(بقي أن نلتفت أخيراً إلى ما تخيرناه للكتاب من عنوان رئيس ، استعدنا فيه التمثل بشخصية عراقية ذات انشغال تربوي بيّن ورد اسمها في صحائف التراث الحضاري العراقي القديم . فـ (أور أوتو) هو أحد الكهنة في مدينة أور التاريخية، اشتهر بيته من بين بيوت أخرى استقلت عن المعبد ـ ولكنها حافظت على قيمتها الدينية المقدسة ـ لتصبح أماكن تعليمية خاصة، تحفظ فيها مختلف النصوص الأدبية والدينية التي يربى عليها الأطفال وتبنى شخصياتهم على وفق كثير من قيمها). (ص 11)

وللدكتور علي حدّاد حسنة لأنه أثار في ذهني تقصيرنا الفادح كباحثين ونقاد في استكشاف كنوز بلادنا العظيمة. أتذكر أنني تساءلت في كتابي "التحليل النفسي لملحمة جلجامش" عن الإنسان العراقي الأول الذي خلقته الآلهة السومرية من طين ودم وليس من طين وماء بعد الطوفان. كان اسمه "للول".. فسّر البعض هذه المفردة بالإحالة إلى مفردة "دل" وتعني : القلب في بعض اللغات، لكني تساءلتُ آنذاك: هل لذلك الإسم السومري علاقة بالطريقة التي كانت تنيمنا بها أمهاتنا ونحن صغار "دِ للول .. يا الولد يا بني .. دِ للول" ؟!

إنّ حضارة عظيمة مثل الحضارة السومرية حققت انجازات هائلة متوازنة في كل جوانب الحياة الاجتماعية ، لا يمكن أن تهمل هذا القطاع الحيوي في حياتها وهو قطاع: الطفولة.
هل نحن مقصرون في استكشاف هذا الجانب؟ أعتقد ذلك.

ملاحظة:

هذا العرض هو التسلسل (85) ضمن سلسلة عروض الكتب من الناقد حسين سرمك حسن لعام 2016.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى