الخميس ٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
لمياء المقدم:

الكتّاب يعيشون في أمكنة افتراضية لا وجود لها

اسكندر حبش

«بطعم الفاكهة الشتوية»، عنوان المجموعة الشعرية الأولى للشاعرة التونسية لمياء المقدم، صادرة حديثا عن «دار النهضة العربية» في بيروت، وتمتاز بكتابة تلقائية، كأنها كتابة «برية» أو كتابة «فطرية» مثلما تقول الشاعرة.

حول كتابها كما حول بعض القضايا الأخرى كان هذا الحوار.

 لنبدأ بسؤال شبه تقليدي، كيف تقدمين نفسك إلى القارئ؟ وبخاصة إلى القارئ اللبناني الذي يكتشفك مع أولى مجموعاتك؟
 لمياء المقدم شاعرة ومترجمة تونسية أقيم وأعمل في هولندا، غادرت تونس سنة 1995 ومنذ ذلك الحين وأنا في تواصل مستمر يشبه إلى حد كبير الدوران لا يعرف الملل بين ذاكرتي والمكان الذي ولدت فيه، فكما تعرف أن الغريب يحيا بقوة في ذاكرته. أزور تونس باستمرار لرؤية الأهل والأصدقاء. أنا كائن بسيط ومعقد في آن، وأعتقد لولا هذه المفارقة لما كتبت الشعر وما استطعت أن أنظر إلى العالم بطريقة مغايرة. أقضي معظم أوقاتي في القراءة والمطالعة. الشعر بالنسبة إلي حالة لا يسعني وصفها، ولو توصلت يوما إلى وصف هذه الحالة لتوقفت ربما عن كتابة الشعر، أكتب أحيانا، وأصمت حينا، ومع هذا كله أحب أن أتواصل مع هذا النداء الخفي الذي تردده أصدائي الداخلية.

 إذاً لست في هجرة أو منفى كما يتراءى للبعض وبخاصة أنك حزت العام ,2001 الجائزة الأولى عن الشعر من «مؤسسة الهجرة الهولندية»؟
 قد تكون بعض المقاطع التي وردت في مجموعتي الشعرية أوحت بفكرة المنفى أو التيه فالشاعر، كما تعرف، يعاني من غربة حقيقية إزاء وجوده في هذا الكون الواسع، إنه يسبح في عالم الأسئلة التي لا تعرف جوابا، بل وحتى التي لا تشترط أن يكون لها جواب، وإزاء هذا الشعور قد يتولد الإحساس بالنفي. وفي محاولة للتعويض عن خسائره المستمرة فإن الشاعر يحاول جاهدا أن يوحي لنفسه من خلال قصائده وترميزاته بوطن، وأرض، وسعادة مفترضة بالرغم من أن النفي والغربة المستمرة تكاد تكون الصفة الأكثر التصاقا به.

أما حول جائزة الهجرة، فقد حصلت على الجائزة الأولى سنة 2001 في مجال الشعر وهي جائزة سنوية تنظمها مؤسسة الهجرة للثقافة والفنون في هولندا. ويشرف على هذه الجائزة نخبة من المثقفين العرب والهولنديين. وقد سلمني الجائزة آنذاك وزير الهجرة والتجنيس الهولندي (فان بوكستل).
 هل شكل المكان الجديد كتابتك، هل أثر عليها؟
 بالتأكيد، أحيانا كنت أقف عند مصطلحات ليس لها مدلول ثقافي أو معرفي معين في الثقافة العربية وكنت أتردد قبل استعمالها لكنني في النهاية كنت أترك الخيار للسياق ليحدد. الطبيعة في نصوصي طبيعة غربية، تجد البحيرة، والبجع، والعشب الأخضر والأشجار المتدلية على وجه الماء، والمرأة التي تجلس على كرسي تنتظر أن يبول كلبها، وناقوس الكنيسة. في المقابل فإن ملامح البيئة العربية حاضرة بالقوة في السياق الدلالي للنص.
يتفاعل الشاعر بقوة مع محيطه الخارجي الذي يسعى إلى إعادة تشكيله في نصوصه وفق منطقه الخاص، وبالتالي فإن علاقته بالمكان متفجرة على الدوام. ومن هنا فإن الصور البصرية التي يلتقطها الشاعر في محيطه تستحيل إلى حقل دلالي ومرجعية فكرية يستقي منها لغته وأفكاره. غير أن مدلول المكان بالنسبة للشاعر يختلف عنه بالنسبة لغيره، فالشاعر غالبا ما يعيش في مكان افتراضي غير موجود.
 تتحدثين عن نداء داخلي في الكتابة هل معنى هذا أنك تؤمنين بأن الشعر نوع من وحي ما، وليس عملا كتابيا مجردا؟
 هذا السؤال ظل يطرح منذ أفلاطون إلى اليوم . الشعر في نظري ليس نوعا من الوحي فقط وليس عملا كتابيا مجردا. انه أكثر من ذلك. الشعر فعل إدراك. وجبران خليل جبران يقول «الشعر إدراك للكليات». الشعر أرحب مما نظن وأغنى وأجمل. صحيح انه يتطلب إلهاما قريبا من الجنون لكنه لا يصدر إلا عن فكر سليم ومدرك، هذا لا ينفي أن هناك أدوات صناعة مختصة بالشعر بوصفه قولا لغويا وإنشاء.
قد يتكون الشعر في الفضاء، في عالم غيبي لاهوتي فوقي شفاف لكنه يبلغ نفسه فقط حين يتأرضن، بعبارة جيل دولوز.

الاختيارات الواعية

 لو عدنا إلى قراءاتك الأولى، من هم الشعراء الذين أثروا بك؟ من هم الذين حملوك إلى القصيدة؟ كيف جئت إليها؟
 أتذكر بوضوح مطلق كيف كنت أقرأ قصائد الشابي وأبكي إذ ليس بوسع فتاة صغيرة مثلي أن تقرأ الشابي دون أن تبكي، كنت أعيد ما قرأت لأمي وأحتمي بنظراتها من صوت ارتطام كلمات الشابي بحسي المرهف. محمود المسعدي كان له أيضا وقعه الخاص جدا على نفسي. بعدهما بدأت أقرأ للبياتي، والسيّاب، ونازك الملائكة، وأحمد أمين، وإيليا ابو ماضي، وجبران خليل جبران، وغيرهم، إذ كل هؤلاء الشعراء كانوا ضمن المقرر الدراسي. محمود درويش كان أول اختياراتي الواعية بعد أن عرفت كيف أتسلل إلى الشعر وذائقته المدهشة، تأثرت به، أعني محمود درويش، على غرار الكثيرين من شعراء جيلي، وكنت أعتقد أنني كلما اقتربت منه اقتربت من الشعر. بعد هذه المرحلة بدأت أعي أهمية المساحة التي يشغلها الشعر في فكري ووجودي وأصبحت أتابع ما ينشر وما يكتب وانفتحت ذائقتي على كل ما هو جميل ومختلف.
لم أسع وراء كتابة القصيدة. هي التي جاءت إليّ .. وأعتقد أن الشعر وملكوته العظيم هو من يختار أنبياءه. أنا أحببت الأدب ككل، قرأت روايات كثيرة وكنت أجد فيها عالما بديلا ومنفذا خارج هذا الكون المتشابك، كنت أقرا كل ما تقع عليه يدي، قرأت البرتو مورافيا، وامبرتو ايكو، ونيرودا، وكولون ويلسن، ودوستويوفيسكي، ومكسيم غوركي، في سن مبكرة جدا، وكنت أميل إلى قراءة الميثولوجيا، واستهلكت كل ما استطعت الحصول عليه من المكتبة القريبة من بيتنا في هذا الشأن، ربما لم أختر كتابة الشعر عن وعي بقدر ما كنت أبحث عن طريقة لتفريغ شحنة أحاسيس وأفكار غير مشذبة تعتمر في داخلي لم يكن بمقدوري معرفتها وقتئذ. جربت الموسيقى، والرسم، وحتى التلحين، حتى أطلت علي القصيدة برأسها ذات مساء مثقلة بغيومها الدافئة التي ما زالت تمطرني وأشعر ببللها كلما انتهيت من كتابة نص جديد.
 ما هو هذا الجيل الذي تنتمين إليه؟ هل لك أن تحددي ملامحه؟
 لست أدري إذا كان هناك جيل أنتمي إليه، فأنا أمارس قلقي، كما أسميه، منفردة ولا توجد تكتلات شعرية أنتمي إليها، ربما هناك جماعة عمرية أنتمي إليها شاركتني الكتابة في مضمار هذا الشوط الشعري... المجايلة، في التدليل السياقي، اصطلاح قديم لا أعتقد أنه يتناسب والمرحلة الحالية... أخوض التجربة بمفردي، ولا أرى أي ملامح لجيل أنتمي إليه... فالكتابة مشروع فردي بامتياز.

الحالة الفطرية

 لا بد لقارئ شعرك، مثلما يظهر في مجموعتك «بطعم الفاكهة الشتوية»، أن يشعر بهذه التلقائية التي تفردين لها مساحة واسعة خلال الكتابة. هل ثمة رغبة، في كتابة هذه الحالة الأولى، أو لنسمها «الحالة البرية» للكتابة؟
 قد تكون كذلك. وأنا أسميها الحالة الفطرية، الحالة المجردة، الحالة التي تتسم بنقاء الأشياء وصميمها، الحالة التي لا لبس فيها، الحالة التي تتسم برصد الحس الأول والذبذبات التي يحدثها، هذا الأمر غالبا ما يوقعني في الذاتية الشديدة، لكنها ذاتية مقصودة في جزء كبير منها، فأنا أؤمن بأني كلما اقتربت من الخاص أقترب من الإنساني، وكلما ارتددت إلى داخلي أراني وقد انفتحت على الآخر، الإنسان. ما زلت أحاور ذاتي وآخذها بعيدا بعيدا في محاولة للكشف عن هواجسها، أحلامها، مخاوفها، آلامها، وأفراحها في محاورة أعتبرها مشروعة، ويجب أن لا تتقيد بمرحلة معينة من مراحل التطور التي تمر بها التجربة الشعرية. وليس لها علاقة بنضج الشاعر من عدمه، هناك شعراء كبار يكتبون عن أشد الأشياء خصوصية وذاتية، أحب هذا التوجه وأشجعه، أحيانا أكتب عن أشيائي اليومية البسيطة التي تحيط بي، عن التجارب الأولى والأحاسيس التي ترافقها، أو لنقل الحالة الأولى أو ما أسميتها أنت بالحالة البرية.
 لنقل إن ثمة طريقين في الكتابة عندك، أحيانا تلجئين إلى الصورة الخاطفة التي تشبه اللمحة وفي أحيان أخرى، هناك هذه الجملة السردية الطويلة. هل من خيارات واعية في ذلك، ولماذا؟
 أكتب نصي وأنا في حالة نفسية وفكرية معينة، الصور الخاطفة يفرضها سياق معين والشيء نفسه ينطبق على الصور الطويلة أو المستطردة. لا أتقيد بإيقاع محدد رغم أن الفكرة قد تكون واضحة بالنسبة إليّ منذ البداية، طول النص أو قصره له مفعول مباشر على إيقاع النص الذي أحب أن أتلاعب به بقوة. لذا تجد قصيدتي غير مرتبة في ظاهرها .. حتى ان بعض النقاد ممن قرأوا قصائدي ذهبوا إلى القول ان قصيدتي مرتبكة ومتفاوتة على مستوى النص الواحد.. أنا أكتب القصيدة بذهنية صافية وحس مشوش .. وهذه هي طريقتي في كل النصوص التي أنجزتها تقريبا .. قد أبدأ النص هادئة وبتركيز شديد لكنني أتسارع إلى حد الإنهاك أو العكس... النص بالنسبة إلي رقصة صاخبة أرقصها وأنا في حالة توحد عجيبة.. أظل أدق على الأرض بأقدامي وأنتفض وأهتز بسرعة متفاوتة إلى أن أهمد.. لهذا أنا أعاني كثيرا في كتابة نصوصي .. وهو ما يبدو واضحا أيضا.

 ثمة اشتباك دائم مع اللغة، حتى حين تختارين عبارتك تبدو كأنها تسائل اللغة نفسها. ما رأيك؟ هل نستطيع القول إنها كتابة قلقة؟
 أشتغل كثيرا على العبارة على عكس الفكرة التي قد تتنزل في إحساس ما أحسه في تلك اللحظة (ليس دائما).. اللغة وإيقاع النص، بما في ذلك حالتا التعثر والانسياب أو التباطؤ والتسارع التي يمر بها النص، هما القناة التي من خلالها تعبر الفكرة إلى الجانب الآخر. الجانب المكتوب والمقروء.. أختار عباراتي بشدة وأحاول أن أجعلها متجانسة مع الفكرة.. أحب استعمال العبارات التي لها أكثر من دلالة.. هناك عبارات إذا قرأتها في سياق معين توحي لك بالإيجابية وإذا قرأتها في سياق آخر توحي لك بالسلبية.. هذه العبارات التي تتجاوز مفهومها إلى نوع من الالتباس الحسي هي الأقرب في توظيفاتي اللغوية والاصطلاحية. أحاول أن أفرد للكلمة في نصوصي مساحة تتجاوز الأبعاد الأفقية والعمودية، أبحث باستمرار عن الكلمة المكعبة والصورة المكعبة التي تذهب إلى حد اختراق نفسها.

اسكندر حبش

عن السفير اللبنانية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى