الاثنين ١٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
إطْلالة نقدية على قصيدة النثر عند الشاعرة آمال عوّاد رضوان
بقلم إبراهيم سعد الدين

عُصْفُورَةُ النَّارْ .. ومُهْرَةُ الشِّعْرِ الأصِيلَة

شِعْر آمال عوّاد رضوان ليسَ كغيره من مألوفِ الشِّعْر.. لا لأنّ له طعماً خاصّاً ومذاقاً فريداً ونكهةً مُمَيَّزةً فحسْب.. بل أيضاً لأنه يحتاجُ قراءةً خاصّة.. فهو ليس ذلك النوعُ من الشعر الذي تقرؤه على عجل.. وتكتبُ عنه انطباعاتٍ سريعةً عابرة..وإنما ينبغي عليكَ أن تتهيَّأ لقراءته بكثيرٍ من الصبرِ والحَيْطةِ والحَذَرْ.. فهو أشبه بوردةٍ برّيّة لن تتمكن من استنشاقِ عبيرها دون أن تُدْمِي أصابعك بوخز أشواكها.. وهو أشبه بالعَسَل الجَبَليّ.. لن تشعرَ بحلاوته المُسْكرة في فمك دون أن تحتمل لدغات النحل..
ثم إنه يتطلبُ من قارئه مراساً ودَرَبَةً ومعايشةً واستئناساً..فلا تتعجّل الكتابة عنه بعد قراءته.. لأنه يحتاجُ منك قراءة ثانية وثالثة .. وفي كل مرة ستجد نفسك في حاجةٍ إلى معاودة النظر..والإطلال مرة أخرى على هذا العالم.. فكل قراءة جديدة قد تُقَرِّبُكَ منه خطوة لكنها بالتأكيد لن تُسْلِمَك مفاتيح هذا العالم المليء بالرموز والمجاهل والأسرار.

قصارى القول أنك إزاء هذا العالم ينبغي أن تَسْتَنْفرَ كُلََّ حواسِّك وتتسلَّحَ بكل ما يمكنك من نفاذ البصيرة وحدّة الإدراك وملكاتِ التذوق .. فالقصيدة هنا أشبه بمهرةٍ بَرِّيََّة جامحة.. لا يقدر على ترويضها واعتلاء صهوتها غير خَيّالٍ أصيلٍ متمرّسٍ بالخيْلِ والشعرِ معاً.

لا أدري لماذا يُذكِّرُني شعر آمال عوّاد رضوان ببواكير شاعرنا الكبير محمد عفيفي مطر.. في ديوانيه الأوّليْن: "من دفتر الصمت" و "ملامح من الوجه الأنبادوقليسي".. اللذيْن كانا أشبه بحجريْن هائليْن ألقيا ببحيرة الشعر التي شهدت فترة سكونٍ بعد الانقلاب الذي قاده الرُّوَّاد الأوائل لشعر التفعيلة نازك الملائكة وبدر شاكر السيَّاب وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم ـ فحَرَّكَا الماءَ الرَّاكدْ ورفداه بروافد جديدة.

هناك أوجه شَبَهٍ كثيرة بين العالَميْن؛ عالم محمد عفيفي مطر ـ في إرهاصاته البكر الأولى ـ وعالم آمال عوّاد رضوان في تجلّياته المعاصرة، ربما كان أبرز القواسم المشتركة بينهما هو عناية كل منهما بخَلْقِ العَالَمِ الشِّعْرِيِّ الخاص المشحون بطاقةٍ حَيَوِيَّةٍ هائلة كانشطار الذرَّة، المؤلَّف من جُذاذاتٍ من الصور المركبة والأخيلة الكثيفة واللغة التعبيرية في أقصى حالاتها إيحاءً ودلالة، والرَّمْزِ المُشعّ الذي يتوهّجُ داخل العمل الفنيّ فيُضْفي عليه بهاءً وسحْراً وألَقاً، دون أن يُفْصحَ عن مكنونه ويشي بأسراره.

قصيدة النثر عند آمال عوّاد رضوان هي عصفورة النار التي تُشعل في دمنا الحرائق وتلامِسُ مِنَّا منابع الحِسّ وتَخْمِشُ بمنقارها نخاع الأعظم، حين تحملنا على جناحيْن من لهبٍ إلى أقصى وأبعد مراقي الخيال، وتنبشُ بمخالبها الدقيقة في صخور اللغة بحثاً عن كنوزٍ وجواهر لم يسبقها إليها أحد.

آمال عوّاد رضوان هي مهرة الشعر الأصيلة التي تنطلق بنا في قفزاتٍ جامحة تنخلعُ لها قلوبنا أحياناً، وتُحتبسُ أنفاسنا خوفاً ودهشة ورَهباً، لكننا نظلُّ طوال الرحلة ـ مأسورين بخَدَرِ المغامرة ولذَّةِ الكَشْفِ، مأخوذين بسحْر المجهول الذي نرتاده، مبهورين برؤاه ومشاهده وكائناته الغريبة، مَسْلوبي الإرادة كصوفيّ أخذته سكرة الوجد وشفَّ وجدانه عن عالمٍ مليء بالرموز والإشارات والإيماءات الخاطفة مِثْلَ سماءٍ مُرَصَّعةٍ بالنجوم مُضَبَّبَةٍ بنُدفٍ من غيوم شفيفة.

لذا يَجيءُ شِعْرُها كشفاً جديداً مُتفرداً في جِدّتِهِ صادقاً في أصَالته، مُرَاوغاً في مُرَاودته للعقل والوجدان، يفِرُّ من فخاخنا كما تُفلتُ الغُزلانُ في خِفّة ورشاقة من قبضة الأسْر ، لكنه يُخلِّفُ في نفوسنا أثره العَميق وأسئلته المُعَلَّقة، فنعاود الرّكْضَ والطّرادَ دون كَلَلْ.

الفنََّ الأصيل كائنٌ حَيٌّ لا يَمْنَحُ نفسه بسهولة. وشعر آمال عوّاد رضوان كائن له ذاكرة وتاريخ، تشعرُ معه بالإمتاع والمؤانسة، لكنك لا تظفرُ بخباياه وأسراره قبل أن تعايشه وتنعقدُ بينكما أواصِرُ الألفة، ومع ذلك يبقى مُتأبيّاً على الاسْتيعابْ، مُسْتَعْصِياً على الترويض، لأنه قِطعةٌ مُقْتَطعَة من الحياة بكل تَدَفُّقها وعنفوانها وغموضها وسِحْرها الجميل.

تأمَّلْ معي هذه الدفقة الشعورية التي تصبُّ فيها شَوْقَ حبيبةٍ لمحبوبها ونزوعَها التّوّاقَ إلى اللِّقاء قصيدة "غيرة حبيبي" :

مِن خَلْفِ عتمَةِ اٌلحُلـُمِ اٌلمَحظور
تعودُ
مُطِلاًّ بِرِقِّ أقمارِك
تراقصُ وَجيبِيَ كلَّ مساء
 
ها أنت حبيبي تؤوبُ
لباحاتِ عَينـَيّ
تنسَكِبُ هالاتٍ مِن شلاّلاتِ ضياء
تُنيرُ مُحيطَ حُروفي
تجوبُني مُذنّباتُ الذِّكْرياتِ
وَتهيمُ بمَساراتِ أوراقي البيضاءْ
في مداراتِ القلبِ المُعَنّى بالشّوقِ
تتحالقُ ارتِعاشاتُ الكلماتِ
وبِمَدادِ الأحلامِ
تتناسلُ أجِنّـَةُ الآمالِ
تَتراقصُ شغَفًا
وترتقدُ بأرْحامِ اللِّقاءْ

تأمَّلْ معي في اختياراتها لبعضِ مفرداتها: تتحالَقُ، تنسكبُ، ترتقد..إلخ. المحاليق هي تلك الزوائد الطرفية التي تمدُّها النباتات المتسلقة لتلتفَّ حول الدعامات التي تتكئ عليها كي تتمكن من متابعة النموّ والتسلُّق .. ألمْ يكن بوسْع الشاعرة أن تستبدلَ هذه اللفظة بمُفردةٍ أخرى تؤدي نفس المعنى مثل: تتعانق.. تلتفّّ..؟! كان بمقدورها بالطبع، إن كان جلُّ عنايتها توصيل المعنى للقارئ فقط، لكن شاعرتنا تطمحُ إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، إنها تسعى إلى توليد الصورة التي هي أبلغُ وأقدرُ على التعبير من ألف كلمة، واستحضار هذه الصورة في مخايلنا بكلِّ ما تنطوي عليه من إيحاءات ودلالات. فأنت حين تقول إن جمعاً من الناس كان يُحيطُ بأحد الأشخاص، غير أن تقول إن هذا الجَمْعَ كان يتحلّقُ فلاناً أو بفلان. في قولك الأخير صيغة تشديد توحي بأنّ إحاطتهم به كانت أشبه بالحصار المفروض من حوله، فيها تصميمٌ وحميميَّةٌ وتشبُّثٌ أكثر.

الصورة الدالَّة الموحية هي ـ إذن ـ وحدة المعمار والبناء في هذا الشعر وليسَ التقرير والمباشرة. فالشاعرة لا تريدُ أن تُصادرَ على خيالنا بمقولاتٍ ونتائجَ جاهزةٍ ومُعَدَّةٍ سلفاً للاستهلاك، بل هي تتوارى خلف صورها وتتركنا نحن لنتأمَّل المشهد بكل حواسّنا ونُعيدُ خلقه من ذواتنا ورؤانا وخلفياتنا من الخبرة والثقافة والتذوّق.

ما الفرق بين شاعرة كهذه تلتزمُ الحيادَ ظاهريّاً وتتركُ للمتلقي حُريّة التصور والتخيل والانفعال، وبين شاعرٍ آخر يُحيطنا عِلْماً بآخر ما توصّلَ إليه من خلالِ رِتْلٍ من العبارات التقريرية التي لا تقوم بأكثر من توصيل المعنى والرؤية إلى القارئ..؟!

الفرق جوهريٌّ وواضحٌ للعيان. ففي شعر آمال عوّاد رضوان يتحوّلُ القارئ من مجرّدِ متلقٍّ سلبيٍّ ومُستهلكٍ فقط للعمل الفنيّ إلى مُشاركٍ إيجابيٍّ وفَعّال في التجربة وفي صياغة هذا العمل الذي يتحوّلُ من خلال كل قراءةٍ إلى كَمٍّ لا نهائيٍّ من الأعمال بعدد قرّائه وعدد قراءاتهم له. من هنا يكتسبُ العمل الفنيّ قدرة أكبر على التعبير والتأثير في نفس القارئ وتوصيل الرسالة إليه.

لكن الشاعرة آمال لا تقنعُ بذلك ولا تكتفي. فإذا كانت قد تخيَّرتْ الصورة الشعرية لتكون وحدة بناءٍ لقصيدتها، فالسؤال الذي نطرحه الآن على أنفسنا هو: أية صورة تقدمها لنا الشاعرة في شعرها..؟!

تأمّلْ معي ذلك السّيْل المنهمر من الصور وما تحمله من استعاراتٍ وكناياتٍ تثري بلاغتها ـ مع غيابٍ كاملٍ للتشبيه لأنه أقلّ الأساليب البلاغية تأثيراً : عتمة الحُلم، رقِّ الأقمار، باحات العينين، شلالات الضياء، مُحيط الحروف، مُذنبات الذكريات، مدارات القلب، ارتعاشات الكلمات، مداد الأحلام، أجنّة الآمال، أرحامُ اللقاءْ.
لاحظ المقابلة بين كُلٍّ من عتمة الحلم و مداد الأحلام وبين شلالات الضياء، لاحظْ أيضاً صلة النسب والقرابة بين كلٍّ من: الارتعاشات، الأجنة، الأرحام. ثم أنظرْ كيفَ أنَّ الشاعرة لا تكتفي بهذه الدلالات الذهنية فتشكل منها الصور الأكثر بلاغةً وتأثيراً: فهي عتمة الحلمِ المحظور، ورقُّ الأقمار التي تُطلُّ وتراقصُ وجيب قلبها المُعَنّى بالشوق، وارتعاشات الكلمات التي تتحالقُ بمدارات القلب، وأجنة الآمال التي تتناسلُ بمداد الحلمِ وتتراقصُ شغفاً بأرحام اللقاء. مستويات متعدِّد من التشكيل الصُّوَريّ تُكوّن جزئيات المشهد. والصور هنا تعبيرية في غير تجريد، تركيبية في غير تعقيد، لأننا نُعايشُ بأنفسنا تكاثفها مع بعضها البعض واستواءها خلْقاً جديداً.

تأمَّلْ معي الآن هذا المقطع القصير ـ الذي يخطفُ البصر مثل ومضة برْقٍ ويُلْهبُ الحِسَّ مثل قصفة رعْد ـ من نفس القصيدة

ما لونُ عينيْكَ الآنْ ؟
أتُراهَا بلَوْنِ النُّعَاسِ والاخْتِمارْ؟
أم تراها بلونِ الحزنِ والبهارْ؟

نحن هنا أمام شاعرةٍ تكتب الشعرَ بمخَيّلة شاعرْ وريشة رسّامٍ وإزميل نَحّات أو مَثّالْ.

لاحظ ذلك الارتباط الحسّي بين النعاس والاختمار، فاختمار العجين أو الطمي هو تحوّلٌ إلى الطراوة واللدانة وانبعاث الغازات فيما يشبه خدر النعاس والتثاؤب، وبين الحُزن والبهار فللحزن في القلب وخز موجع وألم ممض وظلٌّ قاتمٌ مُقبض، وللبهار لونٌ غامق وطعمٌ لاذعٌ حَرّيفْ . صلة قرابةٍ لا يمكن إدراكها إلاَّ بالحَدْسِ والملامسة الحسّيّة لأنها تقع خارجَ نطاق العقل الواعي . ثم لاحظ مستويات تشكيل الصورة من التركيب بالاستعارة والكناية إلى التكثيف ثم التجسيد ثم استواء الخلق وانبثاق المعنى والدلالة. فعلى مستوى أبسط من مستويات البلاغة يكون للعينين لون النعاس أو الاختمار وتظل الصورة بليغة مع ذلك، لكن الشاعرة لا تقصدُ الإبهارَ أو البهرجة وإنما تطمحُ إلى خلق العالم الشعْريّ المتكامل بذاته، الممتلئ بالمعنى والإيحاء والدلالة. فهي تزاوج بين لون النعاس والاختمار معاً، ثم بين لون الحُزنِ والبهار معاً، ثم تضفرُ من كل هذا جديلة واحدة تتماوجُ فيها كل درجاتِ هذه الألوان وتتضافرُ تأثيراتها الحِسّيّة في آن واحد، فتفعل فعلها في مخايلنا ومداركنا.

الصورة هي وحدة بناء القصيدة ومن مجموعة الصور يتألف المشهد ومن تجاور المشاهد وتشابكها مع بعضها البعض يتشكل العالم الشعريّ وتولد القصيدة. لقد تأمّلْنا بعض الوقت في الصورة، فدَعونا الآن نُنْعم النظر قليلاً في هذا المقطع ـ المشهد من قصيدة

" أنفض الغبارَ عن متحفِ فمِك"

دَعْني أتربَّعُ على عُروشِ الغَمامِ
عَبَثًا لَو حَاوَلْتَ اسْتِمْطَاري
حتَّى وإنْ رَمَتْني أَصابِعُ ريَاحِكَ
بِبرُوقِ ظَمَئِك

كلُّ مقطعٍ بالقصيدة يُشَكّلُ مشهداً قائماً بذاته ـ أشبه بـ "الإبيجراما" Epigram مع فارقٍ واحدٍ هو أنه لا يَحْمِلُ في ثناياه أية موعظة أو حكمة أو قول مأثور مثْل "الإبيجراما" فالشاعرة لا تقصدُ شيئاً من هذا، غاية ما تدْعونا إليه هو أن نشاطرها ما تجود به مُخَيّلتها من تصاوير وأخيلة حِسِّيَّة تتدَفَّقُ على وَعْيها كانهمارِ المطرِ وفيضانِ النّهْر، لكنها لا تُقَدِّمها إلينا في مادَّتها الخامْ، بل تُعيدُ صياغتها وتشذيبها وصَقْلها وتهذيبها لتصلَ إليْنا رائقةً مُصَفّاة لا تُبْهِرُنا وتثيرُ دَهْشتنا فَحَسْب، بل تتسَلّلُ إلى أحاسيسنا ببطءٍ وأناة لتُحْدثَ أثرها فينا. ولكن أيَّ أثر..؟!

الغريب حقّاً أنه رغمَ ذلكَ الخدر الناعم اللذيذ الذي يسري في حواسّنا، والنشوة الطاغية التي تسْتَحْوذُ علينا وتتملّكنا، ونحن نتلقّى هذه المُسْتويات المتعددة من التشكيل الصُّوَري ـ فإننا لا نَفْقِدُ وَعْيَنا بُرْهَةً واحدة بل نَظلُّ طيلة الوقت تحت ضَوْءٍ ساطِعٍ يُضيءُ بَصيرتنا ويَدُلُّنا على مسارب التجربة ومداخلها ويُفَسِّرُ لنا رموزها ومعطياتها، فالشاعرة تُخاطِبُ فينا العَقْلَ والحِسَّ معاً، وتُحَفّزَ منّا الفكر والوجدان في آنٍ واحد، وفي توازن دقيق يُثْري هذه التجربة ويعطيها طعمها المميّز ونكهتها الفريدة.

تأمّلْ معي هذه المفردات: غمام، استمطار، رياح، بروق، ظمأ، ولاحظ التجانس الاشتقاقي بينها، ثمَّ لاحظ الترابط العضوي بيْن جزئيات المشهد بما يَجْعله وحدة صوريّة مُتميّزة ومُتجانسة ومُسْتقلة، دون أن تنفصلَ أو تخرجَ عن السياقِ العام أو تفقد صلتها بغيرها من مقاطعِ أو مشاهد
القصيدة.

أجِيئُكَ
أُخبِّئُ لكَ تَحْتَ جَناحَيَّ
غِلالَ حُبِّي
فَهَيِّءْ .. سيِّدي
أجنحةَ عِنَاقِنا
أثِرْ أرياشَها
بنَسائِمي
لِيأخذَنا هفيفُها
إلَى دُوارٍ لَذِيذ

أتْرُكُ لكَ الآن هذا المقطع – المشهد من قصيدة "عصفورة النار" لتتأمّله وحدك ـ أيها القارئ الكريم ـ وتتذَوّقَ رحيقه ببطء، أما أنا فقد أخذتُ كفايتي من هذا الفنّ الجميل وقلتُ ما عندي، ولم يَتَبَقَّ لي سوى أن أختتم هذه الإطلالة النقديّة بكلمة موجزة عن قصيدة النّثر. فأنا لم أكن يوماً من المتشيِّعين أو المُنَظِّرين أو حتى من المتحمسين كثيراً لما يُسَمَّى بقصيدة النثر. ربّما لأننا من جيلٍ تشكّلَ ذوْقُه الفَنّيّ في ظلّ خلفيّةٍ ثقافيّةٍ خاصّة وظروفٍ مُغايرة. ورُبّما لذلك التناقض الظاهريّ في صياغة المُصْطَلح ـ قصيدة النثر ـ الذي يُزاوِجُ بين قُطْبَيْن ـ الشِّعْر والنّثر ـ لكلّ منهما سماته وخصائصه المُمَيّزة ووظيفته في فنون القول. وربّما لأن التّحَرُّرَ من الوزن والقافية أغرى البَعْضَ من ضِعَافِ الموهبة والثقافة لكيْ يُدْلوا بِدَلْوِهم في هذه التجربة، فقدّموا لنا نماذجَ شائهةً تُشْبه ـ في أفضلِ حالاتها ـ تَرْجَمةً رديئة لشِعْرٍ مكتوبٍ بلغَةٍ أخرى. وثمّة أسباب أخرى كثيرة لا يَتّسِعُ المقامُ لِذِكْرها ـ باعدتْ بيني وبين هذا اللّوْن من الكتابة وعمّقت الجفوةَ والقطيعةَ معها. غيْرَ أنّ الحقيقة التي لا سبيل إلى إنكارها، هي أن قصيدة النثر وصلتْ على أيدي رُوّادها في الغَرْب ومن سارَ على دَرْبهم ـ بودلير ورامبو وهنري ميشو وأندريه بريتون وبول إيلوار وغيْرهم ـ إلى مستوياتٍ عاليةٍ من الجودة والرّقِيّ، كما أن بعض كبار شعرائنا ومُحْدثيهم على السواء ـ قدموا لنا نماذجَ مُبْهرةٍ حَقّاً أسهمتْ في تأصيل هذه التجربة وَتَرْسيخها كحقيقةٍ واقعةٍ في حياتنا الأدبية. الأمر الذي يَفْرضُ علينا ضرورة التوقف أمام هذه الظاهرة بالرّصْد والتحليل ومحاولة الفهم والكشف عن مواطن الجمال فيها وتَدْريب الحِسّ على تذوّقها. هذا واجِبٌ تفرضه أخلاقيّات النّقْد ومُتطلّباته، فالإنكار أو التجاهل أو الوقوف موقف العداءِ دون فهْمٍ أو تَبَصُّرْ لن يوقفَ تيّارَ الحَداثةِ والتطوّر إن كان يحْمل في داخله بُذورَ ومُقَوِّمات وجوده وبقائه. غير أن السؤال الجدير بالطَّرْحِ في الختامِ هو: هل وصَلَتْ هذه التجربة إلى مُسْتوى من النُّضْجِ يجعلُ من قصيدة النّثْرِ جِنْساً أدَبِيّاً مُسْتقِلاًّ بذاته، أم أنها ما تَزالُ تُراوحُ موضعها كَضَرْبٍ من ضروبِ النّثْر الفَنّي الذي عرفه أدبنا العرَبي ووصل في كتابات رُوّاده إلى قِطَعٍ مُقتطعة من حدائقِ الإبداعْ..؟!.

هذا هو التّحَدّي الحقيقي الذي تواجهه قصيدة النثر اليوم، والذي أعتقدُ أن الزّمنَ وحده هو الكفيلُ بِحَسْمه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى