الاثنين ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٣

محمد شكري : ما الذي تبقى من مبدع طنجة

د. محمد عبيد الله ـ أستاذ الأدب العربي المساعد في جامعة فيلادلفيا الأردنية.

رحل محمد شكري أخيرا تحت وطأة مرض السرطان، المرض الذي فتك من قبل بكثير من الكتاب، من بينهم جان جينيه الذي صادقه شكري واقترب من عالمه، وكتب عنه مذكرات هامة بعنوان ( جان جينيه في طنجة )، وهذا الكتاب مثل أي كتاب آخر لشكري يكشف عن نوعية الحياة التي أقبل عليها وطبيعة البشر الذين اتصل بهم ....إنها حياة طنجة وعشاقها ومريديها، طنجة التي انتقل إليها من الريف المغربي قادما مع عائلته، لا يحمل إلا لغته البربرية ولا يعرف العربية أو حتى المغربية الدارجة.

ولد محمد شكري في الريف المغربي عام 1935، لكنه هاجر منه منذ طفولته، ويروي شكري في شهادة له هذه الهجرة فيقول: أنا ابن هجرة المجاعة الريفية التي حدثت في بداية الأربعينات، الذين هاجروا هربا من الجفاف القاتل ..لم يكن أحد من أسرتي يتكلم الدارجة المغربية، عندما غادرنا قريتنا في بني شكير لغتنا الوحيدة كانت هي الريفية داخل كوخنا وخارجه، عندما بلغنا طنجة كان عمري سبع سنوات ، كلما حاولت أن أسرق لحظة لعب مع أطفال الحي الذي سكنا فيه كانوا يطاردونني صارخين : امش بالريفي ...امش يا ولد الجوع.

ولد الجوع هذا كان محمد شكري، الذي جاء طنجة في سن السابعة، وإذ يطرده أطفال الحي لا يجد إلا الغجر والأندلسيين من المهمشين مثله ومثل أسرته يقول: لم أجد صعوبة كبيرة لكي يقبلوني في جماعتهم...هكذا تعلمت الكلمات الأولى بالإسبانية قبل أن أتعلمها بالدارجة المغربية، وكذلك علمني أطفال الغجر والأندلسيين كيف أرفع يدي كي أدافع عن نفسي، إذ ليس للأطفال إلا لغة اليد.

لكن محمد شكري لم يتوقف عند لغته البربرية التي كانت أمه تصر عليها وعلى استخدامها في البيت ( لأني ولدت في الريف وينبغي أن أحافظ على جذوري ) تعلم شكري الإسبانية والدارجة المغربية، ثم تعلم العربية الفصيحة متأخرا جدا في سن العشرين، وقد تعلم بسرعة فائقة كأنه يختصر الزمن ويعوض ما فاته تعلمها قراءة وكتابة، وكان قبل العشرين لا يعرف إلا لغة المشافهة..لم يدخل مدرسة قبل العشرين وكان يمكن أن يكون أو يظل لصا أميا لا يعرف إلا مداورة ضحاياه..لكن الكتابة ومغادرة الأمية المتأخرة نقلته إلى حال ومقام جديد هو ما يجعلنا نكتب عنه اليوم دون غيره من أرباب السوابق ممن يموتون كل يوم ولا يعرف بمصيرهم أحد.

قد تحتاج أمية شكري إلى مراجعة وهي مسألة مشكوك في أمرها عند من لا يصدقون أساطير الكتاب عن أنفسهم..وقد يكون إصرار شكري عليها لما تحمله الفكرة من جاذبية: الأمي الذي صار كاتبا.. هذا أكثر جاذبية من وضع عادي يكون قد نال فيه تعليما حسنا ساعده على ابتداء تجربة الكتابة، وقد تكون الأمية المزعومة جزءا من مهارة شكري الذي ينحدر من سلالة غريبة: رواة طنجة الذين جذبوا الكتاب الأجانب وباعوا لهم حكايات أكثرها مختلق لكنها تمتاز بالجاذبية والعناصر العجيبة الأخاذة.

رواة طنجة جددوا تقاليد قديمة للسرد الشفوي والمتاجرة بما يحمل الراوي من أخبار وحكايات، وهذه ظاهرة معروفة في التراث القديم، وكانت أحد أسباب الوضع والنحل، لأن الراوي بعد أن تنفد بضاعته يلجأ للاختلاق والتأليف كي يستمر العطاء وموارد المال، وهكذا تبدو تجربة شكري، بدأ ببيع حكاياته لبول بوولز ثم تحول إلى مبدع للحكايات بصرف النظر عن مصداقيتها من ناحية تحقيقية بحتة.

محمد شكري أشهر رواة طنجة ، لكنه ليس الوحيد ، هناك العربي العياشي ومحمد القطراني ومحمد المرابط ،لكن هؤلاء ليسوا كتابا بل مجرد مصادر شفوية يروون حكايات غريبة ويقبضون مالا شحيحا وفق مبدأ المقايضة السردية ، لكنه يتجلى هنا بالمعنى الحقيقي والواقعي وليس بالمعنى الرمزي ،ولقد نفذ محمد شكري من هذه الطبقة ليغدو مؤلفا وصاحب كتب وليس مجرد حكاء يختلق الأخبار لينال بعض النقود .

قصة الخبز الحافي

شكري إذن أحد رواة طنجة، وبهذه الصفة بدأت قصة الخبز الحافي، لم تكن مشروع كتاب مؤلف بالمعنى المعروف، وإنما هي رواية شفوية: قصص وحكايات وذكريات تفيض بها الذاكرة... تضخمها وتضيف إليها، ووفق رواية شكري نفسه فقد جاءت فكرة السيرة الروائية مصادفة عندما التقى بناشر إنجليزي اعتاد شراء حكايا رواة طنجة، ونشر بعضها قبل لقاء شكري، ولم يكن ( بيتر بين ) يبحث عن كتب بالمعنى الإبداعي وإنما كان يتصيد القصص الغريبة وكتب العجائب والجنس، وهاهو يقابل شكري للهدف نفسه بعد أن نشر من قبل: (حياة مليئة بالثقوب ) للعربي العياشي و ( الحب بحفنة من الشعر) لمحمد المرابط، وكلا الكتابين من تحرير وصياغة بول بوولز أملاها الاثنان مقابل النقود كأجر للراوي الشفوي.

ويبدو أن الفكرة راقت لشكري وهو الممتلئ بالحكايا من كل صنف، هو الأفضل ثقافة والأوضح طموحا من بين رواة طنجة، وادعى شكري أن سيرته ناجزة وتسلم مائة جنيه مقدما دون أن يكون لديه حرف واحد منها...وخلال شهرين كانت السيرة كاملة باسم: ليس بالخبز وحده، كما سماها بوولز، وأما كتابتها فتمت بطريقة غريبة، فشكري يقول بأنه ألفها بالعربية أولا، ثم أملاها بالإسبانية على بول بوولز وكتبها الأخير بالإنجليزية، وهي اللغة التي ظهر بها الكتاب أول مرة، ولا يعرف مصير النسخة التي زعم شكري أنه كتبها وترجمها لبوولز، إذ أن ما صدر بالعربية هو ترجمة محمد برادة للكتاب نفسه، ومعنى هذا أن أكثر من مؤلف ساهم في صياغة العمل وإعطائه الشكل الذي ظهر عليه، و فضيلة شكري أنه صاحب الحكايات والروايات قبل صياغتها وتشكيل السيرة منها بأقلام كتاب محترفين..

على أية حال احتاج محمد شكري لسنوات قبل أن يشتهر في العالم العربي، ورغم نشره المبكر لقصص قصيرة في مجلة الآداب، فلم يلفت أحدا بموهبته، بل إن تعليقات النقاد على ما ينشر في المجلة تشير الى تواضع تجربته، وتسامح سهيل إدريس في نشر قصصه غير الناضجة، وترتبط شهرة شكري والاهتمام به بصدور الخبز الحافي بالعربية والفرنسية والانجليزية التي تعد أول لغة ظهر بها الكتاب، والمفارقة أن يبدأ كاتب غير معروف حياته بسيرة ذاتية، وقد اعتاد القراء على أن السيرة تأتي لاحقا لتجربة طويلة، يقول شكري: كان مفهومي للسيرة أنها لا تكتب إلا بعد مجد أدبي وأنا لم يكن لي منه إلا بعض القصص التي نشرت في مجلات عربية و صحف مغربية، إنه رهان لم أرد أن أخسره مثل تحدياتي الأخرى: هجران أسرتي، تعلمي القراءة والكتابة متأخرا لأقرأ حياة الفنانين ومآسي العشاق ويوم قررت أن أصبح كاتبا بلا أجر.

اشتهر محمد شكري بسيرة الخبز الحافي، بالرغم من طبيعتها التأليفية الغريبة التي لا تجعله مؤلفا بالمعنى المعروف، ولا تنطوي السيرة على عناصر سردية غنية من ناحية الشكل فهي مكتوبة بأسلوب صحفي متسرع أقرب للكتابة الإشهارية أو الدعائية، ولكن المضمون الصادم هو الذي أسهم في خلق حالة الاهتمام الشديد بها، ورفعها إلى مستوى أشهر السير الاعترافية في العالم، بحيث تقارن باعترافات جان جاك روسو واعترافات القديس أوغسطين وهما من كتب السير القليلة التي اطلع عليها شكري وأعجب بها قبل ظهور سيرته، مع اختلاف شهرة شكري وأهميته عنهما، تلك الطبيعة الاعترافية هي السبب الأساسي في شهرة الكتاب والكاتب، بما يكشف عنه من عوالم غريبة وهجينة، تمتلئ بكائنات الليل ومكونات الحياة السرية، حيث عالم الهامش بما فيه من غنى وتنوع ودهشة. إنها نقيض ( التاريخ الرسمي المأجور ) بتعبير شكري، هذا التاريخ الذي ينفي حياة شكري وأمثاله من المهمشين " ولا يسمح أن يلوث بهم مجده الجليل الخالد ".

مناقضة هذا التاريخ الرسمي، والتحرش به، هي التي جعلت النقاد والقراء يقبلون على سيرة شكري، ويقلبونها على وجوهها، ويغفرون له مستواه السردي المتطامن، مقابل هذا الفيض من الاعتراف الذي يشبه نهرا جارفا من الفضائح والرذائل، يمكن لها أن تخدش الحياء العام الذي يدعيه الرسميون ويدافعون عنه..إنها مرة أخرى مسألة الحرية، وكسر التابو بأي ثمن، بعيدا عن أية موازين للموضوعية أو الحياء أو التوازن.

من التشرد إلى الوعي

كتب محمد شكري كتبا كثيرة غير ( الخبز الحافي ) من مثل: الشطار ( وهو جزء ثان من سيرته الروائية )، صدر أيضا باسم: زمن الأخطاء ( مكررا فيه أطرافا أخرى من السيرة ) ، التي تضم ذكريات شكري وعذاباته الشخصية ، ويشكل الجنس والفقر والتشرد العالم الأساسي فيها ، حياة الليل في طنجة وتطوان والعرائش ، الشخصيات التي عاش معها والتقاها ، الشذاذ وفتيات الليل ، الفنادق الرخيصة ، الشوارع الخلفية المعتمة ، وغير ذلك من عوالم هامشية ، كالمقاهي الفقيرة ، وساحات المدينة ، ومواخيرها الكثيرة ، وما هو مشترك في سير شكري أو سيرته التعبير عن العيب ، أو عن الفضيحة بلغة سهلة سلسة ، وبأسلوب مشوق بسبب كمية الاعتراف التي ينطوي عليها ، إنه يفاجئ قارئه بالكشف عن كل ما هو معيب دون مواربة أو خجل ، صدمة الالتقاء بالعيب والحرام وجها لوجه على صفحات كتاب جعلت لكتابة شكري لونا مختلفا في مجتمع أقرب إلى الانغلاق والتقليدية ، بالرغم من أنه مثل كل المجتمعات ينطوي على كل الأصناف والعيوب والعالم السري المخفي .

عبر محمد شكري عن عالم التشرد والصعلكة في قصصه أيضا: ( مجنون الورد ) 1979، و ( الخيمة ) 1985، فشخصيات هذه القصص مشتقة من مدينة طنجة غالبا، إنه وفي للعالم الذي أحبه أو نشأ فيه، وقد وثق كثيرا من مكوناته في سيره وفي قصصه، الأماكن المهمشة جمَلها ووقف مطولا عندها، في كتابة تحس بأن الكلمات تتنفس فيها، تشم روائح المدينة، وتتخيل تفاصيلها ومكوناتها في كلمات شكري، قطاع كامل من المتشردين بكل حيواتهم وطبائعهم، أفراحهم الصغيرة، وأحزانهم الكثيرة يشهدون على طبيعة الكتابة المختلفة، وربما لم يقرأ أكثر هؤلاء ما كتبه شكري، لكنه وثَق في كل حال عالمهم وصار شاهده الأبرز من بين من كتبوا عنه أو عرفوه من العرب أو الغربيين.

لكن هل ظل شكري راضيا عن مسيرة كتابته وحياته ؟ يلاحظ المتابع لرحلة شكري أنه بعد ( الخبز الحافي ) وأعماله الأولى بدأ يسعى لتجاوز أسطورته المتشردة، عبر محاولة تثقيفها، يظهر هذا من خلال استدراج مئات الشواهد والأقوال والاقتباسات للمفكرين والكتاب، وذكر أسماء كتب أو نصوص مختلفة تهدف إلى أن تكون شاهدا على المعرفة والثقافة بديلا عن دعوى الأمية التي افتتح بها سيرته.

وفي كتابه ( غواية الشحرور الأبيض ) ينشر شهادات وآراء نقدية، تسعى لتثبت ثقافة شكري، أو تشير إلى قراءة التجربة المتشردة بوعي معرفي وثقافي يستند إلى قراءات متنوعة متعددة المصادر والمرجعيات، ولكن كل الشواهد التي أوردها شكري تشير إلى ثقافة مختلطة غير منظمة بحيث يورد الشاهد ونقيضه في موضع واحد، ولا تشكل هذه الثقافة إلا صورة دفاعية عن أمية جميلة متشردة عبر عنها في مختلف مؤلفاته السردية.

يكشف ( غواية الشحرور الأبيض ) عن التحول الذي عبره شكري، وكما يقول محيي الدين اللاذقاني فقد " تحول شكري بالمعرفة إلى شحرور أبيض، وخرج من عالم البلطجية ، ولصوص الشوارع ، وبنات الهوى ، وأصحاب السوابق ، إلى عالم جديد نظيف ، وطموح ونبيل ، وهو يدرك أنه لا يستطيع أن يمد يد المساعدة لجميع من عاشرهم وعاش معهم في السوق الداخلي في طنجة، لكنه ومن خلال التجربة القاسية التي أجاد التعبير عنها يدل أصحابه القدامى ، وجميع الضائعين في كافة مدن العالم إلى طريق النجاة ، وإلى إمكانية الانتصار على قبح العالم بالمعرفة التي صنع منها الأجنحة التي ساعدته على الوصول إلى دنيا جديدة ومختلفة عما ألفه وعرفه في طفولته المعذبة " .

بهذا المعنى تكون الكتابة عند محمد شكري فعل تنوير وتطهير، فعل أجنحة وتحليق، برغم ما فيها من اعتراف وكشف عن جماليات القبح في طنجة وشوارعها السرية، ولياليها الباردة، ومن خلال الكتابة صار لشكري اسمه وموقعه، أما قبلها فهو مستتر مهمش لا شأن له، وكأنه قد تخلص من آثار عذاباته عبر كتابتها والتعبير عنها. عبر الاعتراف بها، كما هو فعل المرض النفسيين أمام الأطباء وجلساتهم الاعترافية.

لقد عاش محمد شكري لحظات صعبة في مختلف سنوات حياته قبل أن يشتهر أمره ككاتب مرموق ومشهور، وبالرغم من صدور روايته أو سيرته ( الخبز الحافي ) مبكرا بلغات غير العربية، إلا أنه لم يعرف ككاتب عربي معترف به إلا بعد ترجمة برادة للخبز الحافي.
عام 1977 كان محمد شكري يقضي أياما عصيبة في مستشفى الأمراض العقلية في تطوان، ومن هناك يتبادل عدة رسائل مع محمد برادة الذي يدين له شكري بأشياء كثيرة من بينها شهرته كروائي وكاتب عربي، في هذه الرسائل نجد حنو برادة وعطفه المضمر، وسعيه للارتفاع بشكري وإنقاذه من نفسه.. يخاطبه في إحدى الرسائل بـ ( الأخ العزيز شكري بيك ) ويبدي إعجابه بالفصل الذي قرأه من سيرة شكري، كما يقترح عليه حذف الكلمات المكتوبة بالريفية والاكتفاء بأن يقول: قال بالريفية ما معناه... برادة يعلم شكري بعض تفاصيل الكتابة، ويحاول أن يشد من أزره في محنته، وفي رده على برادة يفيض شكري بالاعتراف والألم ، لكنه يقرر على نحو حاسم " الإحساس بالكتابة بدأ يغزوني في هذا المارستان ، عندما أخرج من هنا سأحاول أن أغير حياتي " .

حاول شكري أن يغير حياته فعلا، بالاستغراق أكثر في الكتابة والثقافة، فكتب سيرا ومذكرات حميمة ممتلئة بالتفاصيل المؤثرة، عن كتاب زاروا طنجة وخصوصا: جان جينيه ، وتينسي وليامز ، وبول بوولز ، وقد عرف شكري الثلاثة وعاش معهم في العالم الذي يعرفه من طنجة الأسرار والمغامرة ، وقد شكلت هذه الكتب جانبا مهما من المراجع الخاصة بهؤلاء الكتاب ، وكتب ( وليم بوروز ) في مقدمة كتاب شكري عن جان جينيه " عندما قرأت مذكرات شكري رأيت جان جينيه وسمعته بوضوح ، كما لو أنني أشاهده في فيلم ، من أجل أن يحقق الواحد دقة من هذا النوع عن طريق سرد الأحداث وتسجيل ما قيل فيها ، على المرء أن يمتلك صفاء نادرا في الرؤية : أن شكري كاتب.

ومن الواضح أن شكري قد تأثر بجان جينيه أو التقى معه على أرضية سيرة مقاربة، فيها ماضي التشرد واللصوصية والشذوذ، ومن بين آراء جينيه عن الأدب العربي أنه أدب إقليمي غير عالمي لا يمس القضايا العالمية ، الأدب العربي فاصر على الشعور العربي ، وهو رأي تبناه شكري في قراءته لبعض النتاج العربي لاحقا،فيكتب عن نجيب محفوظ بوصفه الأشهر من بين الكتاب العرب ويرى بأن ( أولاد حارتنا ) لمحفوظ ستظل خاصة بنا نحن العرب ،رغم فلسفتها الكونية القائمة على البقاء للأقوى ...إن مفهومها وفق شكري لا يصلح إلا لتغييرنا نحن العرب، أهم عناصرها هو التخلف المادي والمعنوي، لهذا لا تستطيع أن تؤثر على الإنسان أينما كان وتمسه في مشاعره. وهذا التحليل لا يبتعد كثيرا عن رأي جينيه في إقليمية الأدب العربي وبعده عن العالمية، وهو رأي لا يعتمد على قراءة موسعة أو مدققة للأدب العربي وإنما يستند إلى أحكام عامة منثورة في بعض كلاسيكيات النقد الغربي والاستشراقي عن العالم العربي وآدابه.

ما الذي يتبقى من شكري

يصعب قراءة محمد شكري بعيدا عن حياته وسيرته وشخصيته المتسلطة على القارئ، ربما لأن المسافة ليست بعيدة بين الكاتب والمكتوب...العالم التخييلي ليس عالما مختلقا أو مؤلفا، عمل المخيلة عند شكري عمل استرجاعي، يسترجع ويراجع ويؤول، لكنه لا يختلق بالمعنى الإبداعي، قد يختلق حدثا أو تفصيلا هنا وهناك، لكنه لا يجاوز مرجعيته الواقعية ولا يخون طنجة، مصدر إلهامه وإبداعه.

ولذلك فإن التقنية الأثيرة عند شكري هي تقنية الانتقاء من الواقع، يقول شكري " تجنبا للحشو يغدو الانتقاء ضروريا في كل عمل إبداعي حقيقي، المطلوب من الروائي عندما يعيد خلق الواقع ألا يغتصب الحقائق من أجل التشويق الملهي، وإنما أن يكون موضوعه مصفى في ذهنه الخلاق.". .

هذا المفهوم ـ الانتقاء ـ مفهوم ينتمي للواقعية التي لم يغادرها محمد شكري، فظلت مدرسته الأثيرة في سائر كتاباته ونصوصه، وهو لا يجاوز الأبعاد الواقعية، والخيال الواقعي في كتابته، وهو خيال مهما يكن رحبا يظل محكوما بشروط المرجعية .
وإذا كانت مرجعيات شكري شديدة الوضوح في أدبه، فإن المرجعية وحدها لا تضمن خلود الأدب أو العمل الإبداعي، ولعل شكري لم يقرأ بعد قراءة خارج شروط المرجعية ـ السياقية، حتى يتبين لنا إلى أي حد تتوافر نصوصه على شروطها الجمالية والتقنية وحرفيتها السردية البحتة، بعيدا عن أية حماسة أو انتقاص تحت تأثير المرجعية وأبعادها التزيينية.

لقد توقف شكري منذ سنوات عن العطاء الإبداعي، ولم ينتج جديدا، مكتفيا بمقابلات يشترط فيها أجورا مرتفعة، ربما لينعم بالمال الذي حرم منه صغيرا وشابا، وبعض الآراء تذهب إلى أنه كتب ( الخبز الحافي ) ثم كرره أو نثره في كتبه السردية الأخرى، ولكن القراءة الكاملة لنتاجه لم تتم بعد.

ولعلنا محتاجون إلى مثل هذه القراءة، كي لا تطغى الشخصية المتصعلكة على العمل الإبداعي وتحميه من أي نقد. شكري كان حساسا شديد الانفعال من النقد، يخافه ويهاجمه ويحاول الفرار من أحكامه، لكن أعماله اليوم تبدو دون حراسة مشددة من شخصيته الطاغية، وهي الآن ملك للقراء المحترفين، وللنقاد من مختلف التيارات والمدارس، وهي أعمال مفتوحة على الاحتمالات والقراءات، وعلى النقد العربي أن يعيد قراءتها، ويضعها في الموضع الذي تستحقه.

لقد رحل شكري ( السبت 15/11/2003 ) بعد صراعه المرير مع الحياة، والفقر والعوز، وبما طهرته الكتابة من تشرده وعوزه ونقائصه، وربما ظلت حياته الأولى تطارده يوما بعد يوم، لكن من المؤكد أنه ترك لنا أعمالا مختلفة مميزة، لا تشبه أية كتابة أخرى في أدبنا العربي، سواء في لون السيرة الروائية التي تبدو أشبه بنوع أدبي يمزج بين الرواية والسيرة، أو في مقدرته الفذة على تسجيل المذكرات واليوميات، أو في قصصه القصيرة، أو في بعض الأعمال الروائية الخالصة كرواية ( السوق الداخلي ) التي حاول فيها أن ينجز عملا روائيا بالشروط الفنية للرواية المثقفة، ومع أن الرواية عن عالم الخبز الحافي نفسه، إلا أنها من الناحية الشكلية تعطي انطباعا بالوعي الشقي الذي ملأ نفس شكري، كي ينجز أعمالا رفيعة بالمعنى الجمالي، على شاكلة ما ينجزه غيره من الروائيين العالميين أو العرب.

وأخيرا نختم بما قاله شكري عن طنجة، المدينة الساحرة التي أرَخها وسجل نبضها في مختلف أعماله: " لو عشت في مدينة أو مدن مغربية أخرى ولم أعش في طنجة بكثافة لما كتبت ما كتبت ".

د. محمد عبيد الله ـ أستاذ الأدب العربي المساعد في جامعة فيلادلفيا الأردنية.

mmobaidd@yahoo.com


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى