الاثنين ١٤ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم يسري عبد الله

بين الحلم المنسي والحلم المقموع:

جماليات الصحراء

ليست الكتابة تشكيلا جماليا للغة فحسب، بل هي أيضا اداة لتشكيل وعي المتلقي، وفي جدران المدي نري تواشجا دالا بين التقنية والرؤية، وتوظيفا جيدا للغة بشحناتها الفكرية والعاطفية.

بدءا من العنوان نري ثمة علاقة ضدية قائمة بين الدالين المكون منهما العنوان جدران/المدي هذه المفارقة التي شكلت اساسا لطبيعة النص القائم علي جدلية ’الغربة والانتماء’ ’فجدران المدي’ تركيب لغوي يعتمد علي الاضافة،لا يتسم مدلوله بوجود علاقة ضدية بينهما فحسب، بل تمثل هذه العلاقة أيضا منحي اشاريا دالا علي فحوي النص ومراده، وفي الآن نفسه اتسمت هذه العلاقة بجمالية خاصة لعلها راجعة الي ما تمنحه علاقة التضايف من جاذبية بلاغية خاصة.

يتكون النص من عدد من الفصول المرقمة وفق الترتيب الابجدي ’أ ب ج د ه و.........’ يتواصل عبره الكاتب ’عمار علي حسن’ مع الموروث العربي، محققا وحدة سردية خاصة، وأظن أن هذا التقسيم ’الابجدي’ لم يكن تعبيرا عن نزوع تراثي، ولابحثا دءوبا عن تخليق صيغة شكلية ’عربية’ تنتظم وحدات النص المختلفة فحسب، بل كان كذلك تكئة يعتمد عليها ’السارد’ محققا عبرها قدرا أكبر من الحراك السردي داخل الرواية.
***

يبدأ النص بسرد تقريري مخبر، يتذرع باليقين المنبيء عن رؤية مثالية للعالم، ومتوسلا بلغة بالغة العذوبة، تمتح مفرداتها من مد كلاسي اللغة ’كل شيء هالك هناك الا المرارة المتدفقة الي فمي، وصخرة عالية تعاند الفناء.
امتطيتها وخبأت عيني في عمق الظلام يمنة ويسرة، وتركت أذني لصفير الريح والغبار، وهواء بارد اصطكت له أسناني’. ثمة احساس عارم بالمرارة في صحراء فسيحة، تصبح ’مكانا روائيا’ خصبا لاكتناه عوالم الشخصيات التي يتألف منها النص، والممثلة في ثلاث شخصيات رئيسية هم ’علي صابر حسنين’ المناضل اليساري، المطارد، والباحث عن الحب والوطن معا، و’أحمد’ المنتمي الي التيار الديني، والباحث عن شاطيء الرسو المفقود، ساعيا الي الفهم والامان معا و’عوضش أحد ضحايا الثأر في الصعيد، والهائم علي وجهه في البراري، ليجد في الصحراء متسعا ومتنفسا في آن، وهو يشير الي قطاع عريض من المهمشين داخل المجتمع.
اذن فنحن أمام محاولة لرصد التيارات الفكرية المتعددة، حيث يصبح هؤلاء الشخوص ممثلين لبني فكرية واجتماعية قائمة في المجتمع المصري في الوقت الراهن.

والمكان الروائي هنا ليس أحد أساسات البناء الفني للنص فحسب، بل هو أيضا عالم روائي قائم ومستقل بذاته، يبدأ من الصحراء ’المكان المركزي’ متعديا الي اماكن عدة ’قنا/ الفيوم/ الاسكندرية.............’ تمثل جميعها تجليات لذلك المكان المركزي ’الصحراء’ ومشيرة الي ’الوطن’ ورامزة اليه، ولذا فان التوصيفات المتعددة للاماكن تصبح بمثابة الفضاءات الدلالية الكامنة في الرواية.. ويتراوح الزمن الروائي في النص ما بين رصد اللحظة الحاضرة، أو العودة الي الزمن الماضي عبر تقنية الفلاش باك واستخدام الفلاش باك يكون في غالبه لمنح ’القاريء/ المتلقي’ خلفيات عن الشخصيات المركزية في الرواية ’وذلك مثل تذكر ’علي صابر’ لصراعاته السابقة مع رئيس المؤسسة مراد غالب’.
***

وعمار علي حسن يبدو مسكونا بالحلم، سواء أكان منسيا/ مسكوتا عنه كما في مجموعته القصصية ’أحلام منسية’، أو كان مقموعا كما هو الحال هنا في ’جدران المدي’ ومن ثم يصبح ’الحلم’ بمثابة التيمة المركزية المهيمنة علي هذه الرواية، والحلم هنا لا يتخذ منحي فرديا أو ينهض كوسيلة للخلاص الفردي، قدر ما يأخذ منحي جماعيا أبعد مدي.

ان الابطال في ’جدران المدي’ مأزومون، قد تفرقت بهم السبل، وانكسرت أحلامهم حين انكسرت أحلام الوطن ’الضائع’ والذي يشيع فيه مفردتا ’الخوف’ و’الغربة’.. و’اللغة’ في رواية ’جدران المدي’ تحفل بظلال بلاغية ضافية، لكن هذا الامر يؤثر أحيانا علي ’حركية السرد’ وعلي الكاتب الانتباه الي ذلك، خاصة ان اللغة قد تستغرقه أحيانا مما يسهم في سكونية المشهد السردي.

وفي ’جدران المدي’ يسلم السرد بعضه الي بعض، فالحديث عن صاحب ’المزرعة’ ’الجائر’ يستدعي الحديث عن رئيس المؤسسة ’الجائر’ ’الفاسد’ وفي هذا المقطع يتسم السرد بالحيوية، ويتدفق الحكي ببراعة، مما يسهم في الاسراع بايقاع النص.

وبعد.. ان ’جدران المدي’ هي بمثابة الحكي عن ’الهامش’ بدءا من اختيار المكان القصي والمقصي أفراده في آن، مرورا بالشخصيات المهمشة اجتماعيا، والتي بال أحدهم علي جرحه أملا في الشفاء.

هنا في ’جدران المدي’ يبدو وعي الكاتب بالموروث الكتابي السابق، وخبرته ’القرائية’ البارزة وان كان بحاجة الي قدر أكبر من الجسارة علي ’التجريب’ و’المغامرة’ الشكلية وهذا ما سيحسب ’لعمار علي حسن’ الذي أحسبه كاتبا ’موهوبا’ و’حقيقيا’ وهما صفتان تقلان الآن في مشهد الكتابة الجديدة/ الراهن..

جماليات الصحراء

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى