الأربعاء ١٤ أيار (مايو) ٢٠٠٨
حماقات السلمون

توقيعان على لوحة واحدة

بقلم: محمد مبارك

تعي هذه الورقة حدود اشتغالها وإحداثيات مرامها، لأن ما تتغياه هو تقديم قراءة لمتن شعري تساوى في أبوته شاعران، تشاركا في حمل قلمهما الشعري قصد التحليق بالقارىء في عالم توليفتهما الشعرية الموسومة ب "حماقات السلمون". لذلك هل كانت هذه التوليفة رغبة في اكتمال "حماقات" محمد بلمو ب "سلمون" عبد العاطي جميل؟ أم أنها دعوة صريحة للسفر إلى متناهية الإبداع؟

من رحم هذين السؤالين تتناسل أسئلة عديدة، وذلك على اعتبار أن الإبداع الثنائي يستدعي تسييج مجموعة من المفاهيم، فمثلا:

ـ هل الإبداع مشروع فردي يروم الحفاظ على طقوس فردانيته؟ أم أنه مشروع يتغيا تعدد الذوات المبدعة وتكثيفها؟

ـ وهل هذا التعدد وهذا التكثيف يضمن استقلالية الذوات أم أنه يركن إلى انبثاق شخصية متحدة ينسل من رعاف قلمها نص موحد في بنائه العضوي حتى يصعب رسم إقليميته، وتحديد نجيع نسبه؟

إن الحديث عن الكتابة الثنائية يستدعي الإحاطة بمجموعة من الأعراف المخضبة بخضاب القداسة، ومشاكسة السائد والتمرد على النمطية، والقواعد المحنطة والقوالب الجاهزة التي أقرتها الأكاديميات المعتبرة أن النص بمثابة المرأة التي لا يشترك فيها رجلان. وأي توليفية ـ أو ما يصطلح عليها بتعدد الأصوات في النص الواحد ـ تؤدي إلى التشتت والانحراف وعدم التفاف روحي مؤلفيه مهما تقاربت هاتان الروحان، وتشاركت في رؤيتهما للعالم. حيث إن النص المشترك ـ حسب زعمهم ـ لا يخدم الإبداع، لأنهم يعتبرون أن الإبداع مع ذات أخرى لها أبعادها الجسدية وحدودها الروحية المغايرة لا يعدو إبداعا. ويجزمون بأنه مشروع ذاتي بالأساس، ورؤية خاصة للكون. وأي اشتراك فيه يصاحبه تقابل في هذه الرؤية الخاصة، وانحراف عن النسقية، وبالتالي تيه وتفكك وإفراغ من كل بعد فني.

إن تهمة عدم شرعية النص المشترك تتبدد وتندحر ـ خصوصا ـ عند العودة إلى أركيولوجية التأليف والتحقيق في أرشيفاتها. حيث نقف أمام نماذج من أصحاب الروائع الثنائية التي رامت تقاسم أدوار التجذيف في عباب التأليف، قصد الوصول إلى شط زبده وصدفاته وحبيبات رمله تنطق بالفنية والجمالية. ولهذا لا يستطيع أي أحد أن يتجاهل قيمة رواية عالم بلا خرائط التي انسلت متدفقة من قلمي مؤلفيها عبد الرحمان منيف وجبرا إبراهيم جبرا. وكذلك لا ننسى أعمال الأخوين كونكور وغريم وروزني وثارو وبيرو التي حفزتهم للحصول ـ جميعا ـ سنة 1906 على جائزة الكونكور. ولا يمكن ـ أيضا ـ أن ندير ظهورنا على أفلام لوريل وهاردي، وكتاب الورثة لبيير بورديو وجان جاك باسرون وأعمال كل من شاتريان وأركمان وخورخي بورخيس وأدلفو بواي كازار وأندريه بروتون وفليب سوبو وجيل دولوز وفيليكس غاتاري.

وعند الحديث عن العمل المشترك لهذه النماذج، نورد حوارا لدولوز يصف ـ من خلاله ـ تجربته المشتركة مع غاتاري " إن الكتابة مع الآخر لا تطرح مشكلة. بل العكس، بل ربما تكون هناك مشكلة إذا ما كان الأمر يتعلق بأشخاص عديدين، لكل واحد منهم حياته الخاصة، وآراؤه الخاصة، ويقترح أن يتعامل مع الآخر، وأن يتناقش. عندما قلت إني وفيليكس غاتاري كنا بمثابة نهرين، فإني أعني بذلك أن التشخصية ليست بالضرورة شخصية ونحن لسنا متأكدين أننا أشخاص ؛ مجرى هوائي، ريح، يوم، ساعة من يوم، نهير، مكان، معركة، مرض لكل هذا فردانيته اللاشخصية. كل واحد منا له اسمه الخاص به، وهما يتكونان كنهرين كجدولين.وهما اللذان يعبران من خلال اللغة، وفيها يحفران الاختلافات. غير أن اللغة هي التي تمنحها حياة خاصة وشخصية (...) لهذا فإن الكتابة مع الآخر هي طبيعية من هذه الناحية. يكفي أن يمر شيء ما، مجرى وحده، يحمل اسما خاصا به. حتى عندما يكتب الإنسان وحده، فإن الأمر يحدث كما لو أنه يكتب مع آخر، وليس مسمى دائما "

وعلى حدو هذه النماذج من أصحاب الروائع الثنائية، احتد محمد بلمو وعبد العاطي جميل، اللذان راما ـ من خلال توليفتهما الشعرية ـ إلى تناص صوتيهما، واغتيال كل ضجيج يصحب هذا التناص، ونفي كل بروز للذات وتسلطها على الثانية، بالرغم من صراع المرجعيتين والمخيالين. وفي صنيعهما هذا، يقول الدكتور عبد الجليل بن محمد الأزدي " تنتفي القواعد والصيغ العامة، مثلما تتزايل عمومية الشعار المطالب بسقوط الواحد، لينتصر الطموح إلى ممارسة المتعدد، وضمن هذا التعدد لا يظل جميل وبلمو مجرد شاعرين حقيقين، وإنما يصيران قبائل وعصابات من الشعراء، إذ يحيل كل منهما على أناس مختلفين، وداخل الما بين الإثنين تترامى أمداء بحار الشعر، غير أنها تزداد تعميرا بالسلمون المشاكس وحماقاته الجميلة ".

وهكذا فإن تواجد ضميرين، وحضورا لأنا والآخر في هذه الخلطة الشعرية قد جعل بلمو وجميل لا يرتدا إلى عويلم ذاتهما الضيق، بقدر ما هيأ لهما جوا من الالتحام والتناص. ويتجلى هذا التدخل ابتداء لتقاسمهما مصراعي العتبة، حيث إن مبدأ الإضافة القائم بين المضاف ( "حماقات" بلمو) والمضاف إليه ("سلمون" جميل ) يفضح التشارك.

هذا مظهريا؛ إذا استنطقنا عتبة الديوان. في حين يشي فهرس المحتويات بإقليمية النصوص وانتمائها بترسيمة تضمن انعزالية الشاعرين وخصوصيتهما؛ حيث أقاما تماثلا وتناظرا بين هذه النصوص، إذ إن "حماقات السلمون" عانقت بين رقاب ثمانية وعشرين نصا جاءت مقسمة بالتساوي بين قصائد بلمو ومسودات جميل. كما أن هذا التجنيس لمفهومي ( القصيدة ) و( المسودة ) له غائيته لرسم الفواصل والندية. وبالرغم من تجاذبات "حماقات السلمون" بين انعزالية واهمة وبين حلم طوباوي لدمقرطة التأليف، فإني ـ كمتلقي لهذه التوليفة ـ أعلن تورطي في هيام قدها المليح وفتنتها الباذخة وغنجها المترف.

بقلم: محمد مبارك

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى