الخميس ٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم فاروق مواسي

تحيــــة لنساء بيت حنون ، والشيء بالشيء يُذكر

انتفاضة النساء في باقة الغربية*

تقديم عن حكم قرقاش :

من الفكاهات التي يتناقلها بعض من شهد الأحداث في زمن الانتداب البريطاني ، و في باقة الغربية أن الإنجليز عندما اعتقلوا الرجال طلبوا من بعضهم -إمعانًا في السخرية والإهانة- أن يغنّوا ، فلم يستجب أحد . ولما ألحوا على السيد أحمد لحام أنشد:

على دلعونا وعلى دلعونا

الله يظلكم يل ظلمتونا

فلما فهموا ما غنى انهالوا عليه ضربًا حتى يعرف معنى الظلم الحقيقي.
ثم حدث أن مرّ بهم السيد فياض أمين – وكان معروفًا بخفة روحه – فلما أدرك "العلقة" التي فيها صاحبه أنشد :

على دلعونا وعلى دلعونا

الله علي ّلمرق من هونا

ولكن حظه من الضرب لم يكن بأقل من سواه، ولما طلبوا من السيد حسن خلف الغناء ظن صاحبنا أن الغزل قد يمنع عنه الضرب ،لأن الغزل يستهوي القلوب البشرية كلها فأنشد:

على دلعونا وعلى الدلعونا

لوعتْ قلبي البنت المزيونا

ولكن الضربات كانت أشد، وهم يقولون: لم يبق الا أن تحبّ وتعشق، سنعلمك كيف يلتاع قلبك!

انتفاضة النساء

وصف " شاعر النيل" مظاهرة قامت بها سيدات مصريات في ثورة سنة 1919، ومع جلل الحدث ومجابهة المدافع والبنادق فقد كان سلاحهن الورد والريحان، فتضعضعت النساء،لأنهن كن بلا قوة، ثم انهزمن في معركة غير متكافئة، وبذا يقول حافظ ساخرًا من الجيش:

والورد والريحان في

ذاك النهار سلاحنهْ

فتطاحن الجيشان سا

عاتٍ تشيب لها الاجنّهْ

فتضعضع النسوان

والنسوان ليس لهن مُنّهْ

ثم انهزمن مشَتّتاتِ

الشمل نحو قصورهنهْ

فليهنأ الجيش الفخور

بنصره وبكسرهنهْ

إلا أنّ انتفاضة النساء في باقة الغربية ضد الجيش الإنجليزي كانت الأولى من نوعها في التاريخ الفلسطيني وفي القرى على وجه الخصوص، فسلاح النساء كان الحجارة ورماد "الطابون" ، والنصر كان حليفهن قبل ان يعرفن إشارة "v ".
ولعلك تسأل ماذا؟ ومتى؟ وكيف؟ فلنعد الى البدء:

حدثني الحاج محمد رشيد عارف صفا ،وهو مؤرخ محليّ يحصي الشاردة والواردة في تراثنا، قال:

كان ذلك في الحادي والثلاثين من شهر آب سنة ألف وتسعمائة وواحدة وأربعين،فقد سُرقت ست بندقيات من الجيش الإنجليزي ( من كامب 80) بالقرب من باقة، ورغم أن اقتفاء الأثر إذاك لم يدل على أن البندقيات وصلت إلى باقة، إلا أنّ قيادة الجيش البريطاني أنذرت المختار بوجوب إعادة البندقيات خلال أسبوع ، وإلا فالويل كل الويل.

لكنهم وبعد أربعة أيام فقط أجروا تفتيشًا في كل منزل ومنزل، وحشدوا قوات من الشرطة لا تحصى، وهرعت قوات اخرى من كركور والخضيرة، واعتقلوا أربعين شخصًا من الشيب والشباب، وضربوهم وأهانوهم ، بل كانوا يأمرون الأطفال بالبصاق على لحاهم، والركوب على ظهورهم، وبساديّة تشف عن مكامن حقدهم. ونصبوا في أثناء ذلك خيامًا للشرطة، كما احتلوا بعض المنازل المجاورة للمقر العسكري.

وقد أصدر ضابط المنطقة المدعو "شارب" وكان برتبة "سيرجنت" أمرًا بتقديم المؤن اللازمة للجنود والشرطة، كما كلف الأهالي بتقديم العلف لخيولهم، وأمرهم بتنظيف المخيم بشكل متواصل.

ظل الانتقام دأبهم ليل نهار، والإهانة والتوبيخ والضرب تلاحق السكان ، فلا يرعوون عن طفل ، ولا يزدجرون من شيخ.
 "يجب أن "تخلقوا" القطع الست! اشتروها! اخلقوها! لصوص!".

هكذا أصدر "شارب" الأمر.

تعاون الناس على قلة الموارد وضيق ذات اليد، واشتروا ست بندقيات تفاديًا للعذاب الهون.
ومع ذلك بقي الناس يلاقون الأمرّين، مما أدى إلى الهرب من القرية ، تاركين أكداس القمح في البيادر بدون علاج ولا حراسة.
وفي العاشر من رمضان "ذكرى نصر المسلمين في بدر" :

احتفل الإنجليز مع الناس احتفالاً من نوع آخر جمعوا الشيوخ في ساحة القرية، وطلبوا منهم شتى الطلبات:

تارة أن يرقصوا أو "يدبكوا" ، أو يقلدوا الحيوانات، بل طلبوا من الواحد أن يلقي بقشور البطيخ والزبل على وجه الآخر. وكل من تململ أو عارض كانت الضربات تنهال عليه تترى ، فيرى دمه يسيل ، ولا من يسعفه، بل كان الإنجليز وبعض العملاء المتعاونين يدوسون على الرقاب بأحذيتهم قائلين للواحد :

" خلّي ربك ومحمّدك اللذين تستجير بهما يدافعان عنك".

إزاء هذه الإهانات المتلاحقة وسماع تأوه الرجال " أخذت أم السعيد" – حرم عبد الله صالح أبو بكر - و "أم أحمد" – عائشة الغليونية - تؤلبان النساء حتى تجمعت العشرات منهن، وما هي إلا لحظات حتى ملأن "القفف" أو "الزنابيل" بالرماد "السكن"، ورافقهن الصغار في مظاهرة حاشدة، والكل يصيح في عنفوان- "الله عليكم الله" ، واندفعت حماسة النساء، حيث كشفن شعورهن ، وحركن الأردان في صعود وهبوط داعيات على أعداء الله والوطن.

ودفعة واحدة أخذن يعفرن الرماد في وجوه الإنجليز الذين وقعوا في حيرة من أمرهم، فأخذوا يطلقون الرصاص في الهواء، غير أن الصغار حصبوهم بالحجارة المصيبة، فوقع الإنجليز في ورطة ، والنساء منهمكات في تعفير الرماد، وهن يصحن قائلات : "هيل عليكم هيل".

أُسقط في يد الإنجليز، فلاذوا بالفرار خاسئين، وهم لا يلوون على شيء، وما هي إلا ساعات حتى كانت الخيام في حركة ارتحال ، ثم كانت أثرًا بعد عين.
ومن الطريف أن الراوي كتب زجيلة تصف هذه الأحداث ، نذكر منها:

دب الحمى في النسا في هالبلد هبّين

باب الشوادر صيّحن يِِِِِنْخين

قِمْن السّكَنْ ع وجوههم تِعْفير

جُندُ الطّواغيت هَمّوا كي يضربوها

ودموع تذرف على الوجنات يَقْنِينْ

صرخات حزن وألم ع الظلم يدعين

وهكذا سجلت نساؤنا الفلسطينيات صورة بطولية أين منها الصورة الساخرة التي وصفها حافظ،، ولعلي أسمح لنفسي بتحوير أبيات حافظ فأقول واصفًا نساء بلدي :

كان الرَماد بعَفْرِهِ

ذاك النهارَ سلاحهنهْ

ثارت نساء القوم

والنسوان صار لهن مُنّهْ

ثم انتصرن موحداتِ

الشمل نحو بيوتهنهْ

فليخسأ الجيش الذليل

بكسره وبنصرهنهْ

* نشرت المقالة في عدد مجلة المنبر 2-3 ، 1989 ، ونعيد نشرها هنا في هذا الموقع .

انتفاضة النساء في باقة الغربية*

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى