الأحد ١٥ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم جميل حمداوي

بيتر بروك والإخراج المسرحي التلفيقي

يعد بيتر بروك من أهم المخرجين المعاصرين الذين حاولوا تجديد المسرح الغربي من خلال تلقيحه بالأشكال الفرجوية الثقافية الشرقية والأمريكية والأفريقية على غرار أنطونان أرطو وأريان مينوشكين وأوجينيو باربا وبريخت وماييرخولد وروتوفسكي.

ويتميز المنهج الإخراجي لدى بيتر بروك بالتنوع النظري والمدرسي حتى سمي منهجه الميزانسيني بالمنهج التلفيقي ؛ لأنه كان يجمع في عروضه الدراماتورجية والدرامية بين عدة تقنيات وتصورات إخراجية للذين سبقوه أو جايلوه من المخرجين العظام.
ولم ينغلق بيتر بروك على المسرح الغربي فحسب، بل اهتم أيضا بالمسرح الأنتروبولوجي الشرقي القائم على الطقوس الدينية والسحرية والميتافيزيقية والفانطاستيك والـروتيسك.

إذا، من هو بيتر بروك؟ وماهي مميزات تصوره الميزانسيني؟ وما هي أهم الملاحظات التي يمكن الخروج بها من خلال دراسة عروضه المسرحية؟ وما هي مكانة بيتر بروك في الساحة المسرحية العالمية؟

1- من هو بيتر بروك؟

ولد المخرج البريطاني الجنسية بيتر بروك سنة 1925م، وإن كان هذا المخرج روسي الأصل والمولد.

لقد درس بيتر بروك بأكسفورد، ومارس التمثيل والإخراج مبكرا وهو في العشرين من عمره، فاشتغل كثيرا على مسرحيات شكسبير. ثم، زار كثيرا من دول العالم للبحث عن أصول الفرجة الدرامية وطقوسها الأنتروبولوجية كدول آسيا و أفريقيا وأمريكا اللاتينية.

وقد ذاعت شهرته في أرجاء العالم، واستدعته منظمة اليونسكو لتشيد له معملا مسرحيا بباريس يطبق فيه نظرياته المسرحية، وينجز فيه عروضه الدراماتورجية وذلك في السبعينيات من القرن العشرين. وقد كون بيتر بروك معه:" صفا من المساعدين، وعمل مع الكثيرين من المخرجين، وفي 1968م قاد التجربة المعملية الأولى لمسرح الأمم بباريس مع فكتور جارثيا وجوتشايكين رائد المسرح المفتوح وجوفري ريفز".

هذا، وقد نشأ بيتر بروك فنيا في إطار المسرح التجاري الإنجليزي، وكان معروفا لدى الجميع بسعة العلم والثقافة والاطلاع.

2- مصادر بيتر بروك المسرحية:

تأثر بيتر بروك تأثرا كبيرا بكثير من رواد الإخراج المسرحي في القرنين التاسع عشر والقرن العشرين أمثال: المخرج الروسي ستانسلافسكي، والمخرج الفرنسي أنطونان أرطو صاحب نظرية مسرح القسوة، ويسفولد ماييرخولد صاحب التصور الشكلاني والبيوميكانيكي في المسرح، وبريخت صاحب نظرية المسرح الملحمي.

وقد استعان بيتر بروك عمليا بـروتوفسكي صاحب نظرية المسرح الفقير في تدريب ممثلي فرقة شكسبير الملكية عندما قدمت في الستينيات عرض" نحن والولايات المتحدة وكان العرض عملا مسرحيا سياسيا أثار ضجة عالمية في ذلك الوقت العصيب الذي شهد حربا إيديولوجية مأساوية استعملت فيها الولايات المتحدة الأمريكية قوتها الحبروتية ضد الشعب الفيتنامي المسالم...
وقدم بروك تجارب عديدة في إطار مسرح القسوة والذي دعا إليه أنطونان أرطو في مذكراته، حيث قدم بروك على ضوء هذه النظرية الأنطونانية خمس مسرحيات في المهرجان الخامس بمسرح الأولد ويتش بلندن.
وخاض بيتر بروك تجارب جديدة في أعمال شكسبير على أساس أعمال ماييرخولد المخرج السوفياتي الذائع الصيت.
و تأثر بيتر بروك أيضا بالمسرح الآسيوي والأمريكي والأفريقي مستوحيا أشكاله الاحتفالية والطقوسية والأنتروبولوجية، كما اطلع على المسرح الأمريكي ولاسيما مسرح الحي دون أن ننسى استفادته من مسرح العبث ومسرح اللامعقول.

3- عروض بيتر بروك ودراساته المسرحية:

أنجز بيتر بروك مابين 1955 و 1965م مجموعة من العروض المسرحية المتميزة مثل:" نحن والولايات المتحدة"، و" تيتوس أندرينيكوس و" دقة بدقة"، و"العاصفة"، و" الملك لير"، و" حلم ليلة صيف"، و" ماراصاد"، و" أوديب"، و" ندوة العصافير"، و" أورجاست" ذات المصدر الفارسي، و"الأيك" ذات المصدر الأفريقي، و" اجتماع الطير" ذات المصدر الفارسي، و" المهابهارتا" ذات المصدر الهندي...

وقد عرض بيتر بروك أعماله الدرامية في أوربا وأمريكا الشمالية والجنوبية و أفريقيا وآسيا وأستراليا، وكان دائم البحث والارتحال عن الجديد في المسرح والإخراج الميزانسيني.

هذا، وقد وحقق بيتر بروك دراسات عديدة في المسرح الروسي والمكسيكي والألماني والأمريكي.
ومن أهم دراساته وأبحاثه كتاب:" المساحة الفارغة" الذي نشره سنة 1969م، ويتناول المشاكل المعمارية للمساحات المسرحية، وترجمه إلى اللغة العربية فاروق عبد القادر، ونشره ضمن سلسلة مجلة الهلال بالقاهرة في دجنبر سنة 1986م.
كما أصدر بيتر بروك كتاب: " النقطة المتحولة" الذي نشره الناقد المصري فاروق عبد القادر عبر سلسلة عالم المعرفة الكويتية ضمن العدد:154، أكتوبر من سنة 1991م.

واهتم بيتر بروك أيضا بالمسرح الأوبيرالي، و أخرج العديد من الأفلام السينمائية وعروض الباليه، كما صمم مجموعة من المناظر والقطع الموسيقية لعروضه المسرحية وأفلامه السينمائية ورقصات الباليه.

وأهم عمل يقترن ببيتر بروك تأسيسه للمركز الدولي للمسرح سنة 1970م بباريس للبحث عن لغة مسرحية عالمية مشتركة وموحدة ضمن التعدد الثقافي العالمي. ويعني هذا أنه كان يشتغل ضمن المسرح الثقافي أو المسرح الأنتربولوجي.

4- مفهوم المسرح عند بيتر بروك:

ينظر بيتر بروك إلى المسرح على أنه فن شامل يعتمد على جميع الفنون والمعارف والتقنيات من أصوات وإضاءة وموسيقى ورسم وتشكيل ورقص وشعر وصورة مرئية وألوان وأزياء وماكياح، ويسمى هذا المسرح بـــــ (المسرح الشامل).

ويتخذ هذا المسرح عنده طابعا إنسانيا يعبر عن حقائق النفس الداخلية، كما يعبر عن الثقافة المشتركة بين الشعوب مادام المسرح له لغة عالمية موحدة.

5- مفهوم الإخراج المسرحي عند بيتر بروك:

يستند الإخراج المسرحي عند بيتر بروك إلى الإدارة الحسنة والتوجيه الرصين وحسن التصرف وإصدار القرارات السديدة ورسم خطة العمل وتنفيذ الخرائط والتصاميم لقيادة دفة الفرقة نحو الطريق الصحيح والغاية المثلى.

ومن ثم، يقوم الإخراج المسرحي على ثلاثة عناصر متكاملة وهي: النص والجمهور والفرقة من الممثلين. وبالتالي، فمهمة الإخراج أساسية لأن المخرج هو الذي يفسر النص الأدبي، ويمنحه الروح والحياة. وعليه أن يطور أساليبه مع تطور المسرح وآلياته الإبداعية.

وفي هذا الصدد يقول بيتر بروك:" إن المخرج يعمل من خلال عناصر ثلاثة: النص، والجمهور، والفرقة. وبين هذه العناصر الثلاثة فإن الأول هو الدائم والأساسي. إن واجبه الأساسي هو أن يكتشف كل أهداف المؤلف، وأن يجسدها بكل الوسائل المتاحة له. وحيث إن المسرح يتطور، وحيث إن جغرافيته وميكانيكيته واقتناعاته تتغير فإن أسلوب الإخراج يجب أن يتطور أيضا، ليس هناك إخراج متقن لمسرحية ما، كما أنه ليس هناك الوضع المثالي للإخراج، تماما كأداء الأوركسترا لمؤلف موسيقي، فإن وجود المؤلف الموسيقي منفصل تماما عن عروضه..."

كما أن المخرج- يقول بيتر بروك- في كتابه:" النقطة المتحولة":"موجود كي يضع مختلف العناصر و الوسائل طوع إرادته: الأضواء والألوان والمشهد المسرحي والأزياء والماكياج، إلى جانب النص والأداء، ثم يلعب عليها جميعا كما لو كانت لوحة مفاتيح، وبضم هذه الأشكال التعبيرية معا يستطيع المخرج خلق لغة إخراجية خاصة، يكون الممثل فيها اسما هاما دون شك، لكنه يبقى لباقي عناصر النحو كي يكتسب المعنى، وهذا هو مفهوم المسرح الشامل الذي يعني المسرح في أقصى درجات تطوره"

إذا، فالإخراج المسرحي هو الذي ينبني على ثلاث مرتكزات أساسية: النص والممثل والجمهور، لكن المخرج هو العنصر البشري الفعال في العملية المسرحية ؛لأنه هو الذي يحول النص الإبداعي الأدبي المقروء إلى نص سينوغرافي معروض على خشبة الركح إما بطريقة تفسيرية يحافظ فيها المخرج على جميع تفاصيل النص المسرحي، وإما عبر تشذيب زوائده وحواشيه والتصرف في لغته البيانية بواسطة قراءة دراماتورجية تحافظ على روح النص ولكن مع تغيير تضاريسه الجمالية وقسماته الدلالية.

ولايمكن للعرض المسرحي بأي شكل من الأشكال أن يوصل أطروحته ورسالته الجمالية إلى الجمهور الراصد إلا عبر تدريب الممثل على ضوء مجموعة من النظريات والتصورات الإخراجية.

6- مفهوم الممثل عند بيتر بروك:

إذا كان إدوارد وردون ريك يعتبر الممثل كالدمى والعرائس أو كلعبة الماريونيت يجب التحكم فيها طاعة وانقيادا، فإن بيتر بروك ينظر إلى الممثل نظرة إيجابية إنسانية من خلال تصور ديمقراطي، حيث يعتبر بيتر بروك نفسه مجرد خادم للفرقة، مهمته التنسيق بين أفرادها، حيث يقتصر دوره على التوجيه والإرشاد وإبداء الملاحظات والإشراف على العمل أوتقويم الممثل أو تشجيعه.

فالمخرج الحقيقي حسب بيتر بروك هو الذي ينصت للآخرين، وينفذ اقتراحاتهم ويستفيد منهم ويتعلم من أفكارهم، وينبغي على المخرج أن يكون قادرا على تغيير أفكاره وتعديلها بشكل جذري حينما توجه إليه الانتقادات الناجعة والبناءة.

ومن هنا، فدور الممثل أساسي في نجاح العرض المسرحي مادام يثريه بتجاربه الشخصية، ويغني أدواره الدرامية والتشخيصية بواسطة إحساسه الداخلي من خلال المعايشة الصادقة واستثمار الذاكرة الحية.

7- التصور الميزانسيني عند بيتر بروك:

تعتمد طريقة بيتر بروك الإخراجية على تمثل تقنيات الأسلاف من المخرجين القدامي مع استيعاب تصورات المعاصرين من المخرجين الذين كانوا يجايلونه. لذلك، توصف الطريقة الميزانسينية عند بيتر بروك بكونها منهجية تلفيقية تعتمد على اجتهادات الآخرين، وتستند أيضا إلى التجريب النظري والتطبيقي لكل الآراء الدرامية المعروفة في الريبرتوار المسرحي والإخراجي القديم والمعاصر على حد سواء.

بيد أن بيتر بروك كان يواجه صعوبتين في مجال التجريب والاختبار السينوغرافي، وهاتان الصعوبتان حسب مساعده شارل ماروفيتز تتمثلان في:" أن بيتر بروك من ناحية يستطيع أن يشرح نفسه أفضل مع ممثلين تم تكوينهم بالفعل.
ومن ناحية أخرى فإن عديدا من الشباب لم يكونوا موهوبين ولا معدين لبذل مجهودات البحث العلمي، فضلا عن عدم استعدادهم الروحي للانصهار في الجماعة. لقد كان هدفهم في الغالب مجرد المرور إلى فرقة شكسبير الملكية".

وتستند منهجية بيتر بروك الإخراجية إلى مجموعة من المبادئ والمرتكزات الميزانسينية:

* الاعتماد على الاستماع الجماعي في انتقاء المتبارين للدخول إلى معمله التجريبي المسرحي؛
* تبني طريقة الارتجال المشهدي لاختيار أفضل الممثلين لدعم معمله المسرحي التجريبي، وخاصة المتتابعة الارتجالية التي تعني دخول عشرة شبان إلى المنصة واحدا واحدا ليرتجلوا وكل واحد يكمل ارتجال الذي سبقه؛
* الاكتفاء بالعدد القليل من الممثلين المنتقين الذين قد لايتجاوزون اثني عشر شابا ؛
* الدخول في تمرينات وتدريبات وبروفات شاقة لمدة ثلاثة شهور أو أكثر،
* المزاوجة بين طريقة ستانسلافسكي ونظريات المدارس الإنجليزية في مجال تدريب الممثلين ؛
* الخروج بالممثلين من منهج الأداء النفسي الطبيعي كما هو معروف لدى ستانسلافسكي نحو تمثل لغة الأصوات والإشارات والحركات التي استوحاها من منهج أنطونان أرطو؛
* تدريب الممثلين على الكلمة الصرخة والكلمة الصدمة؛ لأن الكلمة جزء من الحركة؛
* اكتشاف بروك أصوات مجردة تصدر عن الممثل دون اللجوء إلى كلمات اللغة، ويعني هذا أن بروك يعود إلى لغة الإنسان البدائي ولغة الحيوان؛
* مطالبة بيتر بروك ممثليه برواية القصص بالأصوات والحركات فقط دون الاستعانة بألفاظ اللغة؛
* تكوين معجم تمثيلي وتدريبي خاص بالأصوات والحركات؛
* التدريب عن طريق التمرين الجماعي، أي تدريب الممثل الفرد في حضن الجماعة ليحس بأنه ينتمي سيكواجتماعيا إلى فريق موحد؛
* تدريب الممثلين على الألوان الدرامية المتنوعة سواء على مستوى الحركة أم الصوت أم قناع الوجه أم المعاني، ويجري هذا التدريب بأن يرتجل الممثلون معنى أو إحساسا أو رد فعل، ويحاول كل منهم تجسيده بطريقته الخاصة؛
* الربط التطبيقي بين تجربة الممثل الحية وإبداعه الفني من خلال الذاكرة الشعورية؛
* تدريب الممثلين على المشهد المسرحي من منطلقات عدة كتدريبهم على ريبورتاج في شكل تحقيق صحفي، أو كتقرير لرجل شرطة أمام قاضي التحقيق، أو كقطعة محفوظات، أو من وجهة سياسية أو نفسية أو كوصف شاعري الخ...
* تدريب الممثل في وقت واحد على أداء مشاهد مسرحية مختلفة أو مواقف متنوعة أو ومضات غير متسقة وغير متراكبة؛
* استعمال أسلوب القص أو التجزيء أو التقطيع بين اللوحات والمشاهد الدرامية والربط بينها اعتمادا على أسلوب اللصق والكولاج؛
* استخدام بيتر بروك الأقنعة بالمفهوم الطقوسي الشرقي بعد رفضه مرارا استخدامه في مسرحياته الدرامية بالمفهوم الغربي، والتوظيف الجديد نلفيه جليا في مسرحياته الثقافية الأنتروبولوجية كمسرحية "ندوة العصافير "، وعرض" اجتماع الطير"؛ لأن القناع في الحقيقة رمز طقوسي وتعبير مضاعف عن الذات الإنسانية؛
* اعتماده في إنجاز عروضه المسرحية على الإحساس الداخلي؛
 
* التقاط التلميحات والخيوط الخفية في النص واعتصاره اعتصارا شديدا قبل الشروع في إنجازه أو تحويله إلى عرض دراماتورجي؛
* الاهتمام بالجوانب الفرجوية البصرية من إضاءة وصوت وألوان وموسيقى وثياب واللعب بالموديلات وتصميم المشاهد أو ما يسمى بالمسرح الشامل.

8- الفضاء السينوغرافي أو مساحة المسرح:

من المعروف أن بيتر بروك أقام عروضه المسرحية في الفضاءات المغلقة كقاعات المسرح المعروفة بالعلبة الإيطالية، كما اشتغل على فضاءات مفتوحة احتفالية وطقوسية، حيث مثل في فضاءات فارغة سينوغرافيا، وفوق فضاء السجادات الإيرانية، واتخذ فضاء الرمال خشبة ركحية في الدول الأفريقية، وقد قدم بروك عروضه المسرحية ارتجاليا كما هو الشأن بالنسبة للعرض الذي قدمه فوق البساط الفارغ بالجزائر، وكان يلقي عروضه أيضا في فضاءات احتفالية طقوسية خاصة وفي أمكنة عامة كالشوارع والحدائق العامة...

وقد حاول بيتر بروك بعد انضمامه إلى مسرح الأمم بباريس في السبعينيات من القرن العشرين أن ينشىء مسرحا ثقافيا عالميا تنصهر فيه جميع الثقافات العالمية في بوتقة إنسانية واحدة لاتغريب فيها ولا استلاب، كل واحد يحافظ على هويته وكينونته وأصوله الثقافية والحضارية في إطار فرجة احتفالية ارتجالية ثرية ومنفتحة.
كما ميز بروك بين المسرح الغربي والمسرح الثقافي ذي اللغة المسرحية العالمية المشتركة، ميز أيضا بين المساحة الميتة والمساحة الحية، وبين المساحة الوظيفية والمساحة غير الوظيفية، وبين المساحة التقليدية والمساحة الجديدة كالأسواق والشوارع والحدائق والقرى...، وبين المساحة الباردة والمساحة الدافئة، وبين المساحة الجيدة والمساحة الرديئة.

9- الاهتمام بالمسرح الأنتروبولوجي:

من المعلوم أن المسرح الأنترولوجي يهتم بالمقدس والبدائي والسحري والطقوسي والميتافيزيقي بعد أن أصيب المسرح الغربي بأزمة حادة تتمثل في هيمنة العقل والمادة والتقنية الرقمية؛ مما أدى بالنظام الرأسمالي الغربي إلى تدمير الإنسان عبر حروب كونية وأزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، واستلاب الإنسان وتحويله إلى أداة إنتاجية معلبة بدون الاهتمام بذاته وروحه.
لذا، غدا المنظرون والمخرجون المسرحيون يفكرون في مسرح ثالث ينقذهم من صخب الكلمة وأسر اللفظ، فلم يجدوا سوى الارتحال إلى أدغال أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية للبحث عن أشكال فرجوية أنتروبولوجية جديدة تتمثل في الأشكال الطقوسية والأقنعة الإنسانية المتلونة والحركات الروحانية والمقامات الصوفية الوجدانية، والرغبة من وراء كل هذا هو تطهير الغرائز البشرية الشعورية واللاشعورية من الخبث والشر عبر إزالة الخوف والشفقة والقسوة.
ومن أهم المخرجين المسرحيين الذين اهتموا بالمسرح الأنتروبولوجي نذكر: إدوارد وردون ريك، وأنطونان أرطو، وبريخت، وروتوفسكي، ومايير خولد، وأوجينيو باربا، وأريان مينوشكين، وبيتر بروك.

و على أي، فمنذ 1970م، وبيتر بروك يقود:" مركزا للأبحاث المسرحية في باريس، مهتما بالدرجة الأولى بالعلاقة بين الممثل والمتفرج، وهدفه الأمثل يتلخص في محاولة القضاء على داء اللزمات السطحية، والميكانيكية في الأداء، بالإضافة إلى تقرير أبسط العناصر وأكثرها توصيلا في العرض المسرحي، ولعل هذا هو السبب في التجائه إلى بعض القرى الأفريقية خلال أعوام 72/1973 سعيا إلى الالتقاء بجمهور تلقائي تتوفر لديه القدرة الغريزية على الخروج من الواقع إلى الخيال."

وعلى العموم، فقد اهتم بروك بالثقافة الثالثة أو بالمسرح الثالث من خلال تأكيد ثقافة الروابط والبحث عن اللغة المسرحية العالمية المشتركة والاهتمام بالأقنعة والفرجات الطقوسية والأشكال الدرامية الدينية والروحانية.

10- أهمية بيتر بروك في المسرح العالمي:

تتمثل أهمية بيتر بروك في كونه جدد المسرح الغربي وابتكر فيه أيما ابتكار على الرغم من كون منهجه الإخراجي منهجا تلفيقيا استثمر فيه كل التقنيات الميزانسينية والتصورات الإخراجية التي تم تشغيلها في المسرح العالمي قديما وحديثا، كما اشتغل دراماتورجيا على أعمال قديمة وحديثة نالت إعجابا جماهيريا كبيرا حتى صار من رواد الإخراج المسرحي المعاصر.
وعندما ذاعت شهرة بيتر بروك عالميا ألحق بمسرح شكسبير الملكي مديرا فنيا قصد البحث داخل معمله التجريبي عن المشاكل التي تواجه الممثل المعاصر، فمنحته الفرقة حرية التجريب على أعمال بريخت وحرفية مسرح القسوة التي كانت موضوع اهتمامه في بداية الستينيات من القرن العشرين.

ومن حسن حظ بيتر بروك أن يتزامن تعيينه بمسرح شكسبير الملكي مع انفتاح المسرح الإنجليزي على الجديد من المسرح، وما استجد في الساحة الإخراجية من تصورات وتقنيات:" لقد وافقت اهتمامات بروك في التجريب المسرحي نفس الوقت الذي انطلقت فيه عوامل التغيير في المسرح البريطاني. وكانت فرقة شكسبير الملكية تبحث في ذلك الوقت عن ضم مخرجين كبارا على فرقتها دعما لمكانتها ومستقبلها وذلك في ضوء ظهور بشائر التطوير التي فجرتها غضبة الشباب البريطاني الصغير المتطلع إلى حياة أفضل والذي تمثل في ظهور مجموعة من الكتاب المخرجين الجدد في الحي الشرقي بلندن. وتغير نمط المسرحيات التي اعتمدت زمنا على غرف الصالون وأبهاء القصور.

وظهرت في الآفاق روح جديدة للفنانين البريطانيين تسعى إلى شق طريقها إلى جماهير جديدة للمسرح وتصورات فنية خلاقة تختلف كليا عما أصاب المسرح من فن رتيب".

وقد عين بيتر بروك مديرا فنيا للفرقة المسرحية الإنجليزية الملكية مرة ثانية، ولكن هذه المرة بالاشتراك مع بيتر هول والفرنسي ميشيل سانت دونيس حفيد جاك كوبوه. والغرض من هذا الاتفاق الثلاثي هو تجديد مسرحيات شكسبير وعصرنتها على ضوء الرؤى الإخراجية المعاصرة خاصة السياسية منها تأقلما مع ظروف مرحلة الستينيات من القرن العشرين التي كانت تشتعل بالثورات المضادة للأنظمة المحافظة السائدة.

وبعد ذلك، أسس بيتر بروك مع صديقه بيتر هول فرقة مسرحية جديدة بلندن تابعة للفرقة الدائمة بستاتفورد لتمثيل أعمال بنتر ومسرحيات العبث كما عند الكاتب الأيرلندي صمويل بيكيت دون أن ننسى كذلك أعمال شكسبير بطبيعة الحال.

11- تقويم أعمال بيتر بروك:

على الرغم من شهرة بيتر بروك ونجاحه الكبير في العديد من الأعمال الدرامية والعروض المسرحية، فإن النقاد كانوا يصفون منهجه الإخراجي بالتلفيقية والجمع بين المدارس الميزانسينية من خلال احتذاء السابقين من المخرجين الأسلاف والاستهداء بمرتكزاتهم الإخراجية نظريا وتطبيقيا، والتوفيق بين عدة تقنيات وآراء وتصورات إخراجية متناقضة ومتضادة إبستمولوجيا وأطروحيا، ولم يكن بيتر بروك حسب المخرج المصري الدكتور أحمد زكي:" ذا أفكار ثابتة على الإطلاق، وهذا ما يميزه لاتساع خبراته الفنية، ولا عجب في كل ذلك فبروك Brook كمخرج بريطاني تربى في أحضان الشكسبيرية وعمل كثيرا بالمسرح التجاري".

ولكن على الرغم من ذلك، فكان بيتر بروك مجددا إلى حد ما، ويتجلى هذا التجديد واضحا في تنظيراته للمساحة الفارغة في مجال المسرح والدراما، والاهتمام بالمسرح الثقافي الأنتروبولوجي الذي كان يسعى من ورائه إلى إيجاد لغة مسرحية عالمية مشتركة.

خاتمـــة:

هذه نظرة موجزة ومقتضبة حول مخرج متميز في تاريخ المسرح المعاصر في القرن العشرين ألا وهو بيتر بروك الذي ارتبط مسرحه بالمساحة الفارغة والدراما الثقافية أو ما يسمى أيضا بالمسرح الأنتروبولوجي المتعدد الأعراق والثقافات والكينونات.
كما تميز بيتر بروك بالاشتغال كثيرا على مسرحيات شكسبير التي كان يحولها إلى أفلام سينمائية من زاوية درامية ومسرحية محضة.
وشغل بيتر بروك، كما قلنا سابقا، منهجا مسرحيا تلفيقيا طبق فيه النظريات الإخراجية والمسرحية التي كانت سائدة في عصره أو التي خلفها أسلافه من المخرجين العباقرة.

ويقترن بيتر بروك أيضا في تاريخ الدراما المعاصرة بالمسرح الشامل الذي يجمع بين مجموعة من العناصر المكونة للمسرح الحقيقي من إضاءة وماكياج وأزياء وموسيقى وشعر ورقص وباليه وسينما وأقنعة وسرد وإبداع أدبي.

وسيبقى بيتر بروك دائما في تاريخ المسرح المعاصر علما عالميا متميزا في إخراج العديد من العروض الدرامية ولاسيما مسرحيات شكسبير من خلال تجريب نظريات إخراجية معاصرة تليق بشخصية شكسبير الفذة.

 [1]


[1

المصادر والمراجع:

1- د. أحمد زكي: عبقرية الإخراج المسرحي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى سنة 1989م؛

2- بيتر بروك: النقطة المتحولة: أربعون عاما في استكشاف المسرح، ترجمة: فاروق عبد القادر، سلسلة عالم المعرفة، عدد:154، أكتوبر 1991م؛
3- توبي كول وهيلين كريش: مخرجون في جلسات الإخراج، شينوي، لندن، 1964م؛

4- د. حسن يوسفي: المسرح والأنتروبولوجيا، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة2000م؛

5- د. سعد أردش: المخرج في المسرح المعاصر، سلسلة عالم المعرفة، العدد:19، يوليو 1979م.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى