الثلاثاء ٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٩
بقلم حسني التهامي

مشهدية الهايكو

أملات في مشهدية الهايكو (باشو إنموذجا)

إن نصَ الهايكو لقطةٌ يعتمدُ الشاعرُ فيها على حواسِه بعيداً عن الوصفِ التجريديِ الغامض .وهذا النقلُ الحسيُ يتيحُ للقارئ إمكانيةَ التخيل والتأمل والتعمق فيما وراءَ المشهد، ذلك لأن نصَ الهايكو ذو أبعادٍ فلسفية تأمليةٍ عميقة، يبتعدُ عن المجاز الصريح الذي يذهب بالنص وجمالِ مشهديته. وهو مشهد يُصاغ بلغةٍ لا تكلفَ فيها تتسمُ بالبساطةِ والسهولة، ولا يعتمدُ الموسيقى الخارجيةَ التي تصرفُ القارئَ عن مكامنِ الدهشة الحقيقيةِ في النصِ، ومنها سحرُ الموسيقى الداخلية. يتكونُ الهايكو من مشهدين، أحدهما أماميٌ والآخرُ خلفيٌ، ويكونُ المشهد ُالأماميُ ليس - كما يقولُ بعضُ الباحثين - ديكوراً لزخرفةِ المشهدِ الأساسي (الخلفي/ الحدث) بل يأتي لإكمال صورة البهاء المشهدي في النص. فنص الهايكو نص مختزل ومكثف لا حشو فيه ولا زخرفة فل كلمة لها دلالة ومغزى داخل النص. وتأتي الصورة الكاملة في اللقطة من تفاعل المشهدين. ومن أمثلة ذلك هذان النصانِ لباشو:

بحيرة قديمة (مشهد أمامي)

"وضفدعة صغيرة

تقفز وترشرش الماء." (مشهد خلفي)

خريف مبكر: ( مشهد أمامي)

حقل الرز وماء المحيط

كلاها أصبحا

بلون أخضر. (مشهد خلفي)

وليس بالضرورةِ أن يكونَ المشهدُ الخلفيُ تالياً للأمامي، مع أن غالبيةَ النصوصِ التي كتبها شعراءُ الهايكو الياباني الذين أرسوا قواعدَ هذا الفن، كان المشهدُ الأمامي يتصدرُ اللقطة، و الخلفيُ قفلةً تحدث نوعاً من الدهشةُ المنبثقةُ عن المفارقة، وإحداثُ فجوة توترٍ شعري قادرة على التأثير في المتلقي، وهذه الفجوة هي سمةٌ شعريةٌ لا نكادُ نجدُها إلا في النصوصِ المبدعةِ القادرة على التحليق. لكنْ هناكَ نصوصٌ يكونُ المشهدُ الأمامي قفلة ً انسيابيةً سلسة :

"فتى معدم

يغادر رؤية القمر" (مشهد خلفي)

الى مطحنة الرز (مشهد أمامي)

"الشعراء مع أقداحهم

ينتظرون: الثلج" مشهد خلفي

لكي يروا لألأة الضوء (مشهد أمامي).

أعشاب الصيف

هي كل ما يتبقى (مشهد خلفي)

من أحلام الجندي. (مشهد أمامي)

وربما يحتضنُ (المشهد الخلفي/ الأساسٌ ) المشهدَ (الأماميَ/ الثانويَ) والمزخرفَ لخلفيةِ المشهدِ الخلفي ويأخذه بين ثناياه، فمثلاً يبدأُ النصُ بجزءٍ من المشهدِ الخلفي، ثم يجعلُ الهايكست المشهدَ الأماميَ المكملَ في ثنايا المشهدِ الخلفي، ثم يعودُ ثانية ليكملَ مشهديةَ النصِ الخلفية. ومثلُ هذه النصوصِ تحتاجُ إلى قارئٍ واعٍ يستطيعُ ربط َ خيوطِ المشهدين:

تنطلق "من قلب عود الصليب

الحلو"(مشهد أمامي )

نحلة ثملة. ( مشهد خلفي)

في النصِ يبدأُ المشهدُ الخلفي بالفعلِ المضارع "تنطلق" الذي ينقلُ آنيةَ المشهدِ المباشر ويبعثُ فيه الحيويةَ والحركة، وأتى الشاعر بالجملة الاعتراضية "من قلب عود الصليب الحلو" وهو المشهد الأمامي، بعدها استأنفَ المشهدَ الخلفيَ بقفلةَ مدهشةٍ "نحلة ثملة" . وكان بامكان الشاعر أن يصوغ المشهدُ الخلفيُ هكذا "تنطلق نحلة ثملة" والمشهدُ الأمامي " من قلب عود الصليب الحلو" لكنه آثرَ أن يُحركَ ذهنيةَ القارئ بهذه الحيلةِ الذكية.

هناك أيضا نصوصٌ أحادية المشهد، وهو "الخلفي" بالضرورة، لأنه يصورُ( اللقطةَ/ الحدث) دون زخرفة أو خلفيات مساعدة ودون تضمينٍ "للكيغو /الموسمية"، أو ذكرِ مكانِ الحدث أو تعليلِ حدوثه ، وبذلك يضعُ الهايكست قارِئَه في تفاعل مباشرٍ مع الحدث:

الأصدقاء الأبديون

هم إوز بري

ضائع في سحابه

شعر طويل

ووجه رقيق وأبيض

هو مطر حزيران. (مشهد خلفي).

ولنتأمل النصَ التالي لباشو الذي أرادَ أن تتماهى ألوان اللوحة بتكثيفِ ألوانِ فرشاتِه الإبداعيةِ فيزدادُ النصُ وهجاً وجمالاً من خلالِ مشهدين أماميينِ "في هذا الصباح الجديد" و "داخل ردائي الجديد"ومشهدٍ خلفيٍ وحيد" أحسستُ أن هناك شخصاً آخر جديداً."

فى هذا الصباح (مشهد أمامي)

"أحسست أن هناك شخصا آخر

جديدا" (مشهد خلفي)

داخل ردائي الجديد (مشهد أمامي).

حسني التهامي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى