الجمعة ٢٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
شوقي بزيع في حوار مع السعيد موفقي:
بقلم السعيد موفقي

الشعر أكثر الفنون التصاقا وتعبيرا بالنفس البشرية

وهموم الشعر و المكان و النقد

شاعر لبناني من شعراء الجنوب ، صدر له :

عناوين سريعة لوطن مقتول - الرحيل إلى شمس يثرب- أغنيات حب على نهر الليطاني- وردة الندم- مرثية الغبار- كأني غريبكِ بين النساء- قمصان يوسف- شهوات مبكرة- فراديس الوحشة- جبل الباروك- سراب المثنى- أبواب خلفية(نثر)- ماء الغريب- صراخ الأشجار.

قيل :إنّ تجربة شوقي بزيع في أعماله الشعرية هذه، بأنه استطاع أن يذهب بعيداً في اجتراح القصيدة الجديدة والمغايرة، وأن يضيف الكثير إلى الإبداع الشعري العربي ويرفد الكتابة الشعرية المعاصرة بلغة مشبوبة وقلقة وغنية بالدلالات. وإذا كان طموح كل شاعر حقيقي "أن يستهل الأبجدية"، كما يعبر بزيع في إحدى قصائده، فهو بهذا قد خطا خطوات حثيثة وواسعة على طريق الفرادة والتمييز والاختلاف.

مما جاء في هذا الحوار قوله :

للشعر بعد حضاري ، و للمكان عبقريته ، و قصيدة النثر اختيار أساسي من خيارات الشعر العربي ، و النقد يضيء الشعر بما له من تأويلاته يفتح له مسالك أمام قراءات متعددة و يضعه أمام القارئ .
و هذا التفصيل.....
  السعيد موفقي :
نرحب بالشاعر اللبناني الكبير و الناقد المتميّز شوقي بزيع الذي انتظرنا لقاءه منذ مدة ، يسعدنا بهذه المناسبة الخاصة أن نجري معه هذا الحوار حول العديد من القضايا الأدبية و الثقافية التي تشغل حيزا واسعا في عالمنا العربي ، و بداية نطرح عليه هذا السؤال :
الشاعر في مختلف تجاربه حتى تلك التي تخص الآخر دوما تكون انطلاقته من ذاته كمرتكز ، ما هو المبرر الذي يعتقده الشاعر لاعتماد ذاته و منها إلى خارجها ؟
  شوقي بزيع :
أنا أعتقد بأنّ الشعر هو من أكثر الفنون التصاقا وتعبيرا بالنفس البشرية و من أكثرها تعبيرا عن المناطق العميقة في ذواتنا و تفاعل حقيقي بين ثلاثة أطراف بين الشاعر و الحياة و بين الشاعر و اللغة و الحياة وبين الإنسان و الإنسانية فإذا كانت العلاقة هي علاقة الإنسان مع اللغة فقط فساعتئذ يمكن للشاعر أن يكون الشعر شعرا موضوعيا أقرب إلى الموضوعات الكلاسيكية ذات طابع وعظي وذات طابع إرشادي وأفكار تصاغ لغويا ، و أعتقد أن هذا الشيء قد تجاوزه قبل قرنين الغرب و من ثم جاءت أصداؤه عبر الرومنسية إلى العالم العربي و هو ضرورة أن يكون الشعر نابعا من عمق الشاعر و ذاته و نذكر مقولة الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة :
اجْرٍحِ الْقَلْبَ و اسْقِ شِعْرَكَ مِنْهُ .°. إِنَّمَا الشِّعْرُ خَمْرَةُ الأَقْلا مِ
قصيدة معروفة ، طبعا هذا لا يعني انفصالا عن ذوات الآخرين و لا يعني كما يرى البعض نوعا من البرنويا المتضخمة التي يملكها الشاعر طبعا (أنا) الشاعر هي (أنا) إبداعية و ليست الأنا بالمعنى الأخلاقي و لذلك لا يجب أن يعامل الشاعر معاملة تقليدية و ينظر إليه بوصفه مغرورا و معتدا بذاته يعني خارج هذه الأنا و خارج هذا التحلق حول الذات لا يمكن للشاعر أن ينبني ، و بالنهاية كل ذات تختصر ذوات الآخرين و من هنا نفهم قول أبي العلاء المعري :
أَتَزْعُمُ أَنَّكَ جُرْمٌ صَغِيرٌ .°. وَ فِيكَ انْطَوَى العَالَمُ الأَكْبَرُ
إذن في كل ذات تعبير عن ذوات الآخرين و أنا أعتقد أنّنا نلتقي بالآخرين ليس خارج ذواتنا بل داخلها يعني في الداخل ، عندما نصغي لأنفسنا و عندما نصغي جيّدا إلى حركة الحياة في داخلنا يمكن لنا أن نلتقي مع الناس الآخرين ، لأنّ الأعماق متشابهة تماما كما هو الحال مع المياه الجوفية حيث تلقي كل العناصر الوافدة و تشكل نهر الحياة المتواصل ، لذلك بالنسبة لشعري لا يمكن أن أكتب قصيدة ما لم أتقمص حالتها بما فيها ، وأتقمص الشخص أو الشيء أو الموضوع الذي تدور حوله القصيدة فأنا مثلا عندما كتبت عن مريم على سبيل المثال في إحدى مجموعاتي الشعرية ( كأني غريبك بين النساء) تكلمت عن مريم بضمير المتكلم فتبدأ:

تنأى الوساوس بي
و تودعنا السماء رفاة نطفتها
و تنكرني الغيوم

أتكلم عن مريم التي بداخلي ، يعني أتأنث لكي أكتب بنفس القدر عندما تكلمت عن ملك الجن في ليلة ديك الجن الأخيرة ، كنت أيضا ديك الجن ،عندما كتبت عن يوسف في قمصان يوسف كنت يوسف ، و أحيانا حتى ممكن أن أكتب عن الشجرة بوصفي شجرة ، ليس بالضرورة أن يكون الضمير المتكلم عائدا إلى شخص بعينه قد يؤكد لشيء ، وهذا بأنّ ذات الشاعر يجب أن تنحل في كينونة عامة الوجود و في ذوات الآخرين و ما لم يفعل ذلك سيكون الشعر توصيفا خارجيا أو وعظا أو تقريرا مباشرا عن وضع العالم .
  السعيد موفقي :
لقد أضأت كثيرا من النقاط التي أردت أن أطرحها سؤالا سؤالا ، غير أنّي لاحظت في كثير من دواوينك و خاصة ديوان(صراخ الأشجار) و أنت قد أشرت قبل قليل على أن الحديث عن الذات والتجربة الذاتية لا يعني بالضرورة أن يكون شخصا بقدر ما يكون شيئا أو نباتا ، و ديوانك صراخ الأشجار قد يكون شيئا من هذا القبيل ، أكثر دقة في سؤالي ، لاحظت بأنّ فهرسه يغلب على عناوينه توظيف النبات كما لو أنّ الشاعر شوقي بزيع قد اكتشف ضالته في اختيار الطبيعة و الأشجار على وجه التحديد ، على سبيل المثال : الزنزلخت، السنديان ، الصبّار ، الرمان...، لماذا هذا الاختيار بالذات ؟
  شوقي بزيع:
هذا شيء طبيعي ، الديوان في الواقع يدور بمجمله حول علاقتي بالأشجار التي تربيت في كنفها ، و بالمناسبة لا أستطيع، ليس فقط أن أكتب إلا عن المرأة التي أحببت و المرأة من لحم ودم يوم أن يرفعها المتخيل خارج نفسها و خارج كيانها الجسدي و لكن دائما هناك نساء حقيقيات كتبت عنهن و لذلك أنا لا أميل إلى تسمية شعر الحب بشعر الغزل لأنّ الغزل يعني تحويل المرأة إلى موضوع إلى شيء OBJECT و بالنهاية نحن نسقط عليها أشياء و توصيفات معينة ، أنا أميل إلى تسمية شعر الحب لأنّ في الحب تفاعلا بين حياتين و بين كيانين و ينجم عنه نوع من الشرر الخاطف للبريق إلى الصعقة الخاصة التي تولد الحياة كما تولد الشعر ، و هذا الشيء ينسحب على الشجر عندي ، فالأشجار التي تناولتها في مجموعتي هي الأشجار فقط التي أعرفها عن كثب و التي أصغيت إليها والتي أدمت أناملي أحينا و تبادلت معها أحاديث و أسرارا و خلجات والتي حينما غادرتها شعرت بأنّها تطاردني أينما ذهبت ، و بالمناسب لابد أن أقول لك شيئا مهمَّا أنّ هذا الكتاب بدأ من حلم حدث لي و أنا نائم، إذ سمعت قرعا على الباب و أنا نائم في شقة ببيروت في أحد الطوابق العالية ، و كنت أسكن وحدي فقمت ، و حين فتحت الباب وجدت أن من ينتظرني لدى الباب أشخاص كثيرون عرفت منهم أمي و أبي و ربما جدي يعني أسلافي الأقربين والبقية كانوا أسلافا بعيدين لكن عرفتهم من ملامحهم و معهم شجر و بعض الحيوانات الأليفة و غير ذلك ، قلت لهم : ماذا جئتم تفعلون قالوا لي : جئنا لكي نستردك ثانية إلى القرية بجنوب لبنان ، قلت لهم : و لكنّي غادرتها منذ زمن ، فقالوا لي هذه المغادرة ، مغادرة مؤقتة غير نهائية ، فقالوا لي لا نحتاج إلى شعرك نحتاج إليك نحتاج إلى وجودك الحي ، إحدى الأشجار قالت لي:

هل تذكر حينما هبطت من القرية في الجنوب إلى بيروت ، و هل تذكر أنّك كنت ترى الأشجار تعود إلى الوراء فيما كانت السيارة تتقدم إلى الأمام ؟ قلت : نعم ، أنا من بين الأشجار التي كنت أعود إلى الخلف لكي أحتلّ بالنيابة عنك المكان الذي سيصبح قبرك فيما بعد ، شيء غريب ، غير عادي ، و إذا لاحظت في نهاية القصيدة الثانية (كيف لي أن أتمّ القصيدة) في دون صراخ الأشجار، آخر القصيدة :

لذا لن يتمّ القصيدة عني ،

إذا متّ ،

غير الشجر

و هذه بدايتها كما وردت في الديوان (صراخ الأشجار):
لم أر الضوء في أوّل الأمر،
إذا لم يكن بَعْدُ ضوءٌ
لتمشي الحياة على هَدْيِهِ
بل رياحٌ تدور على نفسها
كالأفاعي
و تنهش جلد السماءْ
لم أر الشمس من فُرْجَةِ البابِ
لما ولدتُ،(01)
و هذه الحادثة قلّ أن يعرفها أناس آخرون ، و لكن حدث بالفعل و هذا يؤكد لي أنّ العلاقة بين الحادثة و الحلم كما حصل بالنسبة للشاعر الانجليزي( كولوردج ) في إحدى مجموعاته و أظنها (البحار القديم) رآها على شكل حلم .
  السعيد موفقي:
كانت محنة جنوب لبنان سببا رئيسا في تكوين شخصية الشاعر شوقي بزيع و لو كانت متأخرة ، لأنّ شوقي بزيع الصبي ليس هو الشاب و ليس هو الكهل حيث استطاع أن يستلهم من هذه التجربة مادته الشعرية المتميّزة ، على سبيل المثال في قصيدتك الرائعة (الأربعون) في ديوانك (مرثية الغبار) و التي تقول فيها :

أن تكون على قمَّةِ العمرِ
من
دون
ثقلٍ ،
لكي تتوازنَ في راحتيكَ الخسارةُ و الربحُ ،
أو
تتساوى على جانبيكَ الرياحُ الحرونْ
أن يتقاسمَ تَرْكَةَ روحِكَ ضدّانِ :
طفلٌ و كهلٌ
وصعودٌ و سهلٌ
ووقارٌ وجهلٌ
و أن يتعاقب في لحظةٍ فوق سطحكَ
صيفُ النبيِّ
وسيفُ الجنونْ
أن تعود إلى أوَّلِ النبعِ كي ترتوي
ثمَّ لا تبلغُ الماء ،
أو تبلغُ الماءَ بعد فواتِ الأوانْ
وتدركُ أنْ قد خسرتَ الرهانْ
و أنّكَ تُخْلي المكانَ لمن هُمْ أقلّ ذبولاً

لاحظت شخصية شوقي بزيع و هو يترقى في هذه التجربة بشكل ملفت ، و يصبح شاعرا جنوبيا منافحا عن القضية الإنسانية من خلاله؟
  شوقي بزيع :
أنا واحد ممن يطلق عليهم ذات يوم في أواخر السبعينات بشعراء الجنوب اللبناني و هناك من تنكر لها و هناك من تعامل معها بشكل طبيعي و عادي و لا أتنصل منها و هي ليست نقيصة ، ليست تهمة هي توصيف جغرافي لبعض الشعراء الذين صادف أنمهم جميعا من الجنوب لكن السؤال الذي يجب أن يطرح ليس التسمية صح أو خطأ بل لماذا معظم شعراء لبنان هم من الجنوب ؟
هذا السؤال وجيه جدا و أنا أعتقد أن هذا الشيء ليس من دروب الصدفة العمياء و لكن له أسبابه من هذه الأسباب ما يعود إلى التاريخ و منه ما يعود إلى الجغرافيا وإلواقع الاجتماعي و المعيشي و من هذه الأسباب بعد تاريخي ذو صلة بواقع كربلاء التي شكلت الخزان الهائل من الحزن و من المعاناة و المكابدات التي عاشها الجنوبيون و أعتقد أن في هذه الواقعة الكثير من العناصر الشعرية الجنوبية كما ألهمت شعراء العراق على سبيل المثال هذا الدم الذي رفض أن يتخثر والذي بقي طازجا باستمرار و بقي ملهما لحالة الحزن من جهة و الغضب من جهة ثانية و خاصة ملهما للمقوامة الوطنية اللبنانية في الجنوب الذي استطاعت أن تلحق أكثر من هزيمة لإسرائيل مستلهمة الروح الحسينية، هذا يعد جانبا من الموضوع ، طبعا أنا لا أتحدث عن موضوع مذهبي أنا أتحدث عن بعد حضاري و عن بعد عاطفي وجداني ، و الجانب الآخر جغرافي بمعنى أن جغرافيا الجنوب اللبناني و أنا أؤمن بما يسمى بعبقرية المكان ، جغرافية مميزة جدا لأنها تجمع بين صلابة الصخر حيث أن الجنوب مكون من مجموعة هضاب متوسطة الارتفاع و بين سطح البحر مباشرة و بين ثمان مائة متر على سطح البحر هي هضاب متوسطة الارتفاع ليست جبالا عالية جدا ما عدا جبل الريحان
و هو بعلو ألف و ستمائة متر و هو أيضا جزء من الجنوب ، إذن هذه الجغرافيا ، جغرافيا الجنوب تجمع الصلابة و بين الانفتاح الذي تشكله الرمال المسجاة عند الشواطئ و الذي تشكله المدن المفتوحة على الخارج و من هذه المدن كانت (صور) التي أسست لمملكة قرطاج بتونس حين خرجت عليسة هاربة من بطش أخيها و جاءت تؤسس مملكة هذه لها بعد رمزي مهم جدا كأننا نقع في هذا التقاطع بين صلابة الانتماء على الأرض و بين رغبة الانعتاق من ربقة أو أسر أو قيود الواقع باتجاه نداءات المستقبل أو نداءات المجهول هذه لها علاقة أيضا بشعرية الجنوبية فإنّ قصة التشيع وحدها في البقاع اللبناني ، هناك قسم كبير من الشيعة لكن لا يمتلكون شعرية الجنوب ، إذن هناك عامل إضافي أيضا هو عامل القرب من إسرائيل حيث فرض علينا أكثر من ستين عاما أن نواجه بشكل و دائم و يومي و مستمر أعتى أنواع الغزو و الاحتلال و القهر و الذي مورس في حق الجنوبيين و التي ولدت فيما بعد طبعا المقاومة الوطنية و الإسلامية ،أنا مثلا قريتي هدمت في حرب تموز الأخيرة قبل ثلاث سنوات هي قرية زبقين الواقعة قرب صور على مرتفع يطل بحر الأبيض المتوسط ،خسرت أكثر من عشرين شهيدا من أقاربي بين مدنيين و مقاتلين هذا طبعا لا شك يضف أيضا إلى معاناة الجنوبيين معاناة أخرى ، أيضا الجنوب اللبناني من الأطراف اللبنانية و هو لم يلحق بلبنان إلا قبل عقود من الزمن و قبلها كان يتبع أحيانا لولاية عكا بفلسطين و أحيانا بولاية دمشق بسوريا و لذلك هذا الشيء حوله إلى جزء من الأطراف اللبنانية و ليس من المتن اللبناني أو القلب اللبناني فالأطراف مهمشة وتقيم في الظل وهذه القسوة التي فرضتها الحياة و فرضها الواقع اللبناني هي التي خدمت الشعر بشكل أو بآخر و هي التي سمحت له بأن يترعرع في ظل شروط مناسبة ملائمة تماما.
  السعيد موفقي :
لا زال هناك صراع في الشعر بين مؤيد لما يسمى بقصيدة النثر و بين مؤيد لقصيدة التفعيلة ، و لاحظت اهتمامك بهذه القضية و خاصة في آخر لقاء أجريته في هذا الموضوع ، و أوضحت كثيرا من القضايا المتعلقة بقصيدة النثر و لكنك لم تكتب في قصيد النثر ؟
  شوقي بزيع :
أنا لم أكتب قصيدة النثر ، و أوافق تماما على اعتبار قصيدة النثر خيارا أساسيا من خيارات الشعر العربي أنا أعتقد بأن الشعرية ممكن أن تتجلى و تتمثل في الكثير من الخيارات قد تكون في اللغة المحكية أو في اللغة الفصحى قد تكون في القصيدة العمودية في قصيدة التفعيلة في قصيدة النثر هي مبثوثة في العالم مبثوثة عبراللغة و مبثوثة خارج اللغة أيضا أي في الطبيعة و في الجمال الإنساني و جمال المرأة و في كل شيء.
  السعيد موفقي :
هل ترى بأن قصيد النثر تخدم قصيدة التفعيلة أو القصيدة العمودية ؟
  شوقي بزيع :
كل شيء شعري يغني الشكل الآخر و لا ينقص منه على الإطلاق و هذا بالعكس هناك نوع من التفاعل بين الأساليب يدحض هذه الشوفينية و هذه العصبية التي نلمحها عند البعض الذين يمارسون فكرة الاستئصالية للأسف تماما مثل استئصالية الدنيا أنهم ينفون الشعرية عما لا يشبههم بعض شعراء قصيدة النثر يتنكرون شعر التفعيلة و يعتبرونه منقرضا و بعض شعراء التفعيلة يتنكرون لشعرالعمودي و الذي سبقهم ويعتبرونه منقرضا و هكذا دواليك ، أنا رأي أن هذا شيء يبدو ميزة عربية ليست موجودة في الغرب ، ممكن الأشكال أن تتعايش و تتجاور و ينتمي بعضها من بعضها الآخر ...أنا سئلت عما إن كنت أكتب قصيدة النثر ، قلت أنا لا أكتبها ، ليس لأني أرفضها و لكني لا أعرف كتابتها ، أنا مفطور أصلا على الإيقاع الشعر يولد عندي متشحا و متحدا بإيقاعه هذا شيء ليس في متناولي لا أستطيع فكاكا منه و لأنني مفتون بالنثر فأصدرت حتى الآن مجموعتين نثريتين كتابين نثريين جمعت فيهما ما أحسست بأني راض عنه من مقالات و من مقربات نثرية لبعض الموضوعات ، سترى قصاصات كثيرة ذاتية أراء في الشعر ،في الحب ،في الموت في الحياة في المكان في هذه الكتابات النثرية ، و بالمناسبة هناك أمر طريف في هذا الخصوص و قلت في إحدى مقدماتي في أحد كتبي النثرية : إن النثر عندي لا يتعارض مع الشعر بل يشكل لبنته الأولى بعض قصائدي كانت بالأساس مقالات نثرية شعرت بأن هذه المقالات هي نويات جمع نواة بقصائد و من ثمَّ حولتها إلى قصائد لحقا
من هذه القصائد قصيدة قمصان يوسف و هي قصيدة شهيرة كانت عبارة عن دراسة حول سيرة يوسف و اكتشفت كيف أن هذه السيرة مبنية على القمصان بشكل أساسي و أن لكل قميص نكهته الخاصة ثم تحولت إلى قصيدة ، و فيه قصيدة بعنوان(تعديل طفيف) منشورة بديوان (مرثية الغبار)

غامضاً كان،
وحيدا ً ،
يُرْهِفُ السَّمْعَ لأقصى عشبةٍ تسقطُ عن ظهرِ الينابيع
ويصغي لأنينِ القصبِ المفطومِ
عن
ثدْي الهواءْ
لم يكن يذكرُ من أعوامِه السبعين
إلاَّ المسْرَبَ الضيِّقَ بين البيتِ والتابوت ،
أو بين ثغاءِ الروحِ والماعزِ ،
لم يبحثْ عن الأفكارِ في القاموس
بل يستولدُ الأزهارَ من كُمِّ الفضاءْ
ويوازي ما تصبُّ الشمسُ
في معطفهِ الرثِّ من الألوان
كي لا يدَّعيها الشعراءْ
كانت مقالا نثريا ثم أصبحت قصيدة ، قصيدة (دير قانون النهر):
في زمنٍ كانت فيه الأرضُ سديماً و الساعةُ صفرْ
لم يكن الناسُ سوى أسماكٍ
تتضاعفُ
في مرآةِ الدَّهرْ
و طيورٍ تتكرَّر في مجرىً لا ماءَ بهِ
و تشيِّعُ موتاها بدموعٍ صافيةٍ
ظَلَّتْ تتعاظمُ
حتى صارتْ نهرْ
و غدتْ للنهرِ ضفافٌ
يتكاثرُ في هدْأَتها الفلاَّحونَ
و يبْنون على المنحدراتِ منازلَ من قصبٍ
و قصائدَ شعرْ
و جرى النهرُ إلى البحرْ
و الناس إلى القبرْ
و جرتْ أعمارُ الناسِ وئيداً في النسيان
تفتِّحُهُم عند طلوعِ الشمس رياحٌ واحدةٌ
ما تلبث أن تغمضهمْ
عند نهاياتِ العمرْ
 
ذاتَ صباحٍ من كانون
أصيب النهرُ بشيء كالمسّ
و أحسَّ بأنّ البحرَ يناديهِ
فراحَ يضاعفُ سرعتهُ
و أحسَّ بأنَّ ذئاباً
تفلتُ من أقبيةِ الريحِ لكي تفقأَ عينيهِ
فغادر مجراهُ
و أنشبَ في عنقِ الفلاَّحينَ مخالِبَهُ الخضراءَ
و دقَّ بفأسٍ داميةٍ أعناقَ الزهرْ
يا ليـ .. طا .. ني(04)

أسطورة عن قرية جنوبية متخيلة أيضا كانت مقالا و أصبحت قصيدة ، ليس هناك من تعارض ، النثر لا يجهض الشعر و لكنه يضيء له الطريق .
  السعيد موفقي :
هناك أيضا حركة نقدية موازية جاءت من وراء تنظير فلسفي جديد أسقطها بعض النقاد العرب و لعلك تميل إلى النقد ، قرأت لك مؤخرا بعض المقالات
في هذا الصدد خاصة ما تعلق منها بالرواية ، هل ترى بأن النقد الحديث يخدم الشعر عموما ؟
  شوقي بزيع :
بطبيعة الحال النقد يخدم الشعر ، و لكن لولا الشعر لما كان النقد و لا يمكن أن نقول لولا النقد لما كان الشعر، لأنّ حاجة النقد إلى الشعر هي حاجة وجودية كيانية ولولا الشعر ما كان النقد و لكن لا نستطيع أن نقول عكس الآية لولا النقد لما وجد الشعر ، الشعر موجود بذاته و لكن هذا لا يمنع من أن النقد يضيء الشعر بما له من تأويلاته يفتح له مسالك أمام قراءات متعددة و يضعه أمام القارئ ، وليست إلزاما على القارئ و لكن ممكن القارئ أن يستنير بها ، فبعض النصوص النقدية التي توازي الشعر إذا كانت ذات عمق معين و لغة عالية مثل نصوص بشلير في الأدب الفرنسي تخدم المادة الأدبية بشكل أعمق و أرقى .
  السعيد موفقي :
الكلام معك ممتع و مهم و لولا ضيق الوقت و التزاماتك لخضنا معك في قضيا أدبية أخرى و ما أكثرها ، و على العموم نشكرك أستاذ شوقي بزيع على هذه الجلسة الطيبة و كان بودي أن أبقى معك لوقت أطول في العاصمة و لكن سنبقى على تواصل .

هوامش:


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى