الثلاثاء ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم أحمد الخميسي

الجزائر شعب وتاريخ وحضارة وليست ١١ لاعبا بكرة!

أظن أن الجميع ولست وحدي قد أصيب بالدهشة من ذلك التحول الذي حدث في طبيعة مباراة كرة قدم عابرة، لتنقلب من لعبة إلى حالة العلاقات المتوترة بين مصر والجزائر بل والسودان على المستويين الرسمي والشعبي. والذين يحاولون بالضجيج اختزال الجزائر في أحد عشر لاعبا بكرة، يكشفون بتلك المحاولة فقط عن طبيعة عقولهم هم، أما الجزائر فتبقى ذلك الشعب العربي العظيم الذي قدم المليون شهيد من أجل حريته، وضرب أبناؤه أروع أمثلة البطولة والتحدي في الكفاح من أجل الاستقلال وفي الكفاح الثقافي من أجل التعريب. والغريب أنه في شهر نوفمبر هذا تحل الذكرى الخامسة والخمسون لانطلاق جبهة التحرير الوطني عام 1954 التي تمكنت بعد ثلاث سنوات من طرح قضية الشعب الجزائري في الأمم المتحدة، ثم أعلنت بعد ذلك بعام واحد عن قيام حكومتها المؤقتة. وخلال المفاوضات مع الفرنسيين ألقى فرحات عباس رئيس الحكومة المؤقتة في وجوه الفرنسيين بعبارته الشهيرة : أفضل أن نصبح عشرة ملايين من الجثث على أن نكون عشرة ملايين فرنسي . في تلك السنوات البعيدة كانت الإذاعة المصرية لا تتوقف عن بث أنباء الثوار الجزائريين، وقامت مصر بتقديم الدعم لهم معنويا وماديا، بل وكانت القاهرة محطة للمفاوضات التمهيدية لتحرر الجزائر. وسمعنا أيامها أسماء أبطال عظام مثل أحمد بن بيلا، وجميلة بوحريد ، وغيرهما، وكانت النفوس مشحونة في مصر كلها بحب الجزائر وتأييدها. وفي عام 1958 كنت أتابع الأخبار من الإذاعة، وشملتني غمرة الحماسة المصرية للشعب الجزائري البطل، وعددت نفسي وأنا في العاشرة من عمري كاتبا، فسودت ورقتين لا أذكر ماذا كان بهما وقلت لأخواتي: مسرحية عن الجزائر. وأجبرت أخواتي على القيام بالأدوار التمثيلية في صالة البيت كلما ساق القدر إلى بيتنا أحد أقاربنا ، فيجلس مستمعا إلى صياحنا وزعيقنا ثم يهنئنا منصرفا ويتوب بعدها عن زيارتنا. إلى هذه الدرجة قام الإعلام المصري بدوره حتى شحن النفوس كلها بحب الحرية. عام 1962 انتزعت الجزائر استقلالها، وجاء أحمد بن بيلا إلى القاهرة، وكان موكبه محاطا بالالآف من المصريين البسطاء. هذه هي الجزائر التي أعرفها، الجزائر التي قدمت أبناءها دون حساب من أجل كرامتها وتحررها ، وهذه هي الجزائر التي أحس أن قلبي عامر بحبها. ولم يكن ليخطر لي أبدا، أن يتصور البعض أن الجزائر هي فرقة كرة قدم! فيشحن النفوس بكل ذلك التعصب والكراهية والتوتر، ويلطخ تاريخا طويلا وعريقا سجل فيه المبدعون المصريون موقفهم من الجزائر حين أخرج يوسف شاهين فيلمه «جميلة بوحريد» وحين كتب صلاح جاهين قصيدته الرائعة عن جميلة ، وغير ذلك كثير. ولنتذكر الآن الأيام السابقة على مباراة مصر والجزائر في القاهرة، لنتذكر كيف كانت شاشات التلفزيون عندنا تعرض لشباب يتقدمون كأنهم في حرب، ويصرخون «شجع مصر»، لا يصرخون «شجع المنتخب المصري» لكن «شجع مصر»، كأن فرقة كرة القدم هي مصر. أليس هذا أيضا اختزالا لحجم مصر العظيم؟ لقد قام الإعلام بشحن النفوس عندنا إلى أقصى درجة ، بحيث أصبح مجرد سقوط زجاجة من على سطح منضدة كفيلا بإثارة معركة ، فما بالك بأهداف تدخل المرمى! المسئول الأول عما حدث في تقديري هو وسائل الإعلام التي تصرفت دون أدنى قدر من المسئولية، فجعلت من لعبة كرة القدم حدثا قوميا ، وجعلتنا نسمع أصوات المذيعين المبتهلة من أجل الانتصار والفوز كأن ذلك غاية المراد. أظن أن على المثقفين أن يبذلوا أقصى جهد لوقف المهزلة ، وقد أصدرت مجموعة من المثقفين الجزائريين المرموقين بيانا بديعا بهذا الصدد بعنوان لا للشوفينية، كما حذر اتحاد كتاب مصر من الانسياق إلى مخططات خارجية ترمي لتخريب العلاقات بين مصر والجزائر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى