الجمعة ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم علي دهيني

الآن...حسين العلي أتى محمّلاً بكل خيراته.

مجموعة قصصية صدرت عن "ديوان الكتاب للثقافة والنشر" في بيروت، للكاتب السعودي حسين العلي، تعكس في تفاصيلها رؤية الكاتب وفكره، بأسلوب هادىء وجميل يمنعك من الملل، بل يدعوك للاسترسال معه، فلا تقف إلاّ عند محطة أرادها هو استراحة لك تستعيد فيها ما قرأت، لأنك في عبورك لسطورحكاياته، لممت تشويقاً في السرد وبقي ان تستشرف الرؤية التي جاءت الرواية توريةً أو تشخيصاً لها، او أن حسين العلي أختزن نضْحَه في فكرة خبأها بين السطور كي لا تفضح حيرته الآسرة لعلاقته مع الآخر، التي تسكن كل مفاصل حكاياته.

إن الكاتب في عبوره من حكاية إلى أخرى، بجعلك تعبر معه من نظرية فلسفية إلى نظرية جدلية، أو إشكالية تمحورت في أحاديث ومواقف العديد من الكتاب وفلاسفة الحياة، عند نقطة دارت حولها أسئلته المثيرة عن ماهية الوجود وإشكالية العلاقة بين الروحانيات والماديات، ماهيّة الإنسان وذاتيته ـ وبينهما ـ مع الموروث البيئي والثقافي من خلاف.

إن غياب المنهجية الأكاديمية عن السرد الروائي، يؤشر بصورة كاملة على أن قراءات الكاتب المتنقلة من مكان إلى مكان ومن فلسفة إلى فلسفة، مادية أو إخلاقية، جعلته يتلبس ثوب الرحالة بين هذه الموارد، يتخيّر من بساتينها قطافاّ ذوقياً احتوشته ذاكرته كغثٍ ثمين لم يبح به لغير ذاته فجاء يحاورها بصمت المسترهب للآخر.

يسير الكاتب بصمت موزّع على كل قصصه، ودائما يعتمد حوار حكاياته بترجمة حديث النفس، ليجيء التعاطي معها من خلال البحث عن سؤال عنده لا ينتهي لأنه السؤال الصامت المستحضر للذاكرة كي تترجم الصور المختزنة في العقل الجامع بين التجريبي وبين العاقل.. بين الفطرة والمكتسب.

إنه يخلق حواراً ذاتياً ثنائياً وفي نفس الوقت يجعل من الفكرة جليس يهرب إليه ليَحْبُك جملة ربط بين "أنانيهْ".. أنا الأعلى الجاثمة في ذاكرته، وأنا الصغرى الباحثة عن مفقود لم تجده بعد، ولا تعرف إذا ما استعادته أم لا..؟

إن مشهد الحقيقة الصافية (برغم نسبيتها) ترغب أن تكون جميلة، وان نفهمها على انها كذلك، لأن الحقيقة الكلية شيء، وهي المطلق، والحقيقة الدلالية عارية ومجردة الفكرة تظهرها وتبلورها التجربة، هذا يعني أن ننزع إلى فرض إشكالية بين حقيقة الوجود وحقيقة الماهية: الأولى تأخذ شكلاً متحركاً والثانية نشعرها ولا نستطيع سبر أغوارها لأنها جزء في مكان، وكليّة في مكان.

الصورة والتشبيه يسيران جنباً إلى جنب في كل الحكايات، والجمل المستقاة تترنح سكرى في مواضعها: " كأنها صوت نورس في فجر الشتاء".. "وأنا القابع في ظلمة الصمت".. " فهل يمكن لحطام رجل أن يرمّم بقايا امرأة؟!".. "أرجوك إحلم بصمت".. هذه المفردات التي جاءت في حكاية " العارية". تفيض بحالة الكاتب وهو يقرأ الواقع ولكن من خلال نظرته الفلسفية، لأنه يرفض غياب الكُنهْ عن الجسد، يرفض الفكرة المجردة. إنها حكاية العلّة والمعلول. والسبب والمسبب.

شئنا أم أبينا فرض علينا حسين العلي ان نقرأ قصصه ونفهمها بروحه هو وليس من خلال الواقع الذي تمليه كلمات ومواقع وأفعال ابطال الحكاية.

إنها رؤيا فلسفية فرضت نفسها كذلك على الكاتب لأنه يريد ان يسكت هذا الصراع في ذاته بين الموروث والمكتسب، والعجز عن المفاضلة بينهما، مهما استحضر أرسطو أو سقراط أو جان جاك روسو أو عمانوئيل كنت، أو مهما اشتملت ذاكرته من الغزالي أو الفارابي أو إبن رشد أو إبن خلدون، فكل هؤلاء أحضرهم حسين العلي ليجلسوا معه حين يبدأ حواره مع الذات من خلال وعبر الآخر. قصصه ليست للتسلية، بل جدليات فلسفية تحركت فجأة في خاطره وتجسدت ونفرت منه لتسير في الشوارع أو تعيش في وسط المجتمع. إنها رؤيا في فلسفة الحياة. صراع قائم بين نفس حائرة تريد أن تهتدي عبر مسارب الوجود الصعبة المسالك، وبين معايشة الوجود بمفهوم العبثية من وجهة نظره المنظبطة بمخزون القلب الأخلاقي والباحثة في نفس الوقت، عن الأجوبة التائهة في جدلية المنطق المادي، صراع بين المادة والروح: " كنت أنا مثل أبيك متعصباً، أسيراً للماضي، وكدت أفقد عقلي حينما علمت أنها مع ابن شريكي، لكنني تعقّلت وحسبت الأمور بشكل صحيح، وقبلتُ الأمر بروح رياضية. فكرت في النتائج، كم سأخسر، لو أنني رفضت الواقع.!". ("سارة" ـ ص 117).

الإنسان محور كل شيء في الحياة؛ وماهية العقل عنده نسبية، وعبر النسبية من الصعب ان تصل الى حقائق كلية، الكلي هو الضمير لأنه مكوّن بالفطرة وأما العقل فمحمول بالفطرة والمكتسب، وعمله التوفيقية في جدلية المعرفة. " صرت أنظر حولي في كل الاتجاهات، ثمة مكتبة. إذن ثمة بحرٌ واسع يجب سباحته والغرق فيه. الكتب عالم آخر من اللذة والجمال، والالتزام والخيانة، الكتب عالم يمكننا اللجوء إليه وقت الضيق". ( "سارة" ـ 118).

هكذا.. لا نستطيع ان نقرأ في قصصه عملاً روائياً بحتاً، نقرأ سطور الرواية لنعود مرة بعد مرة، إلى عالم الجدليات الفلسفية ومَنْطَقَة المعرفة والبحث معه من جديد: أي المراسي ستكون محطّ رحالنا، وعلى أي الشواطي ستكون مرساة تساؤلاتنا. إنها حركة الحياة. أحسن حسين العلي أن حدثنا بلغته الخاصة وببلاغة في التورية والتعبير. إنها " قصص الفلسفة" بقدر ما هي سطور روائية ناجحة وقيّمة. فبعد قراءته سنعرف ان هذا الكتاب أتى فعلاً "محمّلاً بكلّ خيراته" كما يقول الكاتب في مقدمته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى