السبت ٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٢
بقلم الهادي عرجون

لظى الشعر ووجد الشاعر

من خلال المجموعة الشعرية «لم لا أحتمي بلظاك» للشاعر الحبيب دربال

من وراء الأفق حين يسكب عشقه مع صراخ الأطفال وضحكاتهم وهو يقلب على قدر العزم لظاه ليحتمي بصورة طائر النار، ليتوهج لظى الشعر من شدة الوجد والعشق الذي يغلف أنواء المجموعة الشعرية "لم لا أحتمي بلظاك" وجدا وقلقا شعريا، هكذا يرتعش جفن عشتار ليولد من دفة هذه المجموعة صورة العاشق ليفك الشاعر الحبيب دربال تراتيله ليبعثها في شكل شرارات عشق لوجدان القارئ لتظهر ملامحها من القصيدة الأولى لتشمل جل قصائد المجموعة.

(لم لا أحتمي بلظاك) الصادرة سنة 2020 عن دار الشركة العامة للطباعة والورق المقوى في 104 صفحة، وهي استكمال لنصوص نشر بعضها على قرص ليزري سنة 2014، وقد اختار لها عناوين فرعية جاءت كالآتي:

(ومضات، رشفات، إيماءات، احتماءات، متيهات)، تلقي بسحرها لتشير إلى معاني النص الذي يقد قميص الومضات والإيماءات ليفتض سكون الكلمات، لينتفض السياق الشعري على سؤال "لم لا أحتمي بلظاك؟"، ليكون اللظى الشعري وسيلة الإبحار من معنى إلى آخر، ومن صورة إلى أخرى، ليولد النص لوحة فنية باذخة.
والمتأمل في المعجم المعتمد في هذه المجموعة يلاحظ معجم النار ومختلف مرادفتها –إن صح التعبير-من أمثال (اللظى، النار، الحريق، اللهب...)، ليكون اللظى بين نار تلظى وعصف رهيب. هل هو لظى العشق والوجد، حين ينوء الشاعر بحمله ويحتمي بلظى المحبوبة، وذلك بقوله: (ص34):

"بين نار تلظى وعصف رهيب...
آن للثلج أن يشتعل،
ولعينيك أن تبحثا عن بديل،
فتعالي نهيئ عيونا تسبح/ تقطر وجدا،
وتنساب ما بين بحر وبر"

أم هو عشق الوطن المنهوك تارة المضطرب تارة أخرى، فالوطن الذي على عتبات المخاض يسف دما زئبقي المذاق، فهو الملهم رغم ما فيه من مآسي وأحزان وما تحاكى له من ضغائن وما تفتعل فيه من قلاقل، بالإضافة إلى أنه مرتبط بالحالة النفسية للشاعر بشكل مباشر، وما يريد أن يبعثه من رسائل ومضامين فكرية ويظهر ذلك في قوله: (ص85).

"كؤوس تدار،
وأخرى على كل نهد تراق،
بلاد تساق، إلى أين يا ... أبتي قد تساق؟"

أم هو لظى الشعر، لظى الاحتماء من الشعر بروضة الشعر، ليستفيق الشاعر بين نصوص تتلظى وأخرى على عتبات الهوى تحترق، فهو الملاح الذي يرسم في دفة الورقة، يهمس لأمواج القصائد، ويبحث في روضة الشعر عن مرسى، حيث يقول في نص، (طائر الشوق) ص71:

"روضة الشعر هل لديك مكان
ساحر الطرف دائما مضياف؟
أنا الصب من زمان وأبقى
طائر الشوق لا يني أو يخاف
لم أكن كالغريب فكرا وحسا
ضاق أرضا وشفه التطواف
روضة الشعر أنت أدرى بطبعي
فسهولي جداول وضفاف"

مع العلم أن المجموعة الشعرية (لم لا أحتمي بلظاك) مثلت نسيجا نسجه الشاعر "بنول" الكلمات، وخاط جبة المعنى ليولد النص كما يرمي إخراجه، رغم ما فيه من إيماءات الحب والوجد، ليعبر عن قضايا الراهن في بلاد العرب و سائر بلاد العرب لها تناصّها مع النص القرآني التراث الشعري العربي القديم، فيها الكثير من الحبكة الشعرية والتوظيف المحكم للشخصيات التاريخية والأسطورية ليتقاطع في شعر الحبيب دربال الزمان بالمكان وتتقاطع الأحداث والشخصيات، ليكون توظيفا غايته التعبير عن أفكار وأراء يرد بثها للمتلقي، ومن بين هذه الرموز نذكر منها: (إيزيس، الجازية، المتوكل، عبلة، بثينة، طارق بن زياد، الحطيئة، هريرة، الصعاليك، السندباد، شهريار، المعز...).

كما أن استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي ليس جديدا بل هو تقليد دأب عليه الكثير من الشعراء، حيث أشار إلى ذلك الدكتور: علي عشري زايد بقوله في كتابه " إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي الحديث ": " من الطبيعي أن الشاعر يوظف شخصية تراثية فإنه لا يوظف من ملامحها إلا ما يتلاءم وطبيعة التجربة التي يريد التعبير عنها من خلال هذه الشخصية، وهو يؤول هذه الملامح التأويل الذي يلائم هذه التجربة، قبل أن يسقط عليها الأبعاد المعاصرة التي يريد إسقاطها عليها".

وقد سعى الشاعر الحبيب دربال إلى التعمق والغوص في أبعاد الشخصيات التي وظفها ليكون له التفرد والتميز في تحميلها آراء وأفكار لا يكتشفها القارئ العادي، فالشخصيات والأحداث التاريخية ليست مجرد أحداث عابرة تنتهي بانتهاء وجودها الواقعي والفعلي بل يمكن أن نحمل عليها تأويلات وتفسيرات تحاكي الواقع، ومن هنا وظف الشاعر هذه الشخصيات لبث أفكار وقضايا وهموم يريد نقلها للمتلقي بطريقة مختلفة مع الإيحاء والترميز حول هذه الشخصيات وما يدور حولها من معاني وألفاظ وهذا ليس مجرد تماهي بينها ولكن لغاية في نفس الشاعر.

كما أن الشاعر لا يكتفي باستحضار الشخصيات التراثية، بل يستحضر الطفولة التي تعتبر المخزون الأكثر التصاقا بذاكرة الإنسان والمهد الأول لتجاربه الحياتية، فهو كالطفل يمارس جوعه للكتابة ذلك الطفل الذي يعيش بداخله، فهو يعيش الذكرى فالإنسان عموما لا يمكن أن يعيش بدون ذاكرة فالذاكرة هي تلك الومضات الطفولية التي تجتاحه من حين لآخر، فيقول: (ص47):

"ونسجت من عبق الطفولة واحة
غناء تشفي مهجة الرواد"

لتخرج في شكل صور تذكارية سواء كانت تلك الذكريات الطفولية ذكريات سعيدة أم حزينة، فالطفولة هي مهد الأحلام والمنطلق نحو الأمل الذي يعيشه الإنسان. وقد عبر عن ذلك الشاعر بقوله أيضا (ص 65):

"طفل تقمص دور الصعاليك،
يقرأ للغيب ألف حساب،
ويمضي، إلى أين يمصي؟؟؟
سؤال تبخر بين سماء يباب،
وأرض يباس، يباي، يباس...،
فلا بأس لو أترنم بالنار تقصي علي"

بالإضافة إلى اعتماده على التناص ويطهر ذلك من خلال باستحضاره نصوص شعرية وآيات قرآنية، والذي يعتبر من أبرز التقنيات الفنية التي عني بها أصحاب الشعر الحديث واحتفوا بها بوصفها ضربا من تقاطع النصوص الشعرية مع نص سابق عليه ليكون علاقة خاصة بين نص سابق وآخر لاحق مع حسن توظيفه في القصيدة التقليدية أو القصيدة الحديثة على حد السواء. حيث يذهب الناقد صبري حافظ عن النص بالقول: "لا ينشأ من فراغ، ولا يظهر في فراغ، إنه يظهر في عالم مليء بالنصوص الأخرى ومن ثم فإنه يحاول الحلول محل النصوص التي أزاحتها من مكانها"(1) ليدخل بعد ذلك الصراع في هذه النصوص من خلال الإزاحة والإحلال، كما تعرف جوليا كريستيفا التناص بأنه " ترحال النص لنص سابق وتداخل نص في فضاء نص معين تتقاطع وتتنافى فيه ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى"(2).

التناص الديني (القرآني):

حيث يظهر هذا التناص في شكل مفردات قرآنية منفردة أو مقترنة بلفظة أخرى، أو اقتباس مباشر لنص قرآني ظهرت في عدة مقاطع نذكر منها: (فقد أشتهي طائرا من لهب، يئد السنوات العجاف (ص17)، فاشهدي يا طيور أبابيل جرحي (ص41)، جنات ألفاف وجواري أصنافا، للطاغين يكن سلالات أجلافا...(92)).
التناص الشعري:

الصفحة
موضع التناص من البيت
أصل البيت
ص17
في كفها تصهل الكلمات، تودع خمارة البلد
عاج الشقي على دار يسائلها
وعدت أسأل عن خمارة البلد (أبو نواس)
ص 53
دع عنك أمري، أقم بين أروقة الروح
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء (أبو نواس)
ص65
لي طوابير لما تودع هريرة، لما تحنط نص
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعا أيها الرجل (الأعشى)
ص65
وناحت بقربي أغلى الدرر
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
أيا جارة أتشعرين بحالي (أبو فراس)
ص83
على قدر أهل العزم تأتي البشائر
وتصحو على قدر الكرام الضمائر
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم (المتنبي)

وفي الختام يمكن القول بأن هذا المنجز الشعري حقق التفرد من ناحية الأساليب الإبداعية، ومن ناحية نسيجها الفني وبنائها المعنوي. ليختزل الشاعر الحبيب دربال من خلاله، التجارب الإنسانية وتجربته الشعرية ويخرجها على صورتها الحية نابضة بالحياة رغم ما فيها من قلق وجداني ومن لظى شعري يحاول الاحتماء منه إليه.

(1)- صبري حافظ: التناص وإشارات العمل الأدبي، مجلة عيون المقالات، عدد2. سنة 1986، ص14.

(2)- جوليا كريستيفا: علم النص، ترجمة فريد الزاهي، دار توبقال، الدار البيضاء،1997، ص21.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى