الاثنين ١٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٧
بقلم حسين سرمك حسن

قارب الموت والظمأ العظيم(3)

تحليل طبي نفسي ونقد أدبي لقصص مجموعة "أوان الرحيل" للدكتور علي القاسمي

"معجزة طعام.. وانهيار حضارة"

تحليل قصّة "جزيرة الرشاقة"

(ها هي إذن معجزة حضارتكم.. جعلتم الحُبَّ قضية اعتيادية)

ستندال في"الأحمر والأسود"

في قصّة "جزيرة الرشاقة" يضعنا القاسمي أمام مسائل إبداعية شائكة كثيرة لعلّ في مقدّمتها ما يتعلّق بالدور الاجتماعي للأدب من جانب، وما يتطلبه من الأديب من التزام تجاه قضايا مجتمعه بشكل خاص وهموم الإنسان في كل مكان بشكل عام من جانب ثانٍ مكمّل. فبعض اتجاهات المدارس النقديّة الحداثية وما بعدها، تسعى وبحماسة، لفصل النصّ و "منشئه" عن أيّة عوامل خارجية مهما كانت خصوصاً ما يتعلّق منها بالأحوال الاجتماعية والتاريخية التي تحيط بهذا "المُنشيء". ولاحظ أنّ وصف "المنشىء" هو وصف حداثي جديد وضع ليحلّ بديلاً عن مصطلح "المؤلّف" الذي تعارفنا عليه، والذي أعلنت بعض مدارس الحداثة النقديّة موته. ومن وجهة نظري أرى أنّ الموقفين – إعلان موت المؤلّف وفصل النصّ عن حاضنته الإجتماعية والتاريخية – هما موقفان متساوقان مع مدّ العولمة الكاسح الذي ستعيقه – ولو نسبيّاً – ايّ محاولة للتمسّك بهويّة النصوص أو الأشخاص في محاولة خلق عالم بلا حدود على الإطلاق. ما يخدم هذه الحركة العاتية هو "تغييب" المصادر والمؤلّفين، وتوحيد الملامح وفق الأنموذج الغربي، وضياع الأصول مثلما تضيع "أصول" و "مصادر" صنّاع "النص" العالمي السياسي والاجتماعي والتاريخي من خلال الشركات المتعددة الجنسيات العابرة للحدود والقارات. ويمكن النظر حتى لأطروحة "التناص – Intertextuality" – عندما لا تقف عند حدّ أو ضابط - ضمن هذا الإطار الفكري الممهّد والمتساوق مع طوفان يبغي اكتساح كل المحدّدات الشخصية والقومية. صار الحديث عن همّ قومي وإنساني من قبل الكُتّاب سُبّة وعلامة تخلّف وشُبهةَ تمسّكٍ بأفكارٍ ومواقف مُتحجّرة. وكل ذلك يصبّ في مصبّ رئيسي شعاره الإعلان عن "موت الإنسان" الذي وضع أسسه الفيلسوف "نيتشه"، وصعد به إلى ذراه المدوّخة المفكّر الفرنسي الشهير "ميشيل فوكو" الذي يعلن صراحةً:

(لا يوجد ذات إنسانية ثابتة في التاريخ، ولا توجد حالة طبيعية إنسانية، ولا يوجد شىء في الإنسان (حتى جسده) ثابت بما فيه الكفاية يصلح أساسا ليتعرف الإنسان على ذاته وليفهم الآخرين)..

يقول المفكِّر "نعوم تشومسكي" أن كلّ مساعدات الولايات المتحدة الاقتصادية الخارجية منذ عام 1966 وحتى اليوم تذهب إلى الأنظمة المعادية لحقوق الإنسان ! وكل المؤرخين يجمعون على أن الولايات المتحدة استخدمت القنبلتين الذريتين ضد اليابان بلا سبب، واختارت مدينتين محاطتين بالسلاسل الجبلية لضمان عدم هدر حرارة القنبلة لتحقيق أكبر قدر من الشواء البشري. مئات، بل آلاف الأدلة، التي تثبت أن الولايات المتحدة – كأنموذج لجزيرة الرشاقة التي يتحدّث عنها علي القاسمي كما سنرى - هي الدولة الديمقراطية الأولى في الداخل، والعدوانية الشيطانية الأولى في الخارج. قد يعترض بعض النقّاد والقراء "الحداثويين" بالقول أن هذا ليس نقداً "حداثوياً"، فأستدعي هنا ما كنتُ قد استدعيته من قبل – ولأكثر من مرّة - من مداخلة للروائي العراقي الراحل "مهدي عيسى الصقر" – وقد عاش مصرّاً على التمسّك "الكلاسيكي" بقضايا الإنسان المسحوق! - حين تحدث عن الروائي الفرنسي "ألن روب غرييه" وموجته في "الرواية الحديثة" حيث قال:

(فلو أخذنا الروائي الفرنسي (ألن روب غرييه) الذي يعده الكثيرون من أعمدة الرواية الحديثة المركزية، فسنجده لا يهتم بالإنسان إلا قليلا في أعماله. القصة يجب أن تقف على قدميها بعيدا عن هذه الأمور حتى لو كانت بالطريقة التقليدية أو أي شكل آخر، إذ يجب أن تشد القاريء، وأن يكون فيها حس إنساني وإقناع بصرف النظر عمّا إذا كانت واقعية أو خيالية أو أسطورية. وبالنسبة لي أعتبر الحس الإنساني أهم من كلّ شيء، على عكس جماعة "الرواية الحديثة" الذين لا يعنون فيه. إذ أن العملية قائمة عندهم على اللعب بالكلمات، والبناء كله كلمات. والمؤسف أن بعض الشباب بدأوا يكتبون بهذه الطريقة بعد أن سوّغها لهم بعض النقاد. فمثلا رواية " الغيرة" لألن روب غرييه، يتحدث الكاتب فيها عن أشجار الموز وعددها وعدد صفوفها وحجمها وغيرها من الأمور، بينما يمر على الأفارقة الجالسين مرور الكرام. وينطبق هذا الأمر على القصة أيضا ) (5).
إن الحضارة الغربية، ومنذ بزوغ البنيوية، وصيحة فوكو، تبشّر بموت الإنسان. وعليه، علينا جميعاً - كبشر مسحوقين مذلّين مهانين - أن نشدّ على يدي كل كاتب يواجه بعزم هذا المدّ، وينتصر للإنسان في نصوصه، ويسخّر منجزه الإبداعي لخدمته وللتعبير عن عذاباته وخيباته. فتحيّة مسبقة للمبدع "علي القاسمي" في انتصاره لمحنة إنسان بلاده المحطّم.

ولعلّ من أشدّ مخاوف المناصرين للالتزام إلحاحاً، هو الخوف من سقوط الكاتب في مصيدة الشعارية على الطريقة "الجدانوفية" إذا جاز التعبير من ناحية، وإضعاف الجانب الجمالي الذي هو روح الإبداع من ناحية ثانية. لكن علي القاسمي وفّر الناحيتين في نصّه هذا: "جزيرة الرشاقة"، فقد تخيّل جزيرة للرشاقة لا يمكن للقارىء - وفق مرجعياته التأويلية التاريخية والحضارية والسياسية - إلّا أن يضعها رمزاً لحضارة متسيّدة في الزمن الذي يتكلّم عنه الراوي، وهو هنا صوت ضمير المتكلّمين الـ "نا":

(كنّا نحن الأطفال نسمّيها "جزيرة الرشاقة". وكان بعضنا يتقعّر في كلامه فينعتها بـ "جزيرة الرشاقة والأناقة". أمّا الكبار فكانوا يلقّبونها بالعالم الحديث.

كنّا نسمّيها "جزيرة الرشاقة" لأن بناتها وأبناءها الذين راحوا يؤمّون بلدتنا الصغيرة، كانوا على قدر مدهش من رشاقة القوام، وأناقة الهندام، والنشاط، وخفّة الحركة. قاماتهم طويلة، ولمعظمهم شَعر أشقر، وعيون زرق أو خضر، وملامح وسيمة، ووجوه مُشرقة، وابتساماتهم أخّاذة) (ص 245).

وقد اتضحت، الآن، الأصول العرقية لهؤلاء الزائرين السيّاح، وتكفي المتلقي العربي خصوصا، والشرقي عموما، هذه الإشارات السريعة إلى الشَّعْر الأشقر والعيون الزرق لكشف هويّة هؤلاء القادمين من "جزيرة الرشاقة" إلى بلدة فقيرة جرداء لا يوجد فيها أي مصدر للتسلية كما يقول الراوي ؛ فليس ثمّة دور للهو، ولا مسارح، ولا قاعات سينما، ولا دور للقمار، ولا منتجعات سياحية مزوّدة بملاعب رياضية أو مسابح أولمبيّة. لم يكن فيها ما يُغري هؤلاء السيّاح على القدوم إلى هذه البلدة، فهي مجرّد مجموعة من الدور البائسة ذات الطابق الواحد، المبنيّة من الطين أو الآجر، المسقّفة بسعف النخيل، يتوسّطها مسجدٌ صغير، وبنايتان متواضعتان لرجال السلطة. فما الذي كان يجذب هؤلاء السيّاح الذين كانوا يأتونها زرافات ووحدانا ؟:

(كان مركز الجذب الوحيد لهم تلالٌ تقع بالقرب من بلدتنا، وتضمّ مدينة بابلية قديمة يعود تاريخها إلى أكثر من أربعة آلاف سنة، لم يبق منها إلّا أطلال وخرائب. إنّها بالأحرى آثار مدينة مندثرة. مجرّد شوارع مهجورة، وقاعات بلا سقوف، وأعمدة رخاميّة متصدّعة، وجدران متهدّمة نُحتت عليها كائنات غريبة الأشكال، بعضها برؤوس حيوانية واجسام آدميّة، وبعضها الآخر برؤوس بشرية واجساد حيوانية مُجنّحة. وكانت ترتفع في أحد ميادين المدينة المُكفّنة بالتراب، مسلّة حجريّة، عليها كتابات مسمارية ونقوش وزخارف، وكان في مدخل المدينة، تمثال ضخم من حجر صلد لأسد مرعب المنظر، يربض على صدر امرأة جميلة مستلقية على ظهرها) (ص 245 و246).
وهنا تحين مقارنة جارحة، لكنها مُنصفة، بين"ورثة" هذه الحضارة العظيمة القديمة الذين يتعجبون من اهتمام السيّاح القادمين من جزيرة الرشاقة بهذه "الخرائب" التي لا تنفع ولا تضرّ كما يقول الراوي معبّراً عن نظرة جمعية مُجحفة لدى الورثة. السيّاح يأتون من الجزيرة البعيدة قاطعين آلاف الأميال، ليتأمّلوا هذه الآثار والخرائب، ويستكشفوا معانيها من كتبٍ يحملونها أو من شروح الأدلّاء الذين يرافقونهم، في حين أن معلومات أهل المنطقة لا تزيد على ما تعلّموه في المدرسة الأوّلية الوحيدة في البلدة. أهل جزيرة الرشاقة يتأمّلون هذه الآثار باهتمام بالغ في حين يندهش أهل البلدة من هذا الإنشغال بخرائب لا تضرّ ولا تنفع. ولعلّ المعادلة الدقيقة والمؤلمة التي تصف علاقة أهل المنطقة بآثار حضارتهم القديمة قد لخّصها الراوي بالقول:

(خرائب لا تضرّ ولا تنفع تقبع في مكانها على مرمى حجر مِنّا منذ آلاف السنين ولا نعيرها بالاً، أو بالأحرى نحن الذين نسكن بالقرب منها وهي لا تعيرنا اهتماماً) (ص 246).

لقد أربك هؤلاء "الغرباء" - بالمعنى النفسي - القادمون من جزيرة الرشاقة حياة أهل المدينة الرتيبة البليدة. فهم الذين يأتون ولا يأتون، ويغادرون ولا يغادرون ! ففي كل مرّة تتشكّل لهم "بقية" في النفس المنجرحة و "أثر"، بقية وأثر تكشفان البون الشاسع والشُّقة الهائلة بين عالمين: عالم حديث يمثله أهل جزيرة الرشاقة، وعالم قديم متخلّف يمثله أهل البلدة. العالم الأوّل بدأت أخباره المُذهلة تصل أهل البلدة، قصص وروايات اقرب إلى الخيال منها إلى الواقع تفضح الواقع المُخزي، الذي يعيشه أهل البلدة الذين يعتاشون على بقايا خرائب متربة وحكايات ماضِ مجيد، لكنه احتضر ومات منذ آلاف السنين. في حين أنّ حاضر بلاد أولئك السيّاح مُشرق ويمثّل مجتمعاً فردوسيّاً لا تستطيع عقول أهل البلدة الصدئة استيعاب مظاهر حضارته، مجتمع غني بالمصانع والمزارع.. أناسه يمتلكون الدور الجميلة والسيارات الفارهة التي تفتح بوّابات المرائب باضوائها، ويسافرون بطائرات ضخمة أو ببواخر مجهّزة بمطاعم ومراقص ومسابح.. والحياة فيه تسيّرها وتيسّرها المخترعات العجيبة والمُكتشفات المُذهلة كالتلفزيون والإنسان الآلي والعقول الإلكترونية.. وغيرها الكثير الذي يتجدّد كل لحظة (ص 247). وقد استغرب أهل البلدة لأن واحداً منهم قد سافر إلى جزيرة الرشاقة للدراسة هناك، بل استهجنوا ذلك، ثم استكانوا حين علموا أنّه صار يبعث لأهله بالمال والهدايا، فظهرت عليهم أمارات الثراء. ثم علموا أن هناك مثله الآلاف من جميع أنحاء العالم يهاجرون إلى جزيرة الرشاقة.

ولأنّ سكّان البلدة الضامرة المتهرّئة قد تثبّتوا على درجة الحاجات الفسيولوجية الإشباعية الضرورية للبقاء من سلّم الحاجات وهي درجة واطئة جدا نتشارك فيها مع الحيوانات حسب "هرم ماسلو" (6)، ولأنّهم عبارة عن أنابيب تصل بين المطبخ والمرحاض إذا ساغ الوصف حسب تعبير بعض الباحثين الإجتماعيين الحداثويين، ولأنّ حتى هذه الحاجات الأولّية لا يتوفر إشباعها في بلدة المومياءات الحضارية إذا جاز التعبير، فإنّ الموجّه الاساسي لعملياتهم العقليّة الإدراكية هي الدوافع النفسية والجسدية الأكثر إلحاحاً، وهي المرتبطة بشروط بقائهم وفي مقدّمتها حاجات أمعائهم ! وهذا ما كشفه الراوي بلا تردد:

(ولكنّ الحكايات التي كان يسيل لها لعابنا، وتأخذ أفواهنا بالتلمّظ عند سماعها، كما يفعل الهرّ وهو يترصّد فأراً صغيراً، هي حكايات الطعام والمطاعم في جزيرة الرشاقة. فقد بلغنا أن أسواقهم زاخرة بأصناف اللحوم والأسماك والطيور والحبوب والفواكه والخضار. وكلّها تُباع بأزهد الأثمان) (ص 247).

إنّها أعجوبة جزيرة الرشاقة أو العالم الحديث هذا.. إنّها بالنسبة لأهالي البلدة المسحوقين معجزة "غذائية".. المطاعم فيها مُنتشرة انتشار الفطر في البادية أيام الربيع، وهي تتفنّن في إرضاء زبائنها بأحدث الخدمات التي توفّر عليهم بذل أيّ جهد من أجل التهام الوجبات اللذيذة، وفي أي وقت فالمطاعم هناك مفتوحة أربعاً وعشرين ساعة يوميّاً.. وصارت الوجبات "متحرّكة" عبر استخدام الأواني النبيذة.. جزيرة الرشاقة بالنسبة لأهالي البلدة الذين يعيشون على النزر ويأكلون بأيديهم، وتطبخ أمّهاتهم الطعام ولم يتعلّمن حتى في مدرسة ابتدائية، هي "معجزة الطعام" حيث الوفرة في جميع أنواع الأغذية، والطريقة المتطوّرة والآلية في تناول الطعام، وحيث الكلّيات والدراسات الجامعية التي تعدّ الطهاة. هناك كتب تعلّم الطهي في حين لم يرَ جماعتنا غير الكتب المدرسية (ص 248).

عجائب جزيرة الرشاقة بالنسبة لأهالي البلدة تكمن في مخترعات فذّة لتسهيل تناول الطعام في أي وضع، فحتى سائقو السيارات هناك ملاعق آلية تضع الطعام في أفواههم!! (ص 249).
وحتى الآن، والقصّ يسير في مسار كلاسيكي ثقيل بلا حبكة أو مفاجآت بالنسبة للمتلقّي المعاصر. لكن من هنا سيبدأ مكر القاص بالتحرّك على المسار الأوّل المرتبط بالتزامه بهموم إنسانه المعذّب حين يجعل الرواي يقول:

(كنّا نكبر بمرور السنوات، وتكبر معنا مداركنا. فصرنا نستوعب ما نسمع بصورة أفضل، ونحلّل ما نرى من مظاهر وأحداث بصورة أعمق، ونفهم. واستمرّت الأخبار تصلنا عن وفرة الإنتاج وكثرة الطعام في جزيرة الرشاقة. سمعنا أن حكومتها تلقي سنويّاً بآلاف الأطنان من القمح والرز في البحر، وترمي آلاف القناطير من الزبدة والحليب في البحيرات، لتحافظ على ارتفاع الأسعار وأرباح المزارعين) (ص 249).

انتهى عهد الإنبهار السريع بالأجسام الممشوقة والشعور الشقر والعيون الزرق، وصرعات الكتب والمجلات، ووقفات تأمّل الخرائب والآثار الحضاريّة، وجاء عهد النضج المتأمّل الذي ينظر إلى ما وراء الأستار السلوكية والممارسات الثقافية العامّة، ليستكشف الدلائل المرتبطة بإنسانية الإنسان.
وقفة:

لا يستطيع أحدٌ منّا إنكار مروره بمرحلة "الانبهار" هذه بمعجزات جزيرة الرشاقة؛ بعضنا ما زالوا يعيشون في غيبوبة مرحلة الانبهار تلك، مسحورين بالمنجزات المادّية لتلك الجزيرة، مغيّبين عن الانتباه إلى تلك الشروخ العميقة في أرواح سكّانها. لنقرأ هذا النصّ الدموي الوحشي:

(النصّ يتحدّث عن تطهير منطقة نيويورك من حثالة السكّان الأصليين (المقصود الهنود طبعاً):
(لقد أتوا أفعالاً تليق بالرومان عندما قتلوا كل ذلك العدد من الناس النائمين (لاحظ: النائمين!) حيث انتُزع الرُضّع من على أثداء أمّهاتهم ومُزّقوا إرباً أمام ذويهم، ورُمِيت أشلاؤهم في النار وفي النهر. أمّا الرُضّع الآخرون الذين كانوا مربوطين إلى مهودهم الخشبيّة الصغيرة فقد قُطّعوا بالسيوف وطُعِنوا وذُبِحوا بوحشية تحرّك قلب الحجر. وعندما رُمي بعضهم في النهر أحياء وحاول آباؤهم وأمّهاتهم إنقاذهم لم يسمح لهم الجنود بالعودة إلى اليابسة وجعلوا كلّاً من الآباء والأبناء يغرقون(6)

هذا النص صدم المؤرّخ والمفكّر الأمريكي "نعوم تشومسكي" فهو من النصوص المقرّرة على طلبة الصف الرابع الابتدائي في ولاية بوسطن. يقول "تشومسكي":

(لقد استيقظت ذكرياتي الخاصّة قبل أسابيع من انكشاف مجزرة "ماي لاي" عام 1969، وذلك في أثناء تصفّحي لأحد نصوص كتاب الصف الرابع الابتدائي الذي يتحدّث على استعماريي "نيوإنغلند ". كان الكتاب مقرّراً دراسيّاً في ضواحي"بوسطن" المعروفة بجودة مدارسها، ويقرأ الأطفال سرداً معقول الدقّة لمذبحة"البيكوت" التي يمتدحها الكاتب كثيراً ) (7).

عودة:

هذا ما يحصل في قلب جزيرة الرشاقة والأناقة التي أبهر مظهر سيّاحها وسلوكهم السياحي لبّ أهالي البلدة المساكين أيّام كانوا في مرحلة الطفولة "العقليّة " التي تسحرها المظاهر الصارخة والالوان وقطع الحلوى التي كان يوزّعها هؤلاء الغرباء الرشيقون على أطفالها الذين كانوا يتجمّعون منسحرين بالزوّار الرشيقين الجميلين. لكنّهم يعيشون الآن مرحلة "نضج " عقلي معقول يساعدهم على التساؤل والتأمّل والغوص إلى ما تحت السطح البرّاق الظاهر. ولعلّ واحداً من العوامل الكبرى التي أسّست لهذا النضج العقلي الصحّي الموصل إلى الحقيقة العارية هو الأدب الملتزم شعراً وقصّة ورواية، والفنّ الملتصق بهموم البشر المُستغلّين، ناهيك عن الدور الجبّار لوسائل الإعلام المختلفة والأحزاب السياسية الثورية. كلّ هذه السبّل – وخصوصاً الأدب – أُغلقت الآن بوجه صوت المظلومين. بل بالعكس صارت وسائل تُستغل لخنق اصواتهم. وإلّا قُلْ لي بأيّ حقّ يطبّل النقّاد العرب – ناهيك عن مؤسسات النشر الغربية التي باعت من الرواية 40 مليون نسخة – لرواية صهيونية توراتية مسمومة من الصفحة الأولى حتى الأخيرة، يعلن فيها مؤلّفها أنّ نجمة داود هي المرجع الأوّل لكل تجلّيات الحياة منذ فجر الخليقة حتى يومنا هذا.. حتى كارتون الليث الأبيض وتوم وجيري من منجزات الفكر التوراتي!! هذه الرواية هي رواية "شفرة دافنشي " التي انسحر بها نقّاد البلدة الحداثويون وصاروا يروّجون لمعجزتها بين أهاليها المساكين الذين وضعوا ثقتهم بهم، فصاروا لعنة على عقولهم يساهمون في تضليلها وإعادة انسحارهم السلبي بنتاجات جزيرة الرشاقة ومنجزاتها حقّاً وباطلاً.

لكن مازالت هناك بقية من أقلام مبدعة عرفت سرّ الحكاية، وتصرّ على كشفه وتوصيله، كما هو، لأهل بلدتها. أقلام يمكنك أن تثق بها. ومنها هذا القلم الذي مزّق غشاوة "سكرة" الانسحار وأمسك بعروة "فكرة " الاقتدار، فصار يرى بعين ضميره اليقظ الراصد ما يجري حوله، ويقارنه بما يسمعه ويراه عن سلوك أهل جزيرة الرشاقة. ففي الوقت الذي كان سكان تلك الجزيرة الحديثة يرمون بأطنان القمح والرز في البحر، كان الناس في البلدات المتخلّفة – بلدات الخرائب الحضارية – يجوعون ويموتون بسبب التصحّر والفاقة ونقص الطعام. كل يوم يموت (1000) ألف طفل أفريقي بسبب الجوع:

(.. وترمي آلاف القناطير من الزبدة والحليب في البحيرات، لتحافظ على ارتفاع الأسعار وأرباح المزارعين. وكان التصحّر آنذاك يحاصر قريتنا، والجفاف يمتصّ النسغ من جذور نباتاتنا وأغصانها، فيحيلها هشيماً تذروه الرياح. ويجوع الفقراء) (ص 249).

ومع هذا المسار ينتهي الخوف من سقوط القاص في مصيدة المباشرة وجفاف نبع التوظيف الجمالي في النصّ، وأن يتحوّل إلى حكاية شعارية أو مقالة حكائية. يبدأ الكاتب بمسارٍ موازٍ لمسار التزامه الذي بدأ يكشف فيه "المستور" من السلوك اللاإنساني لسكان جزيرة الرشاقة، ويتمثل في لعبة خيالية (فنتازية - غرائبيّة) يحاول فيها رسم تصوّر لـ "عقاب" يصيب سكّان جزيرة الرشاقة السادرين في غيّ الإفراط في تناول الطعام وملذّاته الملحقة من شراب وحلوى. هذه اللعبة توفّر واحداً من أهم الشروط الحاسمة في تأسيس العلاقة بين النصّ وقارئه، وهي "المتعة". فكلّ نصّ – مهما كان جنسه ومهما كانت غاياته – ينبغي أن يُكتب أوّلاً لتوفير المتعة للقارىء حتى لو كانت ذات مسحة سادو – مازوخية. إذا أردنا تحليل السلوك الإستغلالي اللاإنساني لسكّان جزيرة الرشاقة، هناك ألف محلّل يستطيعون تقديم صورة أدقّ مما يقدّمها أي قاص أو روائي على الصعد كافة، صورة مُدعمة بالمعلومات العميقة والإحصائيات الدقيقة. لكن هؤلاء الألف مُحلّل لن يستطيعوا ملامسة القلب، ولن يقدروا على تحريك خلجات الروح لدى المتلقّي. هذا سحرٌ يقوم به المبدعون. وعلي القاسمي يقوم هنا بـ"سحره" فيتصوّر أنّ سكّان جزيرة الرشاقة قد أوغلوا في إشباع غريزة الجوع النهمة التي جعلت أجسامهم الرشيقة الأخّاذة تترهّل وتتضخّم بدرجة كبيرة:

(وأخذنا نشاهد أثر الرفاهية والترف على أهالي جزيرة الرشاقة الذين يفدون إلى بلدتنا. فقد أخذت أجسامهم تزداد طولا وعرضا وضخامة وقوّة. لا بُدّ أنّهم يأكلون اللحم بكمّيات هائلة، فتنمو عضلاتهم، وتمتلىء كروشهم، وتتضخّم اردافهم. وراحت حافلاتهم التي تقلّهم إلى بلدتنا توسّع من مقاسات مقاعدها لتتّسع لهم. وصرنا نراهم وقد أمسوا أقرب إلى الجاموس منهم إلى الأشخاص الطبيعيين، بسبب انتفاخ وجوههم وبطونهم، وترهّل صدورهم، وتضخّم أطرافهم. ولم نعُد نسمّي جزيرتهم "جزيرة الرشاقة ") (ص 249 و250).

وهي فعلاً لعنة "سحريّة" يُحلّها الراوي على أولئك الرشيقين الذين صار انهمامهم بالأكل يتجاوز حدود حاجة الإشباع الضروري للبقاء ليدخل في دائرة السلوك "العصابي" إذا جاز القول، فقد أصبحت حالة السمنة والترهّل الجسدي الجديدة مقزّزة - أوّلاً - مسخت تلك الرشاقة الساحرة التي كانوا يتمتعون بها والتي سحرت أذهان ونفوس أهالي البلدة. وقد بدأت – ثانياً - تعيق حياتهم العامة حيث صار لزاماً عليهم تغيير مقاسات كل الأشياء التي يستخدمونها في الجزيرة من أثاث ومقاعد وملابس ومبانٍ. كما صاروا – ثالثاً – غير قادرين على الذهاب إلى أعمالهم، ولا على الحركة، بسبب ثقل أجسامهم. ولكن على الرغم من كلّ مظاهر هذا الخراب الشامل الذي اصاب حياتهم لم ينقطع أهل الجزيرة عن تناول الطعام ليلاً ونهاراً مكتفين بالجلوس في بيوتهم التي صارت تضيق عليهم إلى حدّ أن الشرطة في الجزيرة تُضطر بين آونة وأخرى إلى خلع باب إحدى الغرف وتوسيعه أو إزالة السقف لمساعدة رجل تعذّر عليه الخروج من الباب بعد أن أمضى شهوراً في مسكنه وهو يأكل ويأكل. وحتى هذا الحل لإنقاذ "المُحاصَرين" كما صاروا يُسمّون – وشتّان بين هؤلاء المُحاصرين بسبب الشراهة، ومَن حاصرهم أهالي الجزيرة من شعوب مسكينه حدّ تقتيلهم جوعاً ! – بات مستحيلا بعد أن تضاءل عدد افراد الشرطة الذين يمكنهم الدخول من الأبواب (ص 250).

لكن هذا السلوك يتسع ويشتد ويتصاعد مُنذراً حتى بتهديد حياة من صار محور حياتهم مثلما يهدّد طبيعة الحياة في جزيرتهم. صار الإنسان هناك "آلة" لالتهام الطعام. هذا الإنشغال الرهيب الذي قد يوصل إلى الفناء، هو شكل من أشكال "الجنون السوي" وفق المصطلح المخفّف للمحلل النفسي الشهير "إريك فروم " حين وصف بدقّة انشغال إنسان جزيرة الأناقة، أو المجتمع الحديث، بسلوكيات ينسحب فيها من كل نشاط خارجي، وينسى روابطه الإجتماعية، لـ"يلتهمه" نشاطٌ واحد يُكسّر كل اهتماماته. أصبح كثير من أبناء الجزيرة يفضّلون عدم الذهاب إلى العمل من أجل البقاء في بيوتهم ومواصلة التهام الطعام (ص 250)، وقد استشرف فروم هذه الحالة قبل خمسين عاماً حين وصف السلوك المستقبلي لإنسان الحداثة:

(سيكون من دواعي دهشتي ألّا يقدَّم إنسان علم التحكم أحاديّ التفكير صورة لسير فصام الحد الأدنى المزمن ؛ الشيزوفرينيا – schizophrenia، - باستخدام المصطلح من أجل التبسيط. فهو يعيش في جوّ لا يقل إلّا كمّياً عمّا يجري في الأُسر الفصامية (المُحدثة للفصام ).

وأعتقد أن من المعقول ان نتحدث عن "المجتمع غير السوي"، ومشكلة ما يحدث للإنسان السوي في مثل هذا المجتمع. فإذا أنتج مجتمع من المجتمعات أكثرية تعاني من الفصام الشديد، فإن ذلك سوف يضعضع وجوده. والشخص مكتمل الفصام يتصف بأنه قد قطع كل العلاقات بالعالم الخارجي، إنه منسحب إلى عالمه الخاص، وأهم سبب يجعله يُعدّ مريضا بشدة هو سبب اجتماعي ؛ فهو لا يؤدي وظيفته اجتماعياً، ولا يستطيع أن يُعنى بنفسه كما ينبغي، ويحتاج إلى مساعدة الآخرين بطريقة أو بأخرى.... والمجتمع، إذا لم نتحدث عن مجتمع ضخم ومعقد، لا يمكن أن يديره أشخاص فصاميون. ومع ذلك يمكن أن يديره على ما يُرام أشخاص يعانون من فصام الحدّ الأدنى، وهم أشخاص قادرون تماماً على إدارة الأمور التي تُدار إذا كان المجتمع يؤدي وظيفته. وهؤلاء الناس لم يفقدوا القدرة على النظر إلى العالم "واقعياً"، شريطة أن نعني بذلك تصوّر الأمور عقلياً كما هم بحاجة إلى أن يتصورهم الآخرون ليتعاملوا معهم عاطفيّاً. وقد لا يكونون قد فقدوا كليّاً قدرتهم على خبرة الأشياء شخصيا، أي ذاتيا، ومن قلوبهم. ويمكن للشخص مكتمل النمو أن يرى وردة، مثلا، ويَخْبرُها على أنها ناشرة للدفء أو ملتهبة (وإذا صاغ هذه الخبرة في كلمات فقد ندعوه شاعراً )، ولكنه يعلم كذلك أن الوردة – في مجال الواقع الفيزيائي – لا تُدفىء كما تُدفىء النار. والإنسان الحديث لا يخبُر العالم إلّا من حيث غاياته العملية. ولكن نقصه ليس أقل من نقص مَن يسمّى الشخص المريض الذي لا يستطيع أن يخبُر العالم "موضوعياً "، ولكنه احتفظ بالمقدرة الإنسانية الأخرى عن الخبرة الشخصية، الذاتية، الرمزية.

وأعتقد أن"سبينوزا" في كتابه "فلسفة الأخلاق" أول من عبّر عن مفهوم " الجنون الطبيعي":

تستحوذ على الكثيرين من الناس العاطفة نفسها باتساق شديد. فتكون حواسّه كلّها شديدة التأثر بشيء إلى حدّ أنه يعتقد أن الشيء موجود ولو لم يكن موجودا. وإذا حدث هذا الأمر عندما يكون الشخص مستيقظاً، يُعتقد أن الشخص مجنون. ولكن إذا لم يفكر الشخص الجشع إلّا في المال والممتلكات، ولم يفكر الطامح إلا في الشهرة، فلايعتقد المرء أنهما مجنونان، ويكون لدى المرء احتقار لهما عموما. ولكن الجشع والطموح وما إلى ذلك ؛ هي بالفعل من أشكال الجنون، على الرغم من أن المرء لا يعتقد في العادة أنه "مرض".

ويغدو التحوّل من القرن السابع عشر إلى عصرنا واضحاً في أن الموقف الذي يقول سبينوزا إنه "يكون لدى المرء احتقار... [ له ] عموماً، لا يُعدّ اليوم محتقراً بل جديراً بالثناء.

وعلينا أن نتخذ خطوة أخرى، إن "أمراض الحالة السويّة "نادراً ما تتدهور إلى الأشكال الخطيرة من المرض الذهني لأن المجتمع يُنتج الترياق المضاد لهذا التدهور. وعندما تُصبح السيرورات المرضية محتذاة اجتماعيا، تفقد خصيصتها الفردية. بل على العكس، فإن الفرد المريض يجد نفسه في بيته مع كل الأفراد الآخرين المُصابين بأمراض تشبه مرضه. والثقافة الكلية مرتصفة مع هذا النوع من الأحوال المرضية وتدبّر الوسائل لتقديم الإشباعات التي تلائم الأحوال المرضيّة. والنتيجة أن الفرد العادي لا يعيش تجربة الإنفصال والإنعزال التي يشعر بها الشخص الفصامي تماما. وهو يستأنس بالذين يقاسون من التشوّه ذاته ؛ وفي الواقع، فإن الشخص السوي تماما هو الذي يشعر بالعزلة في المجتمع غير السوي – وقد يعاني كثيراً من العجز عن التواصل بحيث هو الذي قد يصبح ذهانيا) (8).

لقد صمّم علي القاسمي شكلاً فريداً وغريباً من أشكال "نهاية الحضارات"، وذلك حين يصبح الإنسان عبداً لغرائزه، فقد كانت الجزيرة مكاناً للرشاقة والأناقة حين كان سكّانها يأتون قاطعين آلاف الأميال لرؤية بقايا ممّا أنجزه البشر القدماء على طريق الحضارة الطويل، الذي يُعمَّد بالعرق والعناء والسهر وكدّ العقول والتضحية بجانب كبير من الغرائز أو "إسمائها وتصعيدها – Sublimation".

لكن هذا التخييل عن "انهيار الحضارات" برغم كونه كناية عن عبوديّة الإنسان – وهي نتيجة تسير إليها الحضارة الغربيّة الماديّة حثيثاً - يحمل بدوره ملامح عصابيّة"نكوصيّة"، وهو أمر متوقّع كجزء من أواليات التفكير المبدع الذي – وفق آراء معلّم فيينا – يحمل الكثير من مظاهر التفكير العصابي الإشباعي السحري والنكوصي والتعويضي... إلخ. ويعكس الإخراج الذي وضعه القاص لمسار وقائع حلّ حبكته والمفردات الوصفيّة المُستخدمة (الجاموس.. الجرب في البدن.. وغيرها) شحنة عالية من العدوان الذي انفلت بعد أن كان مُحتبساً. هذا العدوان يهمّه في بعض الأحوال أن تعمّ المصيبة كي تهون كما تقول الحكمة الجمعية الباهرة، فيساوي الراوي، في تخييله، بين مصير جزيرة الرشاقة الخرابي المُقبل، ومصير بلدته الترابي الطللي القائم، عائداً بشحنة العدوان، أو بجزء منها، إلى الذات التي ستستقبله بتشفٍّ مازوخي أقل وطأة:

(.. انخفض الإقبال على العمل واضطر كثيرٌ من المؤسسات والمصانع إلى تقليل الإنتاج... وبعضها أوصد أبوابه. ولم تجد المنازل من يرمّمها، ولا الآلات المعطوبة من يُصلحها... وسرى الخراب في جميع أنحاء الجزيرة كما يسري الجرب في البدن، حتى تصوّرنا أنها ستمسي بمرور الزمن شبيهة بأطلال تلك المدينة البابلية القابعة بالقرب من بلدتنا ) (ص 251).

ذيل من التداعيات:

لا تكمن أهمية النص القصصي في ما يتعاطى معه الناقد من أفكار ووقائع وسلوكيات شخصيات يعرضها الكاتب بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولكن – وهذا ما لا يقل أهمية وقد يفوقه في بعض الحالات – في ما يثيره من تداعيات في ذهن الناقد، وحتى المتلقي؛ تداعيات قد تبدو بعيدة عن ساحة النص ولكنها ترتبط به بوشائج تحليلية مستترة. فأمام هذه القصّة قد تثور في الذهن تساؤلات جوهريّة عن حال هذه البلدة البائسة التي يسبت ابناؤها كالمومياءات بجوار أطلال حضاراتهم القديمة العظيمة.. يأكلون ويشربون وينامون.. ألا نقف أمام انحطاط "عصابي" من نمط آخر يلتقي في النتائج مع سلوك أبناء جزيرة الرشاقة؟ ألم يرسم ابناء البلدة – بكسلهم الحضاري ولا إكتراثهم - مصيرهم الخرابي قبل أن تنحطّ حضارة أبناء الجزيرة ؟ ألم يصل هذا الإنحطاط العصابي بالراوي وأبناء البلدة حدّ أن يتصوّروا، أو يتمنّوا - لا فرق – أن يلتقي المصير الأسود النهائي لجزيرة الرشاقة والأناقة بالمصير الراهن التعيس لبلدتهم.. بلدة الفاقة والإعاقة؟ (ومن مصادفات اللغة العربية العظيمة هي أنّ الإبل إذا تعست صار لونها أبيضَ تخالطه شُقرة !). إنّ من يتأمّل حال أبناء بلدتنا بعين محايدة وبروح موضوعية، يمكنه أن يؤشّر جنوناً سويّاً راهناً مقابلاً للجنون السويّ لأبناء جزيرة الأناقة، لكنه الآن الجنون السويّ لأبناء صحراء بلدة نفط جديدة. يقول الروائي الراحل "عبد الرحمن منيف":

(إن الوفرة المالية المتاحة لعدد كبير نسبيا، والتي حصلت دون مشقة، جعلت الكثيرين ينظرون إلى المال بخفّة ودون مسؤولية، ولجأوا إلى تبديده بإسراف مبالغ فيه. فإذا كان عمر السيارة مثلا، ووسطياً، خمس سنوات ﻓﻲ اﻟﻤﺠتمعات الصناعية، فإن عمرها قلما يتعدى السنة بالنسبة لكثيرين ﻓﻲ الجزيرة والخليج. ليس ذلك فقط، فإن من مظاهر الإرتقاء ﻓﻲ السلم الاجتماعي:

عدد السيارات المملوكة، ونوعها، وسنة الصنع. ولعل من التعبيرات التي لا يوجد ما يماثلها ﻓﻲ أي مكان ﻓﻲ العالم التعبير المتعلق بشراء السيارات، إذ كثيرا ما يطلب المشتري "حبّتين" أو "ثلاث حبّات "من السيارة المرغوبة. هذا ﻓﻲ الوقت الذي لا تموت فيه السيارة مطلقا ﻓﻲ بعض الأماكن، كسورية مثلا، حيث تتجدد مرة بعد أخرى نتيجة الحاجة والنظرة الاقتصادية. وينطبق الأمر ذاته على السلع الصناعية الأخرى، إذ توجد ﻓﻲ أكثر البيوت أعداد تفيض عن الحاجة أو عن المعقول من هذه السلع كالفيديو مثلا. وينشأ عن ذلك ثقافة وعادات من نمط معين كتبدّل مواعيد النوم واليقظة، وبالتالي مواعيد العمل للرجال، وعلاقة الأم بأولادها، إذ كثيرا ما يُترك الأطفال للمربيات والخدم، ولأنواع من الثقافة والمعرفة لا تتناسب وأعمارهم. أما الأغذية التي يتم تناولها ﻓﻲ عدد كبير من البيوت، من حيث الكمية والنوعية والمواعيد، فإنها لا تتلاءم مع الطقس، أو تلبية الحاجات الفعلية للإنسان، وقد انعكس ذلك بوضوح على الصحة وعلى الهيئة، خاصة وأن القليلين يمارسون الرياضة. ولعل من مظاهر الإسراف والهوس بالاقتناء أن مجموعة كبيرة من السلع الثمينة الغالية السعر تصنّع خصيصا للدول النفطية، كالساعات واﻟﻤﺠوهرات، وتجد هذه السلع أعدادا متزايدة من المشترين، خاصة إذا أُحسن توصيلها والدعاية لها. أكثر من ذلك: تعترف شركات صناعة العطور الأوربية، الفرنسية تحديدا، أن سوق الخليج أحد أهم الأسواق لمنتجاتها، خاصة العطور التي يستعملها الرجال، والتي تفوق ما تستهلكه النساء) (9)
القصّة التي تم تحليلها:

جزيرة الرشاقة

كنّا نحن الأطفال نسمّيها "جزيرة الرشاقة". وكان بعضنا يتقعَّر في كلامه فينعتها بـ "جزيرة الرشاقة والأناقة". أمّا الكبار فكانوا يلقّبونها بالعالم الحديث.

كنا نسمّيها"جزيرة الرشاقة" لأنّ بناتها وأبناءها الذين راحوا يؤمّون بلدتنا الصغيرة، كانوا على قدرٍ مدهشٍ من رشاقة القوام، وأناقة الهندام، والنشاط، وخفّة الحركة. قاماتهم طويلة، ولمعظمهم شَعرٌ أشقر، وعيونٌ زرق أو خضر، وملامحُ وسيمة، ووجوهٌ مشرقة، وابتساماتهم أخّاذة.

كانوا يفدون إلى بلدتنا سُيّاحًا من نوعٍ خاصّ، فلم يكُن فيها ما يسلّيهم. فليس ثمّة دور للهو، ولا مسارح، ولا قاعات للسينما، ولا دور للقمار، ولا منتجعات سياحيّة مزوَّدة بملاعب رياضيّة أو مسابح أولمبيّة، ولا أسواق عامرة بأصناف البضائع اليسيرة الأثمان. لم يكن في بلدتنا ما يغريهم بالقدوم إليها. فهي مجرَّد مجموعة من الدور البائسة ذات الطابق الواحد، المبنيَّة من الطين أو الآجر، المسقَّفة بالجَرِيّد (سعف النخيل)، يتوسّطها مسجدٌ صغيرٌ، وبنايتان متواضعتان لرجال السلطة. ومع ذلك كانوا يأتون إلينا باستمرار جماعاتٍ ووحدانًا.

كان مركز الجذب الوحيد لهم تلالٌ تقع بالقرب من بلدتنا، وتضمُّ مدينة بابليّة قديمة يعود تاريخها إلى أكثر من أربعة آلاف سنة، لم يبقَ منها إلا أطلالٌ وخرائب. إنّها بالأحرى آثار مدينة مندثرة. مجرَّد شوارعٍ مهجورة، وقاعاتٍ بلا سقوف، وأعمدةٍ رخاميّةٍ متصدِّعة، وجدرانٍ متهدِّمةٍ نُحتت عليها كائناتٌ غريبةُ الأشكال، بعضها برؤوسٍ حيوانيّةٍ وأجسامٍ آدميّة، وبعضها الآخر برؤوسٍ بشريّةٍ وأجسادٍ حيوانيّةٍ مُجنَّحة. وكانت ترتفع في أحد ميادين المدينة المُكفَّنة بالترابِ، مَسلَّةٌ حجريّةٌ، عليها كتاباتٌ مسماريّةٌ ونقوشٌ وزخارف. وكان في مدخل المدينة، تمثالٌ ضخمٌ من حجرٍ صلدٍ لأسدٍ مرعبِ المنظر، يربض على صدرِ امرأةٍ جميلةٍ مستلقيةٍ على ظهرها.

كان أولئك السيّاح الشقر يطوفون في أرجاء تلك الأطلال، يتملّون جنباتها، وهم يسترقون النظر إلى كُتب يحملونها بأيديهم، أو يستمعون إلى دليلٍ يرافقهم ويزوِّدهم بالشروح. وكنّا نحن الأطفال نعجب لهذا الاهتمام الذي يبديه أولئك السيّاح بخرائبَ لا تنفع ولا تضرّ، وهي تقبع في مكانها على مرمى حجرٍ مِنّا منذ آلاف السنين ولا نعيرها بالاً، أَو بالأحرى نحن الذين نسكن بالقرب منها وهي لا تعيرنا اهتمامًا. كلُّ ما تعلّمناه عنها في المدرسة الأوليّة الوحيدة في البلدة، أنّها بقايا حضارةٍ قديمةٍ عظيمةٍ، قامت وسادت، ثمَّ انهارت واندثرت، ولم يبقَ منها إلا تلك الخرائب.

كان بعض أولئك السيّاح ذوي الأجسام الرشيقة والوجوه المشرقة، يبتسمون لنا نحن الأطفال عندما نتجمّع حولهم ونحملق فيهم، ويقولون لنا كلامًا بِلغتهم لا نفهمه، فنحسبه تحيَّة مودَّة، خاصَّةً أن بعضهم كان يشفع ما يقول، بقطعة حلوى يعطينا إياها. وكان عددٌٌ من شباب البلدة الذين يجيدون لغة السياح، يقتربون منهم ويتبادلون الحديث معهم ويرافقونهم أحياناً إلى الفندق الذي ينزلون فيه لليلة أو ليلتين على الأكثر، وهو بناية من طابقين تطل على الخرائب.

وتسرَّبتْ إلينا، عن طريق أولئك الشبان، أخبارٌ استقوها من محادثاتهم مع السيّاح ومن الصحف والمجلات التي يرمون بها بعد الانتهاء من مطالعتها، فيتلقّفها الشبان. أخذنا نسمع قصصًا ورواياتٍ أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع الذي نعرفه، قصصًا مضخَّمةً فيها كثير من المبالغة والتهويل عن حياة أولئك السيّاح، ورفاهية بلادهم، فتأسر أسماعنا وتبهر عيوننا، ونبني منها قصورًا في مخيلتنا، تخلو منها بلدتنا ذات البيوت المتراصة المتواضعة.

سمعنا أنّ بلادهم غنيّة عامرة بالمصانع المُنتِجة والمزارع المُثمِرة، وأنّ الناس هناك يمتلكون الدور الجميلة والسيّارات الفارهة التي تفتح بوابات المرائب بأضوائها، وأنّهم يأتون إلى بلادنا بالطائرات التي لم نرَها نحن إلا مُحلِّقة في السماء، أو بالبواخر الفخمة. وكلّ باخرةٍ تضمُّ مطاعمَ راقية، وملاعب، ومسابح، ومراقص ليليّة يُمضي فيها الركاب سهراتهم، راقصين على أنغام الموسيقى التي تعزفها فرق موسيقيّة، حتّى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، ثمَّ يأوون إلى مقصوراتهم المجهَّزة بأَسِرّةٍ مريحةٍ، وفرشٍ وثيرةٍ، وحماماتٍ نظيفة.

وعلمنا ذات يوم أنّ أحد أبناء البلدة سافر إلى جزيرة الرشاقة للدراسة في إحدى جامعاتها الراقية. وتهامس بعضنا باستنكار:"إنّه قرر الإقامة هناك ولن يعود!" وتساءل بعضنا الآخر: "وكيف يرضى أهله بذلك ؟!" وجاء الجواب: "إنّه يبعث إليهم بالمال والهدايا، وقد ظهرت عليهم أمارات الثراء." وقيل لنا إنّه ليس الوحيد الذي يهاجر إلى جزيرة الرشاقة، فهناك مثله الآلاف من جميع أنحاء العالم، ومنهم مَن يواتيه الحظّ، فيصبح من أصحاب الملايين.

وأغرقت القصص، التي كنّا نسمعها عن جزيرة الرشاقة، في الخيال عندما أخذت تتناول أخبار المخترعات والمكتشفات المذهلة، مخترعات لم نسمع بها من قبل: تلفزيون يأتيك بصور الناس وأخبارهم من أماكنَ نائيةٍ، كما كان يفعل جنُّ سليمان، وإنسانٌ آليٌّ يحلُّ محلَ العمّال في المهمّات الشاقَّة، ومركباتٌ فضائيّةٌ تسبح في الكون كالكواكب قاصدة القمر والمريخ، وعقولٌ إلكترونيَّةٌ تأتي بالعَجب العُجاب.

ولكنّ الحكايات التي كان يسيل لها لعابنا، وتأخذ أفواهنا بالتلمُّظ عند سماعها، كما يفعل الهرّ وهو يترصّد فأرًا صغيرًا من بعيد، هي حكايات الطعام والمطاعم في جزيرة الرشاقة. فقد بلغَنا أنّ أسواقهم زاخرةٌ بأصنافِ اللحوم والأسماك والطيور والحبوب والفواكه والخضار. وكلُّها تباع بأزهد الأثمان.

وأعجب ما في جزيرة الرشاقة مطاعمها الفاخرة الكثيرة، المنتشرة انتشار الفُطْر في البادية أيام الربيع. فبينَ كلّ مطعمٍ ومطعمٍ مطعمٌ. وتفنَّنت المطاعم في إرضاء زبائنها وتلبية رغباتهم بأسرع ما يمكن دون طويل انتظار. فعندما تلج بعضها وتجلس إلى الطاولة التي تختارها، تجد عليها قائمة الأطباق وأمام اسم كلّ طبق زِرٌ، فتضغط على أزرارِ الأطباق التي ترغب فيها، فتُضاءُ إشارةٌ في المطبخ تحمل رقم طاولتكَ وأرقام الأطباق المطلوبة، فيجلبها النادل إليكَ فورًا.

واتّبعت مطاعمٌ أُخرى طريقةً مختلفةً؛ فعندما تلجها، تجد مائدةً عامرةً بأصناف الطعام وألوان المآكل، فتختار منها ما تشاء وتملأ صحنك بنفسك، ثمَّ تعود وتملأه ثانية وثالثة، وتأكل كلَّ ما تشتهي نفسك حتّى تشبع، دون أن يزيد ثمن الوجبة المحدَّد سلفًا. وعندما تجلس إلى إحدى الطاولات، وتضع صحنك العامر بالطعام أمامك، يسرع إليك النادل بكأسٍ من الشراب الذي تفضّله، وقبل أن تشربه كلَّه يملأُه النادل مرّة ثانية وثالثة ورابعة، دون أن تدفع ثمنًا إضافيًّا لما تشرب. وتختم وجبتكَ بأصناف المثلَّجات اللذيذة وأنواع الحلويات الشهيّة التي تنتقيها بنفسك من عربةٍ متحرِّكة يجلبها النادل إلى طاولتك.

وضحكنا كثيرًا عندما قال أحدنا:

ـ "والطهاة والندل والسقاة هناك يتخرَّجون في الجامعات."
وسأل أحدنا ساخرًا:

ـ "أتصدّق أن الطهي يحتاج إلى دراسات جامعية؟! دكتوراه في الثريد مثلاً!"
وأيّده ثالث قائلاً:
ـ "أمهاتنا يطبخن ولم يتعلَّمن حتّى في مدرسة ابتدائية."

واعترض آخر قائلاً:

ـ "ولكن أخبرني أخي الكبير بوجود كُتُب متخصِّصة بإعداد الأطباق المختلفة."
وحتّى ذلك الحين لم نكُن رأينا في بلدتنا من الكُتُب إلا كُتُب القراءة والحساب المدرسيّة.

ويبدو أن أهالي جزيرة الرشاقة اكتسبوا ولعًا خاصًّا بالأكل، لوفرته وجودته ومذاقه اللذيذ؛ فكثر الإقبال على المطاعم، حتّى صارت تفتح أبوابها أربعًا وعشرين ساعة يوميًّا، وهي تقدِّم لك ما تشتهي نفسك من وجبات دون التقيّد بأوقاتٍ معيَّنة. فتستطيع أن تطلب من النادل أن يأتيك بوجبة عشاءٍ غنيّة باللحم في أوّل الصباح، وتطلب وجبة الفطور في المساء، وتجمع بين وجبتين وقت الغداء، فأنتَ حرٌّ في اختياراتك. وجزيرة الرشاقة هي جزيرة الحرِّيَّة كذلك. وكلُّ واحدٍ حرٌّ في أن يأكل ما يشاء، ومتى ما يشاء، وحيث ما يشاء، وكيف ما يشاء. يتناول طعامه واقفًا، أو جالسًا، أو ماشيًا؛ في المطعم، أو المنزل، أو المدرسة أو المعمل.

والمطاعم في جزيرة الرشاقة مجهَّزة بما يلزم لتلبية رغباتك. فقد ابتكروا صينيّات من الورق المقوّى يُحمَل فيها الطعام، وأواني وملاعق وشوكات بلاستيكيّة تُرمى بعد استعمالها مَرَّةً واحدةً، وأكوابًا مُغلقةً تخترق أغطيتها أنابيب ورقية تمتص بها دون أن يندلق السائل منها وأنت تشرب وتسوق سيّارتكَ في الوقت نفسه. وكان يصعب علينا تصوُّر جميع تلك الأدوات لأنّنا كنّا نأكل بأيدينا.

وأخذت مصانع السيّارات تستجيب لاحتياجات أهل الجزيرة الغذائيّة، فرُكِّبتْ أدواتٌ إضافيّةٌ في السيّارة أمام السائق، حواملُ معدنيّةٌ تُثبَّتْ فيها أكواب الشراب وصحون الطعام، وهكذا لا ينقطع صاحب السيّارة عن الأكل والشراب وهو يقود سيّارته. وتنافست شركات السيّارات في إرضاء أذواق الآكلين، فوضع بعضها ملعقةً آليَّةً أمام السائق تحمل الطعام له من الإناء إلى فمه دون أن يلوي عنقه أو يستعمل يده.

أمّا الذين يفضّلون البقاء في منازلهم لمشاهدة برامج التلفزيون أو مزاولة ألعاب الحاسوب، ولا يرغبون في تكليف أنفسهم مشقَّة الذهاب إلى المطعم، فما عليهم إلا مهاتفة مطعمهم المفضَّل، فتصلهم أكلاتُهم إلى منازلهم خلال دقائق معدودات. فالأطباقُ مُعدَّة سلفًا في مطبخ المطعم، وتسخينها بالمايكرويف لا يتطلَّب إلا بضع ثوان، ونقلُها من فرع المطبخ الأقرب إلى دارِكَ على دراجةٍ بخاريّةٍ فائقةِ السرعة، والطَّعام مُدثَّر بلحافٍ خاصٍّ يحفظ حرارته، لا يستغرق أكثر من دقائق. وسيوضع الطعام إلى جانبك لتتناوله، وأنت تستمتع بمشاهدة برنامجك التلفزيونيّ المفضَّل، ممدّدًا على كرسيّك الطويل المريح.

كنا نكبر بمرور السنوات، وتكبر معنا مداركنا. فصرنا نستوعب ما نسمع بصورة أفضل، ونحلِّل ما نرى من مظاهر وأحداث بصورةٍ أعمق، ونفهم. واستمرت الأخبار تصلنا عن وفرة الإنتاج وكثرة الطعام في جزيرة الرشاقة. سمعنا أنّ حكومتها تلقي سنويًّا بآلاف الأطنان من القمح والرز في البحر، وترمي آلاف القناطير من الزبدة والحليب في البحيرات، لتحافظ على ارتفاع الأسعار وأرباح المزارعين. وكان التصحُّر آنذاك يحاصر قريتنا، والجفاف يمتصّ النسغ من جذور نباتاتنا وأغصانها، فيحيلها هشيمًا تذروه الرياح. ويجوع الفقراء.

وأخذنا نشاهد أثر الرفاهيّة والترف على أهالي جزيرة الرشاقة الذين يفدون إلى بلدتنا. فقد أخذت أجسامهم تزداد طولاً وعرضًا وضخامةً وقوة. لا بُدَّ أنّهم يأكلون اللحم بكمياتٍ هائلةٍ، فتنمو عضلاتهم، وتمتلئ كروشهم، وتتضخّم أردافهم. وراحت حافلاتهم التي تقلّهم إلى بلدتنا توسِّع من مقاسات مقاعدها لتتَّسع لهم. وصرنا نراهم وقد أمسوا أقرب إلى الجاموس منهم إلى الأشخاص الطبيعيِّين، بسبب انتفاخ وجوههم وبطونهم، وترهُّل صدورهم، وتضخُّم أطرافهم. ولم نعد نسمّي جزيرتهم "جزيرة الرشاقة".

وبتضخّم أحجام الناس طولاً وعرضًا وثخنًا، تغيَّرتْ مقاسات الأشياء في الجزيرة. فأصبحت شركات الأثاث تصنع أسِرّةً أكبر حجمًا وأصلب عودًا، ومقاعدَ أوسع وأقدر على الاحتمال. وبعد أن كانت في الجزيرة بضعة محلات متخصِّصة بالملابس الكبيرة الأحجام، أصبحت هذه المحلات هي المعتادة. وأخذ البناءون يوسِّعون الأبواب ومساحات الغرف والممرّات والأدراج في العمارات.

وتضاءل وصول السيّاح من الجزيرة إلى بلدتنا. وسمعنا أنهم صاروا أبطأ حركة، وأعسر تنقلاً، بسبب ثقل أجسامهم، وأنهم صاروا يفضِّلون البقاء في منازلهم وتناول أكلاتهم الشهيّة. ولعلّهم لا يجدون ما يكفيهم من الطعام إذا خرجوا من جزيرتهم. بل أكثر من ذلك، تناهى إلى أسماعنا أنّ كثيرًا من أبناء الجزيرة يفضِّلون عدم الذهاب إلى العمل من أجل البقاء في بيوتهم ومواصلة التهام الطعام، قانعين بما يحصلون عليه من راتب الضمان الاجتماعيّ الجيِّد المخصَّص للعاطلين عن العمل. لقد أدمنوا على تناول الطعام حتّى صارت عادة الأكل جزءًا من طبيعتهم.

وأخذنا نسمع أخبارًا يصعب تصديقها. سمعنا، مثلاً، أنّ الشرطة في الجزيرة تضطر بين آونة وأخرى إلى خلع باب إحدى الغرف وتوسيعه أو إزالة السقف، لمساعدة رجل تعذّر عليه الخروج من الباب بعد أن أمضى شهورًا في مسكنه وهو يأكل ويأكل. وتواترت الأخبار عن مثل هذه الحالات حتّى أصبح الأمر لا يثير أيّة غرابة في الجزيرة. ولم تتوقّف نجدة المحاصرين (وهو المصطلح الذي أُطلق على الذين لا يستطيعون الخروج من مساكنهم من فرط السمنة) إلا بعد أن تضاءل عدد أفراد الشرطة الذين يمكنهم الدخول من الأبواب.

وتكاثر غياب العمّال عن مصانعهم، وازداد تغيُّب الموظفين عن مكاتبهم، ولجأت الإدارات إلى تمديد فترة تناول وجبة الغداء إلى ساعتيْن وثلاث ساعات بدلاً من الساعة الوحيدة المقرَّرة سابقًا، ترغيبًا للناس في العمل. واتّخذت معظم الشركات إجراءات تشجيعيّة متنوِّعة مثل زيادة فترات تناول القهوة أثناء العمل، فكلّ ساعة عمل تعقبها ساعة استراحة لتناول القهوة. ولم تعُد كلمة القهوة في الجزيرة تعني ذلك السائل المعروف، وإنّما جميع ما يرافقه من حلويات ومعجَّنات ومكسّرات ومقليّات ومشويّات، إلخ. وأصبح العمّال يأكلون ويأكلون ولا يعملون.

وبالرغم من جميع تلك المُغريات انخفض الإقبال على العمل، واضطر كثير من المؤسَّسات والمصانع إلى تقليل الإنتاج، وبعضها أغلق عددًا من الأقسام أو أوقف طائفةً من الخدمات، وبعضها الآخر أوصد أبوابه. ولم تجِد المنازل، التي هي في حاجة إلى ترميم، مَن يرمَّمها، ولا الآلاتُ المعطوبة مَن يُصلِحها. وتوقَّفتْ آلاف السيّارات عن السير في الشوارع، لأنّ أبوابها الضيقة لا تسمح بدخول أبناء الجزيرة فيها. وسرى الخراب في جميع أنحاء الجزيرة كما يسري الجرب في البدن، حتّى تصوّرنا أنها ستمسي بمرور الزمن شبيهة بأطلال تلك المدينة البابليّة القابعة بالقرب من بلدتنا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى