الثلاثاء ١٩ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
رجاء النقاش
بقلم حسن توفيق

إنسان نبيل تتجسد فيه إنسانية العروبة

كان صلاح عبد الصبور يحب أن يناديني ب يا ابني .. وكنت دائماً أرفض، مؤكداً انه أخي وليس أبي، وكان رجاء النقاش يناديني ب يا أخي وكنت أفرح بهذا النداء، فقد كنت فعلاً أخا محبا له، وكان أفراد أسرته الكريمة وإخوته يتعاملون معي علي هذا الأساس.. أخٌ واحد له لم ألتق معه نهائياً، لأنه يقيم في الولايات المتحدة منذ أكثر من أربعين سنة، ويعمل هناك في مجال الإخراج السينمائي هو عطاء .. أما أخوه وحيد النقاش فقد عرفته وأحببته في بدايات تكويني، وكان كاتباً ومترجما وإنساناً رائعاً، ومن ترجماته المعروفة رواية صمت البحر للكاتب الفرنسي فيركور، وفيها صور بطولية للمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية، وكذلك مسرحية يرما الشعرية للشاعر الاسباني العظيم فيديريكو جارثيا لوركا، وكان وحيد النقاش ينقح لي قصائدي المبكرة بكل رقة وحنو، وبكل أسف فإن الموت اختطفه قبل أن يناقش رسالة الدكتوراه من جامعة السوربون الشهيرة بباريس بأسبوع واحد، وأما فكري النقاش فهو تقريبا في مثل عمري، متعه اللَّه بالصحة والعافية، وأما بهاء النقاش فقد كان شاباً رائعاً ومعيدا في معهد السينما بالقاهرة، لكن الموت اختطفه كذلك سنة 1986 علي ما أذكر في حادثة مروعة علي طريق مصر - الإسكندرية الصحراوي، وأما الأصغر عاصم النقاش فإنه إنسان رقيق محب للفن وللحياة، وتبقي الأختان فريدة النقاش - الكبيرة، وأمينة النقاش - الصغيرة، وهما مشاكستان ومتمردتان ضد كل ما يعوق حركة التقدم في مصر وفي شقيقاتها العربيات، وكلتاهما في حزب التجمع التقدمي الوحدوي، وقد تعرضتا للاعتقال وللسجن مرات عديدة في عصر من حكم مصر بعد غياب الزعيم العربي الخالد جمال عبد الناصر.

الدكتورة هانية عمر المارية رفيقة رحلة رجاء النقاش مع الحياة بكل طموحاتها وصعوباتها، هي أساس كل المحبة التي تشع في بيت الكاتب الكبير، وهي إنسانة رقيقة حين تستدعي المواقف ان تكون كذلك، كما أنها إنسانة حاسمة وحازمة حين تتطلب المواقف ان تكون كذلك، وهناك الابنة البارة لميس التي أتمني ان تحقق أمنية أبيها، فتحصل علي درجة الدكتوراه التي تأخرت في إنجازها، وهناك الابن الجميل عاشق الفن سميح رجاء النقاش والذي اسماه أبوه سميح تيمنا بشاعر المقاومة الفلسطينية الكبير سميح القاسم، لكني لن أنسي هنا زياد حفيد رجاء النقاش الذي كان يسمح له - وهو يدلله - أن يمتطي ظهره، وهذا ما كان يدفع الدكتورة هانية في حالات كثيرة للشكوي .. يا حسن.. تدليل رجاء الزائد لزياد ليس في محله!.. .

# # #

في مركز أجا بمحافظة الدقهلية الشهيرة بما أنجبته من سياسيين مرموقين، من شيوعيين ومن إخوان مسلمين علي حد سواء، وبما أهدته للعرب أجمعين متمثلا في خالدة الصوت أم كلثوم.. في هذا المركز - مركز أجا - ولد الطفل محمد رجاء عبد المؤمن النقاش يوم 3 سبتمبر - ايلول سنة 1934، وكان أبوه عبد المؤمن النقاش شاعرا أصيلا يميل إلي الكلاسيكية في معظم الأحيان ويجنح إلي الرومانسية أحياناً، وكان واحداً ممن يقتنون مجلة الرسالة الاسبوعية الشهيرة التي كانت قد بدأت صدورها قبل ميلاد ابنه بنحو سنتين لا أكثر.

من القرية ومن حياة الريف، انطلق الشاب العاشق للأدب والفن محمد رجاء عبدالمؤمن النقاش الي القاهرة بكل أضوائها وضوضائها، حيث تخرج من قسم اللغة العربية بكلية الآداب -جامعة القاهرة سنة 1956 فكان له شرف أن يكون أحد أساتذته هو عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، ولكن الطالب الجامعي رجاء النقاش لم يكن من أبناء الموسرين والأثرياء، ولهذا تكفل بإعالة نفسه خلال سنوات الدراسة، هو أمر دفعه لأن يعمل في الصحافة، وهو ما يزال يتلقي العلم في الجامعة حيث عمل محرراً أدبياً في مجلة روزاليوسف واحتضنه -وقتها- إحسان عبدالقدوس، وبعد تخرجه من الجامعة، تنقل ما بين أخبار اليوم و الجمهورية وكانت مقالاته الأدبية والنقدية تبهر أبناء جيلي بجمال أسلوبها وطلاوته وحلاوته، وبفضل هذا الأسلوب البعيد تماماً عن التقعر والتكلف، تحققت لرجاء النقاش شهرة واسعة، وهو ما يزال شابا، يناطح الكبار من الأدباء، ويزاحمهم، ولأن الساحة الأدبية والثقافية وقتها لم تكن ساحة ضغائن وأحقاد، كما هي الحال الآن في معظم الأحيان، فإن الكبار الذين زاحمهم رجاء النقاش أحبوه واحتضنوه ورعوا موهبته الصاعدة خير رعاية، وكان من هؤلاء ناقدان كبيران هما الدكتور محمد مندور والأستاذ أنور المعداوي.

###

ما سر جمال أسلوب رجاء النقاش؟.. السر يكمن -ببساطة- في أنه من أبناء جيل عربي عاشق للمعرفة ومحب للقراءة. الآن لدينا كتاب كثيرون لا يقرأون.. وربما كانوا يعرفون أسماء أدباء عالميين وعرب، لكنهم يكتفون من المعرفة بالأسماء لا أكثر ولا أقل. حين نسأل رجاء النقاش عن الينابيع الثقافية والأدبية التي استقي منها ما استقي، والتي أسهمت في تشكيل أسلوبه الجميل الصافي، فإنه لا يتردد في القول إن هذه الينابيع تترقرق علي صفحات مجلة الرسالة التي أشرت إليها، والتي كان يصدرها الكاتب الكبير أحمد حسن الزيات من سنة 1932 حتي سنة 1952، فعلي صفحات هذه المجلة الرائعة والعريقة، كانت تتلاقي أقلام طه حسين وعباس محمود العقاد وإبراهيم المازني وتوفيق الحكيم وابراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن اسماعيل وعبدالرحمن الخميسي وسهير القلماوي وشوقي ضيف وعبدالقادر القط وسواهم، وكان رجاء النقاش يتأمل أساليب هؤلاء جميعاً، ويتذوق منها ما يتذوق وقد يقترب من أحدهم ويبتعد عن سواه.

لكن جمال الأسلوب وحده ليس المؤهل الوحيد لكي يكون الإنسان كاتباً مرموقاً، إذ لابد من المعرفة التي ينبغي ألا تكون محصورة ومقصورة علي مجال معين، وانما يجب أن تكون معرفة موسوعية شاملة في الفلسفة وفي التاريخ والاجتماع والسياسة وعلم النفس والدين، بل في الأديان المقارنة، وهذا كله لم يجعل رجاء النقاش مجرد كاتب من ذوي الأساليب الساحرة، وانما أكسبه عمقاً في النظرة وفي التحليل، وأبعده تماماً عن مزالق التسطيح و الفبركة وتشهد مكتبته الشخصية الهائلة التي خصص لها طابقاً كاملاً في بيته الجديد بحدائق الأهرام علي عمق قراءاته وشمولها ورحابتها، وقد شهد البيتان -القديم في شارع الصفا بالمهندسين، والجديد - نقاشات ومساجلات بين عشرات، بل بين مئات من المثقفين والفنانين والكتاب العرب من أبناء مصر وأبناء سواها من شقيقاتها العربيات، وأتذكر هنا ان الشاعر العظيم محمود درويش حين التجأ إلي مصر في البداية لم يكن يسهر سهرات متجددة إلا في بيت رجاء النقاش، أما إذا شاء أن يستأذن في الانصراف مبكراً فإن وعداً ضاحكاً كان يتكفل بأن يعيده إلي مقعده، حيث كان رجاء النقاش يعده بأن يتصل -تليفونياً- بالمطربة العذبة نجاة الصغيرة التي كان محمود درويش وقتها يحبها حباً جارفاً ويلتقي معها أحياناً ويسعد بسماع صوتها إذا احترق شوقاً ولو من خلال التليفون، وأظن أن هناك من يعرفون أن نجاة الصغيرة كانت مشهورة بأنها ملهمة لشعراء سابقين علي محمود درويش، من بينهم كامل الشناوي صاحب لا تكذبي.. إني رأيتكما معاً.. ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا.. وهي قصيدة من وحي المطربة العذبة نفسها في موقف معين، كما أن نجاة الصغيرة كانت المطربة العربية الأولي التي انطلقت بشعر نزار قباني من القراءة إلي السماع، عبر قصيدته أيظن.. اني لعبة بيديه.. ..

###

أحتضن الآن ما عندي وما هو أمامي -وأنا أكتب هذه السطور- من كتب أستاذي الرائع.. أحتضن هذه الكتب النفيسة، كأني ألوذ بها من الفراغ، وأتحصن بها ضد الغياب.. وإذا كنت قد أشرت إلي جمال الأسلوب وعمق التحليل عند رجاء النقاش، فلابد أن أتذكر التوجه الفكري والإنساني الذي يتيح لي القول -دون أي شهادة من أحد- إن رجاء النقاش إنسان جميل ونبيل، تتجسد فيه إنسانية العروبة بإنطلاقتها ورحابتها البعيدتين عن العنصرية، وبفضل هذا الإحساس العربي الأصيل الذي يجري مع الدم في عروقه، فإنه يري - وهذا حق - أن الأدب العربي هو أولاً وأخيراً أدب واحد، لكن بيئاته المحلية تتوزع، كما تتنوع جنسيات مبدعيه ومبدعاته، وبفضل هذا الإحساس كتب عن محمود درويش وسميح القاسم وفدوي طوقان وسلمي الخضراء الجيوسي وغسان كنفاني من فلسطين، وكتب عن الطيب صالح ومحمد الفيتوري وجيلي عبدالرحمن من السودان، وكتب مقدمة رائعة لمجموعة كلثم جبر القصصية وجع امرأة عربية كما رعي سنان المسلماني ومريم آل سعد ومحمد بن خليفة العطية وحسن رشيد ومرزوق بشير وسواهم من أبناء قطر، ولا يزال الشاعر الكبير الشيخ مبارك بن سيف آل ثاني حين يسألني عنه يقول: ما أخبار الباشا؟ ، وكتب رجاء النقاش عن الأدباء الكبار في مصر، من طه حسين والعقاد الي نجيب محفوظ ويوسف أدريس، لكنه لم يتغافل أبداً عن رعاية كل موهبة أدبية في الشعر والقصة والرواية والمسرح، وفي كل أرض عربية، وليس في أرض مصر وحدها.

من الصفات الرائعة التي يتحلي بها استاذي الرائع، أن تكريمه الذي حظي به في مناسبات عديدة لم يدفعه أبداً الي الغرور، لأن التكريم لم يكن يزيده إلا تواضعاً فوق تواضعه، أما الاضطهاد الذي تعرض له عدة مرات خلال مرحلة ما بعد جمال عبدالناصر، فإنه لم يجرفه أبداً لهاوية اليأس، وهنا يتجلي الإنسان، ونتبين من أي معدن نفيس يتشكل، كما نتبين رحابة القلب التي تسع الجميع، طالما أنهم صادقون، وطالما أنهم ينتمون - مثله - للعروبة المنكوبة الآن، لكن إيمانه وإيمان هؤلاء جميعا بالمستقبل يشع بنور الأمل في تجاوز المحن والأخطار والتحديات، سعيا لإصلاح المعوج، وتمكيناً لأجيال عربية جديدة من أن تفرح وهي تنطلق فوق الأرض العربية.

قبل أن يغادر رجاء النقاش أرض قطر التي أقام بين أبنائها نحو ثماني سنوات، كتبت مقالاً، نشر في الراية يوم 7 يناير سنة 1987 بعنوان رحلة حب مع رجاء النقاش ومما كتبته وقتها - منذ أكثر من عشرين سنة - لا أفخر بصداقتي الطويلة لرجاء النقاش لمجرد انه صديق أثير، ولا أحس بانتمائي الصادق تجاهه لمجرد انه كاتب وناقد كبير.. انني أفخر به وأنتمي له، لأنه واحد من القلائل الذين تعلمت منهم الكثير، وكان مما تعلمته منه أن الكاتب العربي - مهما يكن مستوي موهبته، ومهما يكن حجمه - عليه دين كبير، ينبغي أن يؤديه لأمته العربية التي ينتمي اليها.. .

كتبت منذ أكثر من عشرين سنة رحلة حب مع رجاء النقاش وها آنذا أكتب الآن عنه ومعه في رحلة حب جديدة، واذا كانت وكالات الأنباء ووسائل الاعلام قد أشارت الي غيابه يوم الجمعة الثامن من فبراير 2008 فإن هذه الإشارة لا تعنيني، لأني مدرك أنه يسكن في قلوب محبيه جميعاً، وسيظل يسكن قلبي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى