الأربعاء ١ نيسان (أبريل) ٢٠٢٠
بقلم ميادة أنور الصعيدي

جماليّات التّأثير والتّلقّي في رواية «ملابس عسكريّة» لعصام أبو شندي

لقد اتّجهت الدّراسات النّقديّة الحديثة إلى جعل القارئ شريكًا أساسيًّا في العمليّة الأدبيّة، فقد أبرز فولفغانغ إيزر رؤيته بقوله: "ومن هنا يمكن أن نستخلص أنّ للعمل الأدبيّ قطبين، قد نسميهما: القطب الفنّي، والقطب الجماليّ، الأوّل هو نصّ المؤلّف، والثّاني هو التّحقّق الذي ينجزه القارئ ..." (إيزر، فولفغانغ: فعل القراءة، نظريّة جماليّة التّجاوب في الأدب، تر. حميد لحماني، الجلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل – فاس، مطبعة الأفق، 1994م، ص12)
ويتخذ النّاقد دور الوسيط بين القطبين من خلال الوقوف على بعض الظّواهر الجماليّة التّي تسهم بشكّلٍ فاعلٍ في إيقاظ وعي المتلقّي، وتسجيل أعلى مشاركة فاعلة له؛ لذا كان من الطّبيعي الاهتمام بموقع المتلقّي وأفق انتظاره، وبصيغ إدراكه للنّص وللعالم المحيط به؛ بحيث تفتح للمتلقّي آفاقًا رحبةً للمساهمة في بناء المعنى، وفي بناء الذّات القارئة. ( ينظر: طليمات، عبد العزيز: فعل القراءة بناء المعنى وبناء الذّات، نظريّة التّلقّي إشكالات وتطبيقات، منشورات كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة- الرباط، سلسلة ندوات ومنظرات رقم24، 1993م، ص166).

وتأسيسًا لما سبق فإنّ هذه الدّراسة تهتم بجماليّة عنصرين متفاعلين في رواية "ملابس عسكريّة" وهما: الأثر: أي وقع ذلك العمل ويحدّده النّص، والتّلقّي: ويحدّده المرسل إليه، "ويفترض الأثر نداءً أو إشعاعًا آتيًا من النّص، وكذا قابليّة المرسل إليه لتلقّي هذا النّداء أو الإشعاع الذّي يتملّكه..." ( ياوس، هانس روبيرت: جماليّة التّلقّي من أجل تأويل جديد للنّص الأدبي: تر. رشيد بنحدو، المجلس الأعلى للثّقافة- القاهرة، ط1، 2004م، ص124)
وتعدّ الرواية "أكثر نظم التمثيل الّلغوية قدرةً من حيث إمكاناتها في إعادة تشكيل المرجعيّات الواقعيّة والثقافيّة وإدراجها في السّياقات النّصّيّة، ومن حيث قدرتها على خلق عوالم متخيلة توهم المتلقي بأنها نظرة للعوالم الحقيقية ...غير أنّ تمثيلها المتنوّع الذي لا يخضع لمعايير ثابتة جعلها نوعًا سرديًّا حيًّا ... سواء أكانت مرجعيّات حقيقيّة كالوقائع والأحداث، أو ثقافيّة كالأنظمة الفكريّة والعقائديّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة"(إبراهيم، عبد الله: السرديّة العربيّة الحديثة، المركز الثّقافي العربيّ، الدار البيضاء- المغرب، ط1، 2003م، ص50)
إنّ القيمة الجماليّة للعمل الروائي تقف عند تجاوز أفق التّوقع للقارئ، وقلب الموازيين المتعارف عليها، فالقارئ ينسجم تمامًا مع كلّ جديد، يؤدي إلى تحفيزه باستمرار، يستفزّه ويجذبه للمتابعة؛ لذا فإنّ قمّة الالتقاء بين التّأثير والتّلقّي يؤكد على نجاح العمل الروائي.

إنّ دراسة " جماليّات التّأثير والتّلقّي " تتسم بالتّوسع والتّشعّب فهي تحتاج إلى وقفة متمعنة؛ للتّعرّف على تأثيراتها الفنّيّة والجماليّة داخل المتن الروائيّ، ولقد حاولت هذه الدراسة – قدر المستطاع-أن تقف على تجلّيّات "جماليّات التّأثير والتّلقّي" من خلال مستويات هي:

أوّلًا: مستوى العنوان والغلاف:

عكس الروائيّ عصام أبو شندي في رواية ملابس عسكريّة أحداث الواقع العربيّ خاصّة في بلاد الشّام والعراق، وخطر الأنظمة الإرهابيّة التّي ادّعت إقامة خلافة إسلاميّة حقّة عليها، وصوّر الواقع بآليّة فنّيّة جماليّة، نَحَى من خلالها منحىً مغايرًا، بل مغلّفًا بآليّات تجريب حديثة و فعّالة في معالجة القضايا التي تخصُّ المجتمع العربيّ عامّةً، والمجتمع الشّاميّ كجزءٍ منه.
لا يمكن المرور على عنوان الرواية دون التّفكر به، فهو المفتاح الرئيس لاقتحام مكنونات النص، واستكناه عوالمه، فمن البديهي أنّ لفظ اللّباس يأتي للتّعبير عن مواراة الجسم ووقايته من الظروف الخارجيّة، يقول تعالى:يٰبَنِىٓ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوٰرِى سَوْءٰتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوٰى ذٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذٰلِكَ مِنْ ءَايٰتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ "آل عمران26"، واللّباس يدلّ على مهنة خاصّة بصاحبه، إذن أغلب معانيه تشير إلى الخير والتّماسك والستر والراحة الجسديّة والنّفسيّة، وقد يُصاب القارئ بالذعر إن تبيّن له أنّ الرّواية قد قلبت الموازين وجاءت بخلاف كلّ هذه المعاني ، بل على النّقيض تمامًا، فالملابس العسكريّة التّي قدّمها أولئك العساكر لبطل الرواية " الشيخ زهدي" ما كان إلّا غاية في نفوسهم، " أوقفوني هناك وجعلوا مني أراجوزًا يسخرون منّه، موال غنائيّ داعر وشتائم وضحكات وبصاق وتأمّل لتفاصيل جسمي الذّكوري ومؤخرتي... وبدأ الضّابط في نزع إنسانيّتي وكرامتي ورجولتي منّي..." الرواية ص25-26.

وكون لفظ "عسكريّة " مضافة إلى ملابس، فهي تعني العزّ والمنعة والشّرف، ويقال "عسكرَ الجيش" أي تجمّع، فهي إذن تجمّع على رفعة الوطن وحمايته، والحقيقة أنّ تجمّع العناصر الإرهابيّة على طيلة أحداث الرواية لم يأت بخير للوطن ولا للمواطن، فقد كان لباسهم العسكريّ لباس الخزيّ والقتل والدناءة، وفي المقابل فقد كان ملبوس النساء العسكريّ يشير إلى امتهان الكرامة، واستلاب الشرف" لكن الملابس العسكريّة التّي ترتديها النسوة ليست كلّها جديدة وليست موحدة الشّكل ...أين أنت أيّتها الكرامة العربيّة عن هكذا منظر، منظر تحبس فيه الحرائر منكسرات!" الرواية ص38-39.

. إنّ انتقاء الروائيّ للوحة الغلاف لم يكن عبثًا، بل عمد إلى جذب انتباه القارئ من خلال لعبة فكّ الرموز والشيفرة، ذلك لأنّ "أفضل طريقة لتلقّي اللوحة الفنيّة، هي التّدرّج نحوها من مسافة تكفل للمشاهد التقاطها في كلّيّتها أوّلًا، وتشرّب أبعادها، والتّأكّد من حدود إطارها المنظم لشعث عناصرها..."(مونسي، حبيب: قراءة السرد القرآني النص والقارئ، مجلة الآداب والعلم الإنسانيّة، جامعة سيدي بلعباس، إبريل ع 30، 2004م، ص38).

فإن تمّ هذا القسط من المشهد للقارئ، فإنّ هذا مدعاةً للولوج إلى عالمها الخاصّ وفهم جزيئاتها التّي شكّلت الكلّ في وعي القارئ، ومن هنا فقد كُتب لأبي شندي التوفيق في اختياره لوحة الغلاف فقد جاءت بدلة العسكريّ فارغةً من داخلها، منتصبةً على أنقاض بيوت مهدّمة؛ ايحاءً بأنّ عناصر الأنظمة الإرهابيّة لا تمتلك أدنى معاني الإنسانيّة، ومجرّدةً من الوطنيّة، علاوة على أنّها تفتقر إلى مبادئ العقيدة الإسلاميّة.
إنّ حجم التّناقض الكبير والواضح من عنوان الرواية وغلافها يستقطب حواس المتلقّي، ويثير تناقضًا حادًّا بين حمولته المعرفيّة وبين ما يراه للوهلة الأولى على غلاف رواية "ملابس عسكريّة"، كما أنّ انحسار الظلّ وتكشّف الضّوء عن الأبنية المسحوقة، يوحي ببزوغ الأمل، وتجاوز المحن، وما يؤكّد ذلك تخلّي الإرهاب عن بدلة العزّ والشرف، وانحسار مبادئه الواهيّة.

ويجب التّنبُه إلى أنّ القارئ ينطلق من معايير مجتمعه السائدة، فبمجرّد تعطيل دلالة هذه المعايير أو تعرضها للتشويه، يثير في القارئ تعطّشًا للإجابة عن تساؤلاتٍ عدّة، تثيرها حواسه أوّلًا، وتضاعف شكوك حدْسه ثانيًّا، وتجعله في تأهبٍ مستمرٍّ؛ لمعرفة مسار الأحداث ومآلاتها.

ثانيًّا: مستوى رسم الشخصّيّات

تدور أحداث الرواية حول شخصيّة واحدة محوريّة وهي "الشيخ زهدي"، وباقي الشّخصيّات ثانويّة تساهم في تشكيل الأحداث فحسب.
الشيخ زهدي يبلغ من العمر سبعًا وعشرين سنة، له مطعم فلافل في بلدة الصفاوي شمال شرق الأردن، وخلال العشرين صفحةً الأولى، حملت الأحداث تفاصيل حياة " زهدي" التّي تتّسمُ بالفشل العام، فالنّحس رفيق حياته، جرّاء: إهمال الأهل، ومصاحبة رفقاء السوء، وتناول المخدّرات في سن المراهقة ومن ثمّ تعرضه للسجن، علاوة على الجهل والفقر، يقول زهدي:" جدّي عاش فاشلًا وورّث الفشل لأبي، ومن الطّبيعي أن أرثه أنا عنهما،... ما أتعسك وما أتعسني من بعدك يا جدّي!!... قال لي أنّه رآني خيالًا أسود بين خيالين، أحدهما رمادي والآخر قمري اللون وأنا بينهما نسير في بعد سرمديّ... نعم حظّي التّعس هو الذي جعلني أغدو حفيد ذاك الرجل...." الرواية ص6" ومن المثير أنّ رؤية جدّه هذه تبقى نذير الشؤم لزهدي طيلة أحداث الرواية، ومن الطّبيعي أن تثير هذه الرؤية المتلقّي وتجذبه لمتابعة الأحداث، واستجلاء مدى تحقّقها، خاصّة أنّ المتلقّي أمام شخصيّةٍ متناقضة تحمل أقصى درجات السوء والدناءة، مع مخالفة لقب الشّخصيّة لمواصفاتها، فكيف يكون شيخًا زاهدًا ويحمل كلّ هذه الدناءة في الأخلاق والطّباع في الوقت نفسه؟! ويبدو أنّ الروائي عمد منذ البداية على إثارة متلقّيه واستفزازهم، فعلى الرغم من أنّ الشيخ زهدي يقول: "صديقي أمين لا يبعد عنّي بالشكّل، وأقصد بالشكل المظهر الخارجيّ، ...فكانت صحبتنا صحبة مشايخ نعتمر الثياب القصيرة ونطيل لحانا ونضع الطواقي البيضاء على رؤوسنا، ونحضر دروس تحفيظ القرآن والأحاديث ..." الرواية ص9، إلّا أنّه كان متقلّبًا بين أعمال الفجور والتّقوى، فبعد حضور دروس التّقوى في المسجد يعود لمراقبة مكامن اللّذة في جسد حوّاء "فساعة الإيمان تلك ساعة لها طقوسها، وساعة اللذة ومتعة العين لها طقوسها أيضًا" الرواية ص11.

إنّ هذا الاستفزاز للمتلقّي المصاحب للنّفور من طبيعة الشّخصيّة الرئيسة يُستبدل تدريجيًّا خلال الأحداث التالية، خاصّة بعد مرحلة التيه التّي وقع فيها زهدي مع أصحابه بعد رجوعهم من رحلة الصيد في وادي راجل الواقع على الحدود بين الأردن وسوريا، ومن ثمّ مقتل صديقه" أمين" على يد مليشيات النّظام السوري، وجرّهم لزهدي وتعرّضه للأذى النّفسيّ والجسديّ، مع قلقه الدّائم من تحقّق رؤية الشؤم تلك، وكيف أنّه تحوّل لقائد للإمارة الجنوبيّة بعد تحذيره للأمير الإدلبيّ أبي البراء من غدر الأمير أبي المنذر الموصليّ ومجموعة من الضّبّاط له، يقول:" إذن فها أنا ذا أغدو جنرالا في جيش الأمير أبي البراء الإدلبيّ برتبة عميد ونائبًا للقائد العام للجيش، وهي مرحلة جديدة من الحياة لا أدري هل ستحملني إلى مدارج العلا أم ستهوي بي إلى قاعٍ مظلم ..." الرواية ص93.

لكن كان لا بدّ من أن تعود الذّكريات المؤلمة تنهش في صدره كما ينهش الدود في الطين، يحاول أن ينسى ماضيه" زهدي الخادم" ليتحوّل إلى " الجنرال زهدي" الشخصيّة العسكريّة المهيبة الجانب، وفي نهاية المطاف يقول:" وها أناذا أفلح في التّخفّي بأسمالي التّي أعود فيها إلى طبيعتي التي لم أكد أنساها حتى الآن بعد مرور هذه الشهور عليّ وأنا أرتدي ثوب الجنرال المهيب ثمّ الأمير الذي يأمر وينهى، أتخفى بأسمالي ويجهل الناس بي ..." الرواية ص135.
إنّ هذا التّحوّل في حياة شخصٍ جاهل ضعيف إلى شخصٍ منكسر ومهزوم ومن ثمّ إلى شخص مسؤول برتبةٍ مهيبة ينطوي تحته العديد من الأحداث المثيرة والمتأزمة كساعة اختطافه من قبل الجنود، وقد تكون أحداثًا تثير الشفقة كحاله عندما ألقي في حظيرة الغنم المليئة بالرّوث، أو أحداثًا تثير التّهكّم الممزوج بروح الفكاهة؛ بغية التّنفيس عن القارئ، خاصّة حينما يتذكّر الشيخ زهدي تلك الرؤية الشؤم التّي رآها جدّه وإن كان الموقف في صالحه أحيانًا، ورغم هذا إلّا أنّ الحدث الأهم والمؤلم الذي يرسخ في ذهن المتلقّي، ويمزّق وجدانه هو حال بلاد الشّام والعراق وما آلت إليه، بالإضافة إلى فهم الدين الإسلاميّ بطريقةٍ خاطئة من قبل هذه الأنظمة والمليشيات.

ثالثًا: مستوى تصوير الأحداث:

يومئُ التّصوير الفنيّ للأحداث إلى إطلالةٍ أشبه بالظّلِّ الفكريّ للروائيّ، وإلى أعلى مراتب التّناقض الشّعوريّ لبطل الرواية، ويتجلّى ذلك بوضوح في رسم الروائيّ لشخصيّة متناقضة تمامًا مع أفعالها، تبدي خلاف ما تبطن، وقد يتخيّر عصام أبو شندي لحظات السُّكون الكونيّ؛ ليصوّر غليان نفس بطله، وقد ينتقي ساعة الوداعة والدّعة التي يتمتّع بها بطل الرواية؛ ليصوّر ساعات النّحس وهدير طائرات عدوّه، فمثلًا يقول" إنها معزوفة جهنمية تصدح بها هذه المكونات الحديدية التي تطير فوق رؤوسنا في ساعات النحس هذه، لتخرجنا من أوقات الدعة والهدوء وتعيدنا إلى أجواء اصطكاك الحديد وقرعه في المعارك العنيفة..." الرواية ص123 ،وقد قالها " زهدي" بعد ليلة دعةٍ بين جواريه في القصر.

وهذا الاستفزاز للقارئ ونقله من حالة إلى حالة؛ ليصوّر تلك الحياة المضطربة للإرهاب والإرهابيين، ممّا يثير في نفسه حالة من الاشمئزاز والبغض لأفعال هؤلاء.

لقد أشرك الروائيّ حواس المتلقّي من خلال توظيفه للألوان والروائح والأصوات في تصميم صورة حسّيّة بالدرجة الأولى؛ لتكون أسرع تأثيرًا وأشدّ نفورًا، يقول البطل وهو مصلوب: "واحر قلباه مما أنا فيه من امتهان .. شواظ من ضوء ونار ترقى من الأسفل إلى الأعلى في أفق السماء السوداء، ليس شواظا بل ألسنة من لهب تفعل الفعل ذاته، فقد صرت أبصر سواد الليل خطوطا حمرا وبرتقالية صاعدة وهابطة وكأنها ترسم لوحه جهنمية، وكأنها غطاء لهذا المعتقل الذي أنا فيه، وكأنني في قفص لعين، أحاول أن أرفع رأسي فيه فلا أقدر ولا أجد لذاك سبيلا" الرواية ص23، هذه صورة حسيّة ترتكز على حاسة البصر، كناية عن شدّة التّعذيب في المعتقل، ويبدو أنّ هذه الصورة اللونيّة الحسّيّة لا تفتأ تترك المتلقّي إلّا أن تصيبه بحالة من التيه أو الذعر من المجهول، يقول:" في ليلة من الليالي رأيت فيما يرى النائم، ثلاثة خيالات ... تسبح في عالم سرمدي السواد، وبالرغم من شدة العتمة وشدة السواد إلا أنني استطعت تمييز ألوانها، أحدها لونه كان برتقاليا والآخر كان رماديا والثالث كان أسود" الرواية ص54.

لقد كانت ضبابيّة الأحداث والجهل بمآلاتها مرافقًا للمتلقّي طيلة الرواية ودليل ذلك توظيف الروائيّ لألوان الغوامق في رسم صورة بطله وأحواله، فقد ورد اللّون" الأسود " وما دلّ عليه" 284 مرّةً، واللّون "الأحمر" وما دلّ عليه 74 مرّةً، واللّون" البرتقاليّ" 27 مرّةً، واللّون "الرّماديّ" 23 مرّةً، كلّ ذلك كفيلٌ بأن يجعل المتلقّي يسعى جاهدًا لكشف ستر هذا المجهول؛ متمعنًا في الكيفيّة التي أراد بها الروائيّ قشع ليل البطل السرمديّ، إذن فالقارئ بين صورتين: صورة واضحة تكشف عن حجم مأساة البطل ومحاولة تجاوزه لهذه المأساة، وصورة غامضة لما تؤول إليه الأحداث، وهذه الصّورة القائمة على التّنافر بين ما هو قائم بين يدي القارئ وبين ما هو آتي في آنٍ واحدٍ، تُثيرُ إدهاش المتلقّي وتأملاته، فتجعله يقوم بعمليَّاتٍ من الَّتداعي والَّربط؛ لإدراك بنية الرواية الكليّة ودلالاتها المتراميَّة التّي تكمّل جماليّتها، حينها يُحاولُ جاهدًا صعودًا وهبوطًا أن يتوصّل إليها، فإذا أدركها فإنّها تنعكسُ على موقفه ورؤيته للواقع؛ لذا فقد كان الروائيّ خبيرًا بتشكيلِ صورِه، بحيث كان قادرًا على تصوّر صفوة معارف المتلقّين من زوايا متفرّدة؛ بغية إدهاشهم بتقنيَّات سرده، وتعزيز القيم الإنسانيّة والعقائديّة الأصيلة، من خلال جذب متلقّيه لإقامة علاقاتٍ فريدةً، تتخلّلُ بنية الأحداث، وهي علاقات الاستجابة والتنافر والتعاطف بين الذَّات الإنسانيَّة وما حولها .
ومن الصّور الحسّيّة السّمعيّة التّي جعلت القارئ يقضم أظفاره من شدّة التّوتر هي صور وجبات التّعذيب للسجناء في المعتقل، يقول زهدي:" ونعق الناعق أن يا زهدي تهيأ !! وليته لم ينعق ولم يناد، ولكن هيهات فقد نادى وانقضى الأمر، وما عاد يفصلني عن الدخول في وجبة التعذيب إلا ثوان معدودة..." الرواية ص 66.

لقد عمد الروائي إلى التّصوير الحسّيّ بغية توليد المعنى وإتاحة مستويات متعددة للتأويل، وتشكل قوة ضاغطة على حواس المتلقي تحفزه على القراءة، ومن ثمّ اتّخاذ قرار اتّجاه الظروف التّي تعيشها البلاد العربية في الوقت الراهن، تجنبًا سلبيّات الماضي العقيم.
إنّ فهم الروائي الواعي للأحداث التّاريخيّة، وتملّكه لأدواته السرديّة، قد أسهم في إخراج تجربة روائيّة جماليّة جديدة، ذلك لمعرفته بأنّ متلقّيه ليس منعزلا عن الفضاء الاجتماعيّ والتّاريخيّ، ولا يمكن تحويله إلى مجرد كائن يقرأ، فهو بواسطة التّجربة التي توفرها له الرواية ساهم في سيرورة التّواصل، ويتوقف ذلك على مدى معرفته وانخراطه بأحداث الشرق الأوسط والربيع العربيّ،" وهذا الفهم القبلي يحتوي على التوقعات الفعلية المطابقة لأفق مصالح القارئ ورغباته وحاجاته وتجاربه كما يحددها المجتمع والطبقة التي ينتمي إليها وكما يحددها أيضًا تاريخه الشخصيّ..." (ياوس، هانس روبيرت: جماليّة التّلقّي من أجل تأويل جديد للنّص الأدبي: "مرجع سابق"، ص 135-136).

رابعًا: أفق التّوقّع أو الانتظار

يتوقف أفق التوقع على الحالة الذّهنية وواقع الحياة، إذ لا يمكن للقارئ إنطاق نصٍّ ما أي تفعيل معناه الكامن إلا بقدر ما يندرج فهمه للعالم والحياة، وأفق التّوقّع يعني تجاوز النّصّ لمجموعة المعايير التي يحملها المتلقي من خلال تجاربه السابقة، وتسمّى اللّحظة التي يتعرض فيها القارئ إلى تجاوز "هي لحظة الخيبة حيث يخيب ظنّه في مطابقة معاييره السابقة مع المعايير التي ينطوي عليها العمل الجديد "(خضر، ناظم عودة: الأصول المعرفيّة لنظريّة التّلّقي، دار الشروق، عمّان- الأردن، ط1، 1997م، ص140).
وكلّما كان أثر العمل الروائيّ مخيّب لأفق توقّعات المتلقّي كان التّأثير أقوى؛ لأنّ الجمال وليد المفاجأة والخرق لسنن المتلقّي المألوفة، ومن هنا فإنّ المقياس الجمالي هو تحديد درجة " ردود أفعال القرّاء تجاه الأعمال الجديدة التي يواجهونها، فتحدث لدى المتلقّي توافقًا أو تعارضًا ينبعان من ارتياحه للعمل أو نفوره منه "(العطوي، عبد الله بن عودة: تلقّي المعلّقات دراسة في الاستقبال التّعاقبي، عالم الكتب الحديث- الأردن، 2013م، د.ط، ص49).
لقد سعى أبو شندي بقدرٍ كبيرٍ إلى إدماج أفق معايير المتلقّي: ثقافيّة واجتماعيّة ودينيّة وسياسيّة وتاريخيّة بأفق نصّه الروائيّ، بغية امتاع المتلقّي في تحقيق توقعاته المستجاب لها في سياق الأحداث، والالتحام -بشكل عفويّ- بفائض التجربة التي يحملها النّصّ الروائيّ، ولم يفت الروائيّ أنّ عمله ليس تسجيلا وثائقيًّا، أو أنّه تكرارٌ رتيبٌ لأحداث الواقع؛ ذلك لأنّ تكرارها من شأنه أن يحدّد ردود الفعل لدى القارئ، أو ينفّره من متابعة القراءة... "ينظر: عروي، محمد إقبال: مفاهيم هيكليّة في نظريّة التّلقّي، مجلة عالم الفكر، المجلّد37، المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب- الكويت، 3/ مارس، 2009م، ص54).
يرى "ياوس" أنّ قيمة العمل الأدبي مرتبطة "بدرجة انزياحه الجمالي عن أفق الانتظار المعهود، أي بمقدار تعطيله للتجربة السابقة وتجاوزه لها، وتحريره للوعي بتأسيس إمكانات جديدة للرؤية والتجربة ".( وهّاب، خالد: جماليّة التّلقّي والتّأثر في ثلاثيّة أحلام مستغانمي" أطروحة دكتوراة"، جامعة محمد بوضياف بالمسيلة، 2016م، ص57).

والحقيقة أنّ أبا شندي كان قاصدَ الاصطدام بمحمولات المتلقّي الفكريّة، وفي تخييب أفق انتظاره، من خلال التّلاعبات المنطقيّة في سياق الأحداث، ومن ذلك الأحداث المرافقة لوضع " زهدي" مع العجوز "عبد الرازق" في سجن منعزل ، فقد استنزف الروائيّ جمّ عواطف بطله ومتلقيه اتّجاه هذا العجوز، الذي سجن لأكثر من ستّ وثلاثين سنةً، قضى معظمها في سجنٍ انفراديّ؛ ليكتشف القارئ أنّه خدع مسافة ستّ صفحات متتالية، ذلك لأنّ العجوز حاول قتل " زهدي" بالضغط النّفسيّ البطيء، في حين يباغت الروائيّ متلقّيه بأنّ القاتل " زهدي" والمقتول" العجوز"؛ خوفًا من تحقّق رؤية جدّه اللّعينة . الرواية ص66 – 72.

وقد يلجأ الروائي إلى التّلاعبات الفكريّة التّي يشعر بها المتلقّي بعد الانتهاء من قراءة الرواية، فتراه يبتسم ويعرف أنّه كان ضحيّة هذه التّلاعبات، فيبقى يتفكّر مآلات الأحداث، ويتيقّن من عثراته التّي أردته مسلوب الفكر والوجدان حينها، ذلك لأنّ شخصيّة جاهلة وجبانة كـ " زهدي" كيف يمكن أن تصبح " جنرالا ثمّ أميرًا "؟! بل ويعود إلى نفس الحدود التّي كُتب له أن يتيه وأصحابه فيها!! وكيف استطاع أن يقضي على أميري إدلب والموصل في وقت قياسيّ؟! وأن يضع يده على الإمارة ... وكيف بهذه السهولة يبايعه الضّباط وبقيّة أمراء المناطق على السمع والطّاعة؟! هنا يحين الاعتراف بتداخل شخصيّة الروائيّ مع شخصيّة بطله " زهدي"، خاصّة عند وصف الأماكن، وتعداد رتب الضّباط، وتوضيح مكائدهم، والتّفصيل في تقاليد الإمارة وغيرها...، ومثال ذلك قول " زهدي":" يا لعقلي المرهق كيف تفتق عن هذه الفكرة السرابية المقنعة، يا لخبثي ودهائي ! أجزم أن كلامي فعل فعله في هذا الأبله ولا أظنه سيرفض عرضا من مساعد أمير من أمراء الحرب في هذه الديار ! تركت العسكري يأخذ فرصته في التفكير على أن يوافيني برده..." الرواية ص69، جاء قول " زهدي" هذا بعد عرضه على أحد العساكر بأن يساعده في الهرب مقابل صندوق محشي بالذهب..؛ لذا فإنّ هذا التّماهي بين الروائيّ وبطل روايته هو ما أكسب البنية السرديّة نكهة جماليّة مميّزة تجذب المتلقّي، فيغدو طرفًا له حضوره المميّز، محاولًا الإمساك بين البنيتين العميقة السّطحيّة للسرد، واستكناه دلالاتهما الفنيّة والجماليّة.
إنّ الروائي لا يتوانى في فتح مساحات للحوار بينه وبين القارئ؛ ليستدرجه في البحث عن ملء الفراغات وكسر أفق التّوقّع؛ لزيادة فاعليّة التّواصل بينهما، وهذه المساحات تسمّى بالفجوات النّصّية وتعرف بـ" تفاوت في مقدار المعلومات بين المتكلّم والمخاطب، أو بين المبدع والمتلقّي، بحيث ... ينتج هذا التّفاوت ثغرة معرفيّة بين الطّرفين، ... لتأدية الوظيفة التواصليّة للّغة" ( البريكي، فاطمة: مدخل إلى الأدب التّفاعلي، المركز الثّقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب، ط1، 2006م، ص153).

والفجوات النّصّيّة تأخذ أشكالًا عدّة: كالحذف، والإضافة، والتّعديل، وغير ذلك، وسيتم التّركيز على الحذف هنا؛ لاستجلاء مهمّة القارئ الفاعل في ملء هذه الفجوات المحذوفة من خلال معاييره السّابقة، ومسار الأحداث، ومن الطبيعي أن يلحظ القارئ النّاقد الوعي الكتابي للروائي الذي يقف وراء ما تخفيه الفجوات النّصّيّة من قيم معرفيّة، متجاوزًا مفهومها كممارسة إنشائيّة، ذلك لأنّ النّصّ الروائيّ لا يصرّح بكلّ شيء للقارئ، ولا يستطيع القارئ ملء الفراغات كلّها إلّا إن كان قارئًا مثاليًّا، يستطيع إدراك خفايا السرد وباطن الأحداث انطلاقًا من قدرات خاصّة تتمثّل في توافر الكفاءات الثّقافيّة المختلفة التّي تمكنّه من كشف أغوار النّص السرديّ، وهذا ما أكّد عليه إيزر غير مرّة في كتابه فعل القراءة.
ويغلب الحذف في الحوار بوضع نقاط، وكذلك أثناء المونولوج الدّاخلي للشّخصيّة الرئيسة، وفيها يتم مراجعة ما مرّ به من أحداث، فيصمت عن بعضها؛ بغية إشراك المتلقّي في إقامة عمليّة استرجاع لما تمّ عرضه من أحداث مفصليّة، ومن ذلك قول "زهدي" في نهاية المطاف حينما همَّ بالعودة إلى دياره:" ويا ترى فلو مررت بين الناس وعرفوني الآن فماذا سيفعلون بي ؟ هل سيرحمونني أم سألقى حتفي على أيديهم ... وأنا الذي لم أرحمهم في الفترة التي حكمت رقابهم فيها ؟..." الرواية ص130، ويبدو واضحًا أنّ صيغة الاستفهام تحتاج إلى مجيب، ونقاط الحذف تحتاج إلى حاضر الذهن؛ ليكمل ... وهذا بدوره يؤدّي إلى استمرار سيرورة التّواصل بين النّصّ والمتلقّي.

ختامًا:

إنّ دراسة جماليّات التّأثير والتّلقّي قد أبرز قدرة الروائي على الصّوغ الفنّيّ القائم على تفجير إمكانات اللغة وإعطائها بعدًا جماليًّا تناسليًّا، حيث إنّه لا يكتفي بجماليّة الكلمة لتوصيل أفكاره ومشاعره فحسب بل انتقى آليات وصورًا مصبوغة بألوانٍ تقول مشاعره وتنقل أفكاره؛ ممّا قد أهّل روايته لأن تكون نموذجًا خصبًا ، تنفتح فيها القراءة على عدد لا متناهي من المدلولات، وساعد المتلقّي على فهم الواقع وقراءة التاريخ، ومن ثمّ اتّخاذ الموقف اتّجاه أحداثه.

إعداد الباحثة: ميّادة أنور الصّعيدي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى