الأربعاء ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٣

جسر من الأشلاء

محمد مسلم –التاسع الأساسي

(1)

ألقى بآخر دلو من الاسمنت على " الصبّة " ، ثم أخذ يفرك راحتيه بقوة ، كانت الشمس وقتها قد شارفت على المغيب ، رفع رأسه المليء بالغبار واتجه بنظره نحو السماء ، ثم أخذ ورقة وقلماً من جيب بنطاله الأسود الممزق ، جلس على حجر بارز ودوّن على الورقة مبلغاً آخر ، هكذا يكون المبلغ قد اكتمل ، لقد استطاع توفير مبلغ جيد ، ما الذي سيفعله بهذا المبلغ ؟ ، هل سيبني غرفةً إضافيةً ثالثةً ؟ ، فقد ضاقت الغرفتان عليهم بعدما جاء المولود الثاني عشر ، أم سيصلح السقف الذي يدلف شتاءً ، وهل سيكون المبلغ أصلاً كافياً ؟.

وقف مستعداً للخروج من " الورشة " ، فقد قرر اليوم العودة ماشياً على قدميه ، وبخطوات متسارعة وبسير عجول ، مضى أبو العبد إلى منزله في المخيم ، ، لكنه توقف للحظة ، لقد تذكر أن ذلك الشاب ذا النظارات المربعة ، قد أبلغه أن برقيةً في انتظاره ، ما هي هذه البرقية يا ترى ؟ وممن ؟ ، ربما ستكون مبلغاً من المال مرسلاً من أحد الأقارب المجهولين ، ولكن من سيرسل له المال ؟ ، لا يوجد له أقارب أغنياء ، إذاً لا بد أن تكون من البلدية ، لا ، هل عادوا يطالبون بهدم البيت لشق شارع مكانه ؟ ، أو ربما تكون البرقية من طرف آخر ، ولكنها باتت مبعث شكٍّ في نفسه .

أطل أبو العبد من بعيد ، وبدأ يقتربُ من المنزل ، ذلك المنزل المسقوف " بالزينكـــو" المبني من الاسمنت السيء ، منظر هذا المنزل يبدو أقرب إلى حال المقبرة.
دخل المنزل ، وطرح السلام ، جلس على الكرسي الحديدي الصدئ ، ثم أخذ يتخيل نفسه يرتشف كأساً من الشاي ، كم كان يتمنى أن يشرب الشاي ، لكن لا شاي في المنزل ، الشيء الوحيد الموجود هو آخر سيجارة ، كان قد خبأها من أجل مثل هذا اليوم ، تناولها وهو ينظر إليها بعيونٍ خائفةٍ ، ثم تناول القداحة الموضوعة على الطاولة ، أشعل السيجارة وأخد مستمتعاً يسحب منها نفساً طويلاً .

عادت البرقية لتشوش فكره ، لقد وضعها تحت الوسادة ، وقف ، اتجه نحو الغرفة واحضرها ، بدت يداه مرتجفتين وهو يفتحها ، فإذا كانت من البلدية فأين سيذهب هو و أولاده في حال هدم المنزل .أكمل فتحها وبدأ يقرأ ، كانت البرقية من الضفة الغربية ، من ابن عمه زياد :-

" إلى ابن العم ( أبو العبد ) ، بعد السلام وبعد خالص التحيات ، وتمنياتي لك بوافر الصحة ، فإنني أبلغك هذا الخبر السيء ، ولتعلم أن الأعمار بيد الله ، فقد انتقلت والدتك (أم إياد) إلى رحمة الله ، ننتظر قدومك إلى المخيم وأعلم أننا سنؤخر الجنازة إلى حين قدومك ".
كانت البرقية قصيرة ، ولكنها كانت كافيةً لتبعث شيئاً من الصدمة في نفس أبي العبد ، لا بد أن هذه السفرة ستكلفه الشيء الكثير لكن لا بد من السفر ، و على الرغم من أنه يعلم أن الوضع هناك في المخيم سيء للغاية ، فلم يمض على انسحاب الجيش الاسرائيلي منها سوى يومين ، لكنها تبقى أمه ذات الثمانين عاماً ، فلا بد من السفر .

(2)

مجرّد أكوام من الحجارة ، كانت بوابة المخيم في الضفة الغربية ، أصيب أبو العبد بالذهول الشديد ، نزل من السيارة وراح يمشي في شوارع المخيم ، لقد نسي موقع المنزل ، أين هو ؟ ، أهو من هذا الشارع ، أم من ذاك ، كان متلهفاً ليرى أخاه وابن عمه ، فهو لم يرهما منذ أكثر من خمسة أعوام ، لكنه لم يجد أحدأً ، كان المخيم غارقاً بالدمار وكان هو غارقاً في حالة من الذهول . واصل مسيره ، الآن يستطيع أن يرى شخصاً يعرفه ، إنه ابن أبي رباح ، رباح تاجر الأقمشة الذي كان يتردد عليه بكثرة في مخيم الوحدات ، صرخ عليه من بعيد :
  رباح ، رباح .

وارتسمت على فمه ابتسامة صغيرة ٌ ، وأشار بيده إلى رباح كي يأتي ، ثم قال:
 كيف حالك يارباح ؟
 الحمد لله ، متى آتيت ؟
 آتيت ، لأن زياد أعلمني أن أمي قد توفيت.
تغيرت ملامح رباح ، وسادت على وجهه علامات التعجّب .
 الله يرحمها ، لكن لو سمحت ، فأنا مستعجل،.......
قاطعه أبو العبد :
 قبل أن تذهب ، هل لك أن تدلني على البيت ، بيت " الختيارة".
نظر رباح في كل الاتجاهات ، وقد أصابته حالةٌ من الحيرة ، ثم قال وهو يشير بيده إلى كومة من الحجارة :
 أترى تلك الكومة من الحجارة .
 أي واحدة.
 تلك التي يعلوها علم ممزق .
 نعم أراها .
 ذلك هو بيتكم .
ثم انسحب رباح بسرعةٍ خشية من ردة فعل أبي العبد ، بينما أصابت أبا العبد حالة من الذهول مرةً أخرى ، ولكنه حرك نظره في دائرةٍ واسعة ، فشاهد عشرات المنازل المدمّرة ، خرج صوته متقطعاً ليقول:
  الله بعين .

توجه نحو البيت المدمّر ، لم يتمكن من حبس دمعتين ، كانتا في عينيه ، ولكن أين أخوه ، وزوجة أخيه ، وابن عمه زياد ، أين هم ، ثم راح يسأل الناس عنهم ، كان بعضهم يقلّب شفتيه موحياً بأنه لا يعرف ، ونصحه البعض الآخر:
 توجه إلى سيارة الصليب الأحمر المصطفة هناك ، وأعطهم اسم من تريد .
كانت أعين الناس دائماً مليئةً بغموضٍ يثير في نفس أبي العبد شيئاً من الرعب . ولكنه في النهاية لم يجد بداً من التوجه نحو السيارة ، كان الموظف الموجود فيها أجنبي الملامح ، فكان أشقر الشعر ، أبيض البشرة ، وكان يلبس نظاراتٍ سوداء ، سارع أبو العبد إليه وسأله .
 السلام عليكم ، أرسلوني إليك.
 أهلاً وسهلاً .
 أبحث عن أفراد عائلتي ، فلم أجدهم في المخيم ، وأبلغوني أنهم قد يكونون في القرى المجاورة.
 ما أسماؤهم؟
 الوالدة أم أياد ، وأخي محمد ، وفاطمة زوجته ، وابن عمي زياد.
 اعطني الاسم الكامل ، بدون الكنية .
 الوالد اسمها : انتصار محمد علي ، وأخي محمد ......،
أتى صوت الموظف قاطعاً كلام أبي العبد أبي العبد .
 لقد وجدتهم .

وأشار إلى أربعة أسماءٍ متتاليةٍ في القوائم ، لم يفتح أبو العبد فمه بكلمةٍ واحدةٍ ، ثم أنزل الموظف نظارته السوداء عن عينيه ، كان يتطلع إلى كومةٍ من الأكياس البيضاء المتراكمة ، ثم وقف واتجه نحوها وتبعه أبو العبد صامتاً ، توقف الموظف عند ثلاثة أكياس بيضاء ، تنبعث منها رائحة كريهة ، إنها رائحة الموت ، وأشار بيده إليها ، انطلق صوت أبي العبد من الخلف لاهثاً خائفاً:

 ماذا ، ماذا ؟
  هذه جثامين أمك ، وأخيك ، وزوجة أخيك ، لقد عثرنا عليها متفحمةً تحت المنزل المدمّر .
 
تسمّرت ملامح أبي العبد ، طأطأ رأسه ، وللحظة توقف رأسه عن الحركة ، وتحرك حاجباه بطريقةٍ توحي أنه لم يستوعب الصدمة بعد ، وبعد لحظاتٍ من الصمت ، سقط جسده الثقيل محدثاً هزةً أشبه بالزلزال ، بدأ يستوعب ما حصل ، وانفجر بالبكاء ،كان بكاؤه غزيراً ولكنه لم يكن واضحاً ، كان الموظف ينظر إلى أبي العبد بطريقةٍ غير مريحةٍ ، وأتى صوته مخترقاً رأس أبي العبد :
- انتظر يا حج، هناك خبرٌ جيد .
لم يجبه أبو العبد ، ولكنه نظر إليه بطرف عينه ، كانت نظرته تسأل أأخطأ هذا الأشقر الأبله؟ ، و واصل الموظف كلامه:

 تفضل هذا وصل بالتعويضات ، حتى لا أنسى ، زوجة أخيك كانت حاملاً ، لقد حسبت الجنين في اللائحة.
ثم ابتسم ابتسامةً خبيثةً .
لم يعر أبو العبد كلام الموظف اهتماماً ، ثم وقف على الأرض ، وصرخ في وجه الموظف:
 اعطني قلماً وورقة.
نظر الموظف إلى أبي العبد ، ظنه قد جنّ ، بينما أتت كلمات أبي العبد حاسمةً مرةً أخرى:
 اعطني قلماً وورقة.
فأعطاه الموظف ما طلب وهو في حالةٍ من الدهشة ، كتب أبو العبد :
" إلى أم العبد ، المخيم في وضع ممتاز ، حالنا هنا سيكون أحسن من حالنا في مخيم الوحدات ، احضري الأولاد بسرعة " ثم سقط القلم من يده.

محمد مسلم –التاسع الأساسي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى