السبت ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم تيسير الناشف

الاعتناء بالفلسفة والأخذ بالمدرسة التفكيكية

من اللازم تعميم تعليم الفلسفة والمنطق ليس في الكليات والجامعات فقط ولكن في المدارس الثانوية وربما الابتدائية أيضا. يجب أن يوضع في هذه المؤسسات الدراسية مقرر لتدريس الفلسفة والمنطق. يمكن البدء بتعليمهما من سن العاشرة أو الحادية عشرة. إن من قبيل التحيز أو الافتراض الخاطئ الاعتقاد بأن تعليم الفلسفة والمنطق ينبغي ألا يبدأ إلا في سن متقدمة. لهذا الافتراض والتحيز أسباب: الجهل بفائدة التعلم في السنوات الأولى من الحياة والتهيئة الاجتماعية التي تتضمن التمشي مع الأمور الاعتيادية المألوفة والمواقف التي قد تظن أن تعليم الفلسفة قد ينال من قوة بعض التوجهات الفكرية أو القيمية. لقد أجرت "مجموعة البحث في التعليم الفلسفي"، وهي مجموعة أنشئت سنة 1975 وضمت الفيلسوف الفرنسي التفكيكي جاك دريدا وزملاءه وأصدقاءه وتلاميذه، تجربة لتعليم الفلسفة في الصفين السادس والسابع، أي سن العاشرة أو الحادية عشرة. قال جاك دريدا إن هذه المجموعة حققت في هذا التعليم التجريبي "نجاحا واضحا. فلم يكن الأولاد والبنات في هذين الصفين مهتمين بالفلسفة فقط بل كانوا ... يستمتعون بدراستها، وكانوا قادرين على قراءة ما نسميه نصوصا صعبة". [1]

ومن اللازم ألا نكتفي بتعليم الفلسفة والمنطق في المدارس والجامعات. من اللازم أن يتغلغل التفكير المنطقي في حياة الناس. وبهذا التدريس يمكن جعل عقول الطلاب والمعلمين وأفراد العائلة وسكان القرية والمدينة والمجتمع والدولة أكثر منطقية وعقلانية.
وللنهوض بتعليم الفلسفة والمنطق من اللازم أن ينشأ معهد عربي عال للفلسفة تعلم فيه الفلسفة والمنطق ويعنى بالفكر الفلسفي والمنطقي في كل أرجاء المنطقة التي يتكلم أبناؤها لغة الضاد، ويطمح إلى توثيق الصلات بالمعاهد والمؤسسات الفلسفية في العالم، ويعقد مؤتمرات يحضرها دارسو الفلسفة وتلقى فيها بحوث عن الفلسفة والمنطق وعن القضايا والمشاكل التي يواجهها تعليمهما. ومن شأن هذه المؤتمرات أن تعنى أيضا بمشكلات الاختلاف الثقافي والتعايش الثقافي والتكيف الثقافي والتغذية الاسترجاعية الثقافية، ومواضيع أخرى من قبيل العلاقة بين الفلسفة والمنطق، من ناحية، والتطور الفكري والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، من ناحية أخرى.

ومن الوظائف التي من شأن هذا المعهد أن يؤديها أن يعالج موضوعات لا تعالجها مؤسسات تعليمية وعلمية أخرى، أي أن يعنى المعهد بمواضيع جديدة أو مواضيع لم تبحث بما فيه الكفاية أو مواضيع لم تعترف بها الجامعات القائمة بأنها مواضيع تقع في دائرة البحث.
وفي الحقيقة أن تقبل الفكر الفلسفي يواجه عادة صعوبات في عدد من المجتمعات. وحتى لو توفر الاستعداد لقراءة الكتابات الفلسفية فلا يعني ذلك بالضرورة أن المسائل الفلسفية تحظى بالمساندة. إن الناس على نحو عام يعزفون عن الفكر الفلسفي ولا تبدي حكومات كثيرة اهتماما بهذا الفكر. هذا هو أحد الأسباب في أن الفكر الفلسفي غير مدرج في مقررات بعض الجامعات وسائر المؤسسات العلمية والتعليمية. وذلك هو أيضا أحد الأسباب في أن أصحاب الفكر الفلسفي والمعنيين بهذا الفكر يحرمون أحيانا من الدعم المالي والمعنوي.

إن أشكال عدم تحمل الفكر الفلسفي أو عدم التسامح معه وأشكال الكبح والحرمان لهذا الفكر والتضييق عليه في مناطق من العالم أشكال كثيرة. وقد لا تعمد هيئة على نحو صريح على منع انتشار الفكر الفلسفي أو مراقبته أو محاربته ولكنها قد تستخدم آليات تقاوم بها ذلك الفكر، مثلا عن طريق بعض مؤسسات النشر والتوزيع والإعلان.

وتشجيع الفكر الفلسفي تشجيع للانطلاق الفكري وللحرية الفكرية. ومن هذا المنطلق يحسن إنشاء أقسام للفلسفة في الجامعات فيها يمارس المفكرون والباحثون والمعلمون قدرا أكبر من حرية البحث والفكر (وحرية البحث والفكر الكاملة من المتعذر تحقيقها(. يمكن في هذه الأقسام أن يدرس الدارسون لكي يحققوا نتيجة آنية أو نتيجة مستقبلية، وأن يجروا الأبحاث ابتغاء تحقيق غرض فكري اجتماعي. إن المجتمع الذي يتقبل فكرة وجود أقسام للفلسفة يعطي نفسه إمكانية التفكير في جوهر الأشياء وإمكانية تعزيز الفكر العلمي.

والفكر الفلسفي يتجاوز الفكر العلمي. وحتى يكون في إمكان المفكر أن يرى وأن يحلل من المفيد أن يكون واعيا بوجود بُعد أو مسافة بينه وبين ما يفكر فيه ويحلله وأن يكون مراعيا لهذا الوجود، وأن يعي بوجود مسافات أو أبعاد بين الأشياء. وعلى الرغم من الفائدة من الوعي بالمسافة بين المفكر وما يحلله ومن مراعاة هذه المسافة فإن مما يسهم أيضا، في نفس الوقت، في فهم ما يحلله المفكر هو أن يكون معانيا من الظروف والحالات التي يدرسها.
ومما تسهم في إثراء الفكر وفي زيادة الوعي الطريقة التفكيكية. عن طريق التفكيك يزيد فهمنا للنص ويُزال السحر والغموض الأيديولوجيان والتورطات الأيديولوجية التي تؤثر في حياة الناس والمجتمع.

ومما تؤثر في حياة الناس والمجتمع أيضا الأساطير والخرافات )الميثولوجيا(. منذ ألوف السنين جرى التفاعل بين الميثولوجيا والأيديولوجيا. والسياق الاجتماعي سياق أيديولوجي وميثولوجي. والبشر عموما يفكرون بمجموعة من القيم والمبادىء والمعتقدات والافتراضات، وأيضا بمجموعة من الحكايات والأساطير، من السيَر الخرافية والقصص الشعبية، ويجري تأثير متبادل بين المعتقدات والافتراضات، من ناحية، والحكايات والأساطير، من ناحية أخرى. وهذا التأثير المتبادل يسهم إسهاما كبيرا في تشكيل الأيديولوجيا. إن تعميم أي فكر أيديولوجي لا بد من أن يكون على حساب فهم الواقع، لأن الفكر الأيديولوجي أضيق من الواقع. إن البنى الأيديولوجية والتنظيرية للفكر البشري تخفي الواقع البشري. وفي وقت مواجهة الحقائق على أرض الواقع يتضح عدم صلة تلك البنى بالواقع.

ويرتكب المفسرون للسلوك البشري خطأ جسيما حينما يحاولون تفسير ذلك السلوك بعامل واحد، مهملين عوامل أخرى. ويعود نشوء ظاهرة من الظواهر الاجتماعية، بالمعنى الأعم للعبارة، أي الظواهر الاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية، إلى عوامل مختلفة. لقد حاول بعض المفسرين خطأ تفسير السلوك البشري بعامل واحد. فسيغموند فرويد، على سبيل المثال، حاول تفسير السلوك البشري بالحافز الجنسي، وحاول كارل ماركس خطأ تفسير السلوك البشري بالعامل الاقتصادي.

ومن شأن المدرسة التفكيكية أن تساعد مساعدة كبيرة في فهم الحياة والواقع. ويمكن للمدرسة التفكيكية أن تبين خطأ قدر كبير من الكتابات. لنأخذ على سبيل المثال العبارة التالية: "كلما ظهرت صيحة فكرية جديدة في الغرب كنا أصداء لها". قد تكون صياغة هذه الجملة جذابة ولكن مضمونها غير صحيح. ليس من الصحيح أن كل صيحة كهذه يكون الناطقون بالعربية أصداء لها، ولكنّ قسما منهم يكونون أصداء لها. وتغفل الجملة أيضا أنه بينما يوجد صدى عربي لصيحات في الغرب يوجد أيضا رفض عربي لتلك الصيحات. وليس من الواضح المقصود بكلمة "أصداء": هل هو الاستيعاب المقصود أم غير المقصود؟ هل المقصود بالصدى أن المرسِل يتحكم بما يرسله وأن المتلقي لا يتحكم بعملية التلقي؟ وهل حقا الوجودية والحداثة والتفكيك وما بعد الحداثة صيحات فكرية جديدة؟ وما هو المقصود بهذه المفاهيم؟ وما هو المقصود ب"صيحة"؟ وهل هذه الأفكار كلها تستبعد بعضها بعضا تماما؟ عن طريق النهج التفكيكي تمكن الإجابة عن قسم - على الأقل - من هذه الأسئلة.


[1من حوار أجراه مع جاك دريدا امري سالسينزكي ونشر في النقد والمجتمع، ترجمة وتحرير فخري صالح - عمان: دار الفارس للنشر، 1995، ص 73.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى