السبت ٥ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم محمد عطية محمود عطية

بنت ليل، وواقعية مدهشة

يستهل "محمد عبد الرحمن الفخرانى" مجموعته القصصية "بنت ليل" الصادرة عن سلسلة إبداعات بهذا الإهداء اللافت والمكمل لعناصر مقومات المجموعة:

"إلى ومع إنسان ضد جيوش، الهزيمة، ضد كل ما يقهر ويؤلم إنسانيته ضد كل ما ينزع عنه ستر الله"

إذن فنحن أمام كاتب،، وكتابه الذى يحتفى بالإنسان احتفاءه بالعزيمة، يخوض معركته مع الإنسان ضد قهره وألمه وانكشافه المسئ.

ولعله قد أجاد فى تغليف نصوصه بهذا الغلاف من الرقة الإنسانية، المشتبكة بواقع صعب تتشابك أحواله على تنوعها، دفعا نحو واقع أجمل تكون من حلم وامتلك عزيمة الرسوخ على أرض الواقع الصلبة، مع ما يقدمه من رؤى يغلب عليها هذا الطابع الأسيان الممتزج بهذه الرغبة العارمة فى رسم البسمة على شفاه شخصياته، رغم ما يكمن تحت سطوحها من تنوع لأسباب الألم والشجن، ومن دواعى الحنين والشوق إلى النصف الآخر المكمل لمعنى الحياة المفقود، حيث تتجسد أغلبها وتنبع من داخل ضمير الكاتب، وتكمل لها ظواهر الحياة بعض السمات الأخرى مما يكسبها طابع البوح المتدفق الهادر والهادئ معا.

إذن فهى مويجات متتابعة تتفاوت من النعومة إلى الشدة، فى دفقات تتصدرها النصوص الثلاثة الأولى: أربع برتقالات بطعم المطر، من مذكرات فتاة لا تعرف الكتابة، أحلى من حلاوة الروح؛ فالشخصية المؤثرة فى النصوص الثلاثة هى شخصية الأنثى التى تفعل ويدور حولها الفعل الآخر الموازى (عملية القص) ويعبر عنها الكاتب كمنفذ من منافذ إحساسه بنموذج المقهور النبيل وان اختلفت زوايا المعالجة من نص لآخر، وجاء اعتماده على ضمير استطاع به أن يفتح زوايا العمل من الخارج، إسقاطا على الداخل واستبطانا له هو ضمير الغائب فى نص/ أربع برتقالات مع استخدام ضمير الأنا المتكلم الراوى المشارك فى صناعة الحدث فى نص / مذكرات – حلاوة الروح.

فى نموذج/ أربع برتقالات بطعم المطر.. أفلح الكاتب فى استخدام كاميرا حواس الراوى المتوحد مع شخوص نصه بما يجعلك تشعر وكأنك خلف ذات الكاميرا ترصد السكنات والحركات والأنفاس، حتى تضعك على أعتاب حدث متمثل فى عبارات متبادلة عميقة تجعلك تكمل مشهدية النص بأذنك، ثم يعود الحوار لدفع الحدث وهكذا، عبر مسرح الحدث المغلق فى أبعاده المادية، المتسع لرحابة بانوراما حية لحياة يعتصرها الإحساس بالفقر والقهر معا. فيما بين عجز الأب عن تلبية احتياجات بيته بانطفاء الشمعة فى عينيه، ومحاولة زوجته بعث الدفء فى أوصاله وأوصال البيت رغم ما يعتريها من نقص مادى فى نواح عدة.

تقول البنت: "ـ جيبت البيانو أبو صوابع يا بابا؟

ينطفئ نور الشمعة فى عينيه، يحنى رأسه صامتا.

الأم تمنع (غضب السماء).. تدفع صواعقها، تقول لطفلتها

ـ انتى مش ه تاكلى مع بابا؟

الابنة تضئ الشمعة " ص 8..لاحظ دلالة الشمعة

وبين الإحساس بهذ الرعشة التى تفصل الإحساس بالبرد عن سريان الدفء وما بينهما من مزج واقعى بين الإحساس بالحب ومعوقات الحياة الكريمة وما آلت إليه حالهم من شظف إلا أن القلب لا يستسلم لهذا اليأس المطبق، وكما أضاءت البنت الشمعة مضت لكى تزيح ـ مع أمها وأبيها وأخيها الرضيع الذين توحدوا باقتسام ثمرة البرتقال ـ هذا الزخم الثقيل الممتزج بطعم الحياة المر فى مشهد متناغم معبر

"الطفلة تنظر لأبيها.. تنفض عنها البرد.. تحتضن المطر..

الأغنية اللى بنحبها يا بابا.

يلقى بقية سيجارته تحت قدميه، يضع يديه فوق المنضدة بين الأطباق.. يبدأ اللحن

..........

..........

الشمعة تضحك، تستعيد جسدها المحترق.. يغنى لابنته، ترقص بين قدميه، تقبله وتعطى للأم مثلها" (ص12) بهذا التناغم فى السرد، واللانمطية، ودلالة اللغة المشحونة كما فى "الشمعة تضحك، تستعيد جسدها المحترق" وغيرها المتناثر فى نصوص المجموعة مما يعطى للكلمة مدى واسعا تبحر فيه، أفلت النص فى رأيى من فخ التقريرية فجاء سلسا عميقا فى معظم أجزائه، رغم بعض العبارات التى لم ترق الى هذا الهارمونى البديع مثل "الأم تمنع غضب السماء.. تدفع صواعقها" فقد وقعت هذه الجملة فى فخ المبالغة غير المفيدة لحركة النص.

***
"بنت ليل" وواقعية مدهشة

تحولت بنت الليل فى نص الفخرانى من خانة العهر إلى خانة الطهر والعفاف، فقد كسر النص المفهوم النمطى لهذه الصفة/ المهنة، إلى رحابة مفهوم آخر يتعثر فى دروبه المضيئة من لم يكن له بعض صفاء المريدين:

"تقضى ساعات فوق سجادتها، فى حجرها مصحفها، وقنديل نور يتدلى من السماء فوق رأسها تمام.. تقف على حافة اليوم، تتوضأ بماء الغد.. تمد جسرا أخضر يصلها للسماء السابعة، تجلس عند منتهاه تملأ قلبها بحب (الله) وتستغفر لأجل أشياء بسيطة ربما لم تفعلها" ص 64

هذا التوحد مع الخالق، الذى يتعالى شأن الحب فيه، ويرتقى إلى منزلة وعلو قيمة الرحمة، التى هى هبة الخالق للمخلوق – والجزاء "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" قرآن كريم، فإحسان العبد إلى ربه بحبه له، وفى المقابل إحسان الرب إلى عبده هو الرحمة، وهل من بديل؟"

تبتسم وتسأل (الطبيب العاشق) عن شئ أسمى من الحب فلا يرد، ويهز رأسه متسائلا.

تجيبه بهدوء: ـ الرحمة" ص.. 69.. وهذا الارتقاء بالنفس والروح، الذى يجمع بين جلال الموت وحب الحياة المفضى إلى ذات الموت، هذا التجسد الرائع للعالمين المتكاملين، عالمى الموت الحياة فى شخصها؛ فبنت الليل اللحادة نهارا، هى من تداوى المرضى ليلا بفعل الإحياء المتوارى فى عظمة معنى الدواء والشفاء

"... ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" قرآن كريم

وهذه الرحمة بمخلوقات الله، واحتوائها لمن لا مأوى له ولا كفيل من الأطفال

"فى هذا المساء كانت تجمع أولادها وبناتها ـ اللقطاء ـ بملابسهم البيضاء تجلسهم على الأرض بمواجهتها وتمسك بيدها المصحف يقرأون عليها ما حفظوه.. كل منهم يكمل من الآخر ثم يعود إليه الدور، وتتعدد الأدوار حتى يقرأوا المصحف كله" ص73.. هذا الخير الذى يتقطر من بين يديها مع هذا الصد الجميل لمن ترجو العفاف، وترجو الله، وهذا الشد والجذب بين الروح والجسد.. روح الصفاء فيها، وشهوة الجسد فى الطبيب الذى حولته بصفائها وتراتيلها وتسابيح قلبها إلى مريد!!!

تلك هى أسطورة بنت ليل، أسطورة الخلاص والإنعتاق من طوق العالم الفانى إلى رحابة العالم الحق.

صعد بنا النص إلى ذروة وعمق الإحساس بالروح، حتى تصحبها الكائنات وتنصاع لها، فتحوطها الروح فى سرب القطط، وتصحبها الروح فى أسراب الحمام للارتقاء نحو السمو والعلو السماوى فى لحظة من لحظات الإنعتاق من الأسر.. وهذه المكافأة الدنيوية من أبناء لها بالحب والرحمة..

"فى الصباح كان عشرة من أطفالها بملابسهم البيضاء يمرحون حولها، ويرفعون شهاداتهم المدرسية بأيديهم.. أدخلتهم حضنها وهم يقبلون كل ما فيها، كان اليوم هو عيد الأم" ص 74، لتحط بنا الأسطورة على أرض الواقع فى صورة من صور الوفاء.

يلعب الحنين إلى الماضى – المكان – حميمية الذكريات، دورا حيويا فى تكوين بعض نصوص المجموعة، فنجد الراوى/ العاشق لبراءة طفولته يلجأ إلى هذه الكوة المشعة من حياته صغيرا فى " شمس.. قمر،" حيث يلعب على ثنائية الشمس والقمر/ النهار والليل، فالعاشق الصغير هنا يميل إلى القمر/ وجه حبيبته، ولا يميل إلى الشمس التى تطلع فتحجب عنه وجه الحلم/ وجه حبيبته.

"أنا وقمرى لا نغادر الفصل.. نغلق الباب والنوافذ حتى لا تدخل إلينا الشمس" ص 60، الشمس ببوحها القاتل لمشاعره، والقمر بستره المغامر.. والانتصار للشمس التى أخذت الحبيبة الصغيرة بعيدا

"السماء تمطر.. الشمس تغيب.. حبيبتى الصغيرة لا تعود..عندما سألتنى مدرسة العلوم، من أين يأتينا الدفء والنور، قلت لها.. القمر" ص 62، ولا تخفى شاعرية القص فى هذا المقام.

وفى نص " فاكهة الجنة" يتوحد الراوى مع صورة الشهيد ابن العم ومع مشاعر حب الوطن وتراب الوطن التراب الحر، ورائحته الحرة، وعظمة الاستشهاد على الجبهة الطاهرة" أمسك عمى حفنة من تراب الأرض تلمسها بين أنامله كأنما يتحسس دم ممدوح.. التقطت بعينى الحزن الذى انتفض من وجهه وهو يحكى عن وجعه" ص 120

وتحفر القرية/ الوطن مكانا لها فى قلب راوى/ مكان فى القلب حيث تلتقى أشواقه إلى قريته/ وطنه مختلطة بمعالمها النفسية والمكانية، ومرتبطة بمشاكلها (هم الإنجاب – خطر الختان– المشاكل الصحية) أيضا بحبه الجارف لها، وتعلقه الشديد بذكرياته الحميمة.

"الشرق والغرب.. وفى منتصف المسافة بينهما شارع طويل ضيق نسميه الشارع الوسطانى، البحر العذب يمر أمام عينيها لتغسل وجهها فيه كل صباح، وتضئ قناديلها فى مائه عند المساء.. هكذا قريتى الصغيرة. دمى مخلوط بطين شتائها.. صدرى ممتلئ بهواء صيفها.. تزرع داخلى الأخضر.. تمحو اصفرارى.. قدميها فى حجرى ألونهما بحناء ممزوجة بدمى وأيامى" ص 129، صورة عشق متكاملة، لغة شاعرية سلسة راقية، تتسع نصوص المجموعة لها، تخلطها بهذا الحس النبيل المختلط بالأسى، فتتهادى مع موجة من موجات المجموعة.. تتزاوج فيها هذه الشاعرية مع قسوة الحياة.. تحاول تلوين الحياة الباهتة.

فى "الحلم الأجمل"

.."حلمنا الذى نحياه منذ أكثر من ثلثى عمرى وعمرها.. بيضاء هى كحلمنا.. مؤمنة بقوى الحب الأسطورية.. تقسم لى بحياة " لؤلؤ وفيروز" أول توأم سنأتى به للحياة أن حلمنا سيتحقق وأنها ستعاقبنى بأن تغادر حضنى ساعة من الليل لأنى شككت فى هذا.. ص 111.

مزاوجة بين مشاعر الحب الجياشة وحتمية الامتزاج الجسدى الكامل الذى يعبر عن تكامل الالتحام فى شخص واحد، وعمق العلاقة بين الروحانية والاشتهاء الجسدى.. هنا يمتزج المعنوى بالمادى فى حالة من العشق تمتلك النفس.. ثم تتوه فى زحام الواقع.. ثم تعود وتفرض سطوتها على العاشقين بقوة الحب والعطش إلى الارتواء، التى تتجدد وترتدى أثوابا عدة، تعطى الأمل بأن المشاعر النبيلة لابد أن تبقى وأن تنتصر على قسوة الحياة، وتستطيع تحقيق الحلم الذى يتبادلانه.

"من بعيد كان البحر يرقص كأمواج الحرير، والفراشات تنطلق من أفواه الزهور.. عادت إلى مغلقة عينيها وأحاطت دنياى بذراعيها تقول: نفس الحلم.. ولو شككت فى حلمى سأعاقبك بساعة أخرى بعيدا عن حضنى" ص 118.

لغة متواثبة سريعة، باستخدام الفعل الآنى المضارع، الغالب على معظم نصوص المجموعة مع تصاعد للحدث/ اللا حدث بلا ركون إلى سرد لا داع له، مع مفردات لغة سهلة تشرح نفسها لا تحتاج إلى التفصيل، وعلى أكثر من مستوى من مستويات التأويل.

يضع الكاتب نص " حتى تكتمل الأشياء" بين يدى قارئه..

"يفاجئها الحزن.. يمزق ضحكتها.. الدموع ترتعش فى جفونها.. تشرد بعينيها.. تجذب ضوءها الأبيض منا.. ينطفئ كل شئ داخلى.. أتنقل بعينى بينهم.. يضحكون بعيدا عنها.. ترجو أحزانها أن تتركها الليلة، ثم يتساءل.. لو أعرف ذاك الذى يباغتها يأخذ أحلى ما فيها، وبعده يرحل أحلى ما فينا؟؟! ص 75.

هذه السيدة الرمز يتركها النص بين يدينا يدفع بها فى اتجاهات شتى.. يطرح التساؤل، فتجرى فى اتجاه على أنها الأم، وفى آخر على أنها الوطن، وفى اتجاه على أنها الوحدة التى غادرتنا، والترابط الذى نسينا، ولنا أن نفسح لها مجالا أوسع على أنها المعنى الأكبر للقيمة بمعناها الفلسفى لتكامل الأمور.. والأشياء هنا لا تكتمل أبدا إلا وقتيا لحظيا بانتصار إرادة تأجيل الاكتمال الآخر بإكمال دورة الحياة التى تفضى إلى الزوال، فبالزوال تكتمل الدائرة..

"عيناها الصافيتان تضيئان ما أطفأه الحزن داخلى

ـ أرجوك.. ابقى حتى تكتمل الأشياء" ص 77

.. بما يعطى لمجموعة النصوص إيجابية محاولاتها المستميتة لنصرة الإنسان فى كل أحواله.. فى مشاعره.. فى روحه.. وفى بدنه.. ضد الهزيمة، ومع الحلم الممكن تحقيقه.. مع الستر، ستر الله له.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى