الأحد ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٧
بقلم رشا السرميطي

هل نصدق الرواية أم كتب التاريخ؟

رواية تستحضر الماضي بما فيه من تاريخ وخزعبلات، لتحكي لنا عن الفترة التاريخية الممتدة بين عام 1948 حتى عام 1967 في مدينة القدس مستخدما لغة فلسطينية أصيلة، لا يشوبها تزيين ولا محسنات ترويجية مما تشهده حالة الرواية الفلسطينية مؤخرا، عزام أبو السعود يوثق تاريخ القدس بحبر أهلها ومن شهدوا تلك الفترة بوقائع حقيقية سمعنا معظمها من الأجداد والآباء والأمهات. من جديد أقرأ عن وجع الغربة والابعاد القسري لمن عاشت القدس فيهم لتردّهم إليها مهما طال المنع والغياب.

يرجع بطل القصة "صبري" ليسترجع لنا الأحداث بأفراحها وأتراحها، متمشيا في القدس متفقدا حجارتها والأرواح التي ضلت عن أجسادها، فبقيت هناك، ثم يجوب الكاتب طرقاتها وأزقتها وعقباتها وحاراتها، عبر مدينة ورقية صنع تفاصيلها أبو السعود لقرّائه ببراعة الدارس، المفكر، والروائي المتمرس، فنجح باستقطابي كقارئة لأتمّ روايته، ونجح بالحصول على قارئة ستبحث عن أعماله القديمة والحديثة؛ لتقرأ عن تاريخ مدينتها بلغة صادقة.

يبحث القارئ في رواية " سبيرتزما" عما تبقى في القدس عبر تنقلات وشواهد يسردها لنا الكاتب المقدسي العارف المتمرس بتفاصيل ذلك المكان، وأدق جزئيات موجودة به قبل الاحتلال والتغيرات التي طرأت على هوية المكان حتى يومنا هذا، وما تبدل من معالمه ليغدو غريبا لمن لم يسكنه في تلك الفترة عما كان سابقا. تلتحم شخصية صبري العائد من غربته مثقلا بحنينه للوطن، بأخته جيهان التي وقعت أسيرة لأوهام "سبيرتيزما "، فتسوقها تلك الطقوس لتحضير سلة القش وتفسير خرابيش القلم الموصول فيها لمعرفة المجهول واستكشاف مخبوءاته، عبر محاولات تحضير الأرواح وما تؤوله هذه الأفعال، التي سادت في حياتنا ومجتمعنا بتلك الفترة، وشغلت الكثيرين من أبناء المدينة. تتصاعد الأحداث ثم تنمو الشخصيات بينها لتأخذ القارئ لوقائع كثيرة، منها يوسف -دلوع - أمّه " جيهان" الذي وصل القدس في عام 1967قادما من القاهرة، يتداخل بالقارئ لحياته وتفاصيلها أيضا في طلب العلم، ومع صديقته جين واندلاع حرب حزيران، وتطوعه مع زميلة نبيل للجيش الأردني، حبال قطعت أواصر هذه العائلة؛ ليكون جزء منها في أريحا والقدس وآخر في الحرب، أمّا صبري فقد كان في بريطانيا. بعد ذلك يصطحب الكاتب قارئه لاحتلال سيناء وضياع فلسطين بالكامل حتى الجولان، ثم توجه يوسف ونبيل إلى دمشق لينتهي الأمر برفض يوسف الانضمام في صفوف فتح، حيث أكمل دراسته، وأخيرا حالة التيه والحيرة التي مرّ بها هؤلاء الشباب نحو الاستقرار والدراسة أم الذهاب للنساء وقضاء العمر باللهو.

لقد كانت الهوية الانسانية والمكانية لون النص- سبيرتيزما- ذاكرة تحتفظ بالتفاصيل وفاء للمدينة، بل حكاية مجتمع فلسطيني مقدسي يعلو صوته؛ ليخترق الورق نحو أرواحنا بهلوسات اجتماعية سادت قديما، وربما حتى الآن يعتقد البعض فيها، وحقائق تاريخية لايمكن أن نغفل عنها أو ننكرها مهما حاول الآخر عكس الحقيقة، وتزييف أغصانها ما دامت الجذور عربية فلسطينية سليمة المنبت.

هدف كتابة الرواية بيّن لقارئها، وهو توثيق التاريخ الفلسطيني برواية صحيحة منفصلة عن الحزب والعدو معا، حيث رافق الروائي عزام أبو السعود قارئ " سبيرتيزما " عبر تسعة عشر عاما منذ النكبة وحتى النكسة، قائلا له بصريح العبارة: تمهّل.. هذه القدس!

هل اكتملت أدوات وعناصر الرواية الفنية في هذه الرواية؟

الشخصيات بدت واضحة المعالم لها هويات خاصة ومحددة عرفها الكاتب، واستطاع توظيفها داخل إطار الرواية بمهارة فنان الظلال، حيث استطاع القاء الضوء من زاوية وتعتيم زاوية أخرى ليستنهض قوى القارئ الفكرية، النفسية، الاجتماعية، والعاطفية، لرؤية ما رأى ويحجب عنه ما أراد اخفاءه، لقد تمكن الكاتب من شخصياته باحكام واستطاع تحريكها بيسر وبراعة تأخذ القارئ لمتابعتها، ولديه رغبة في اكتشاف نهايات موضوعاتها الرئيسية والفرعية.

الزَّمان والمكان؛ كانت القدس حاضرة في فترة النكبة والنكسة ضمن عائلة شخصيات الرواية، ولا يخفى على القارئ أن الروائي عزام أبو السعود هو ابن المدينة، ومتخصص في الكتابة عن قضية القدس وتاريخها والدفاع عن عروبتها، ولديه تحصيل أكاديمي رفيع، مما جعله جديرا في الكتابة عن مدينته وبسبب اطلاعه الغزير برع بتوثيق تجربته وتجربة من يعرفهم في مدينة القدس؛ ليكون هذا العمل الأدبي العريق اليوم أمامنا كقراء عربون وفاء لمدينة القدس.

الحبكة لم تظهر لدي حبكة قوية في الرواية، رغم أنني أحببتها كقارئة، فبدت لي سردا سهلا ومتسلسلا بلغة مجتمعية بسيطة وأنيقة، أخذتني لتفاصيل المكان وأحاديث الأشخاص من ذاك الزمان، وكأنّي بعزام يحمل هذا الجيل على بساط المعرفة؛ لاكتشاف أصالة مدينة انتكبت وانتكست، وها هي اليوم تتصدى لكل سبل التهويد وطمس معالم هويتها؛ لتذود عنها الأقلام مستبسلة بالتاريخ والفن؛ كي تقدم القضية بأسلوب حضاري ومقبول عالميا.

اللغة كانت سهلة وبسيطة، لغة اجتماعية وروائية بلا تكلف أو تعقيد، ولا يوجد بها رمزية ذات طلاسم، لقد كانت بمثابة سرد تاريخي بقالب روائي فني، وقد أعجبت بتقديمه لهذه القصة التاريخية عن تلك الفترة الزمنية (1948-1967) بهذا الأسلوب الذي يجعلني أقترح وأوصي بطرح هذه الرواية ضمن المنهاج المدرسي والجامعي أيضا، وإن لم تكن مقررا للدراسة فلتكن منهاجا خفيا تضاف لاثراء المقرر الذي يتعلمه أبناؤنا عن القدس وما مرت به من أحداث ومواقف تاريخية كانت مفصلية بما نراه اليوم، ونعيش به من ظروف مختلطة قد لايفهمها الجيل الصغير الذي ولد بعد انتكاستنا في أوسلو تحديدا.

عنصر التشويق كان متربعا على غلاف الرواية، منذ البدء باسمها الغريب واللافت على الغلاف الغامض حتى آخر صفحة قرأتها، كانت الرواية ممتعة، مشوقة، جذبتني لتقليب صفحاتها، كنت شغوفة بمعرفة ما أراده الروائي عزام أبو السعود، وأكرر لقد أعجبت بالرواية وسأقرأ ما فاتني من أعمال الكاتب وما سوف يكتبه مستقبلا، خصوصا أن الكاتب يتطرق للمجتمع الفلسطيني ويذكر عاداته وتقاليده إلى جانب وصفه المستفيض للأمكنة، مما يجعل فصول الرواية تصويرية تحمل القارئ وتهبط به لترفعه من جديد في تنقله بين فصولها جميعا.

نحن في سبيرتزما أمام روائي كبير وصاحب مخزون فكري ومعرفي عظيم، وعمل روائي متقن، لقد زاد ثراء مكتباتنا الفلسطينية بهذه الرواية .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى