الاثنين ٢٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم طلعت سقيرق

حسن حميد في مدينة الله

هل هي القدس تأتي محملة بكلّ تاريخها لتدخل عالمنا معجونة بأشواقنا وحنيننا وحبنا ومحاولتنا الدائبة كي نخرجها من إطار الأسر إلى إطار الحرية الذي نريد ؟؟.. الروائي والقاص حسن حميد يدخلنا في روايته "مدينة الله" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، في كلّ جزئيات مدينة القدس من خلال رسائل مصفاة أو عالية الوتيرة كتبها الروسي فلاديمير بودنسكي إلى أستاذه ومواطنه جورجي إيفان.. ودور الراوي أو من وصلت إليه الرسائل محدد بكونه ناشر الرسائل ليس إلا.. والعبرة أو قل المؤدى من كون الرواية قد نسجت على شكل رسائل من رجل روسي محدد في إعطاء شيء من الحيادية نحو مدينة تسكن الذات الفلسطينية حتى العمق.. وهنا يفترض أن يكون فلاديمير بعيدا عن الغرق في حب القدس بل عشقها إلى حد ما، لكن وبحيادية تطلبت من حسن حميد الكثير من الحذر والانتباه نمضي في التعرف على هذا العاشق الروسي وعلى هذه المعشوقة القدس وعلى سحنة الغريب الذي يمثله البغالة وبغالهم وأفعالهم وكل حركة من حركاتهم.. لتكون الخارطة البادية هنا خارطة مدينة وأصحابها من الفلسطينيين الذين يتعرضون للكثير من العذابات مقابل أعدائها من المحتلين بما يمثلونه من كره وحقد وخبث وخوف دائم، وهناك فلاديمير العين المصورة لكل شيء بأمانة واستغراق في حب المدينة ونقل لما يشاهده، وهذا المشاهد لا يستطيع إلا أن يقول الحقيقة..

حركة فلاديمير في رسائله القصيرة والتي تصل حدّ التشفير أو القصيدة الشعرية، تتنقل من مكان إلى مكان لتقول القدس بكل ما فيها.. لا شيء يغيب هنا أو يغيـّب.. كل رسالة تفتح صنابير وجدها لتروي المكان والزمان والتاريخ والناس والموجودات وأفعال الناس وعاداتهم وتقاليدهم، مستغرقة بل مأخوذة بسحر القدس الخاص الذي يسيطر على أحاسيس فلاديمير كما على صاحبه الحوذي جو.. هنا تتبدى شاعرية حسن حميد بجمالية وتميز ليكون المكان المفرود أمامنا مكانا مرتفعا أو مبتعدا قليلا عن ملامسة الأرض بشكل عاديّ، فكل نبض المكان ينهض ليشدّ عصب القلب والأنفاس قبل أي شيء آخر.. الرويّ مأخوذ، الأوصاف مأخوذة، الخطوات مسحورة أو مشدودة إلى عالم سحري، والموجودات كلها طالعة من بحر أمواجه الجمال..

ورغم اضطرار حسن حميد لرواية المكان والتاريخ وجغرافية كل ما يشاهد والعودة إلى أرقام جامدة في كثير من الأحيان، فالرسائل لا تترك نبضها الأخاذ بأي حال.. ليس هناك مكان أو مدينة في القدس أو حولها وقريبا منها إلا وتكون حاضرة في مشهد حسن حميد المفرود في رسائل فلاديمير.. هذا الحضور لا ينقصه أي شيء فهو حضور للطبيعة كلها، والتاريخ كله، والحكاية كلها، ولكن بحذق الراوي وقدرته على بناء عمله بحب شديد يجعل كل شيء ينبض بالجمال..

يصعب أن تحكي حكاية تجمع فيها فلاديمير أو سيلفا والحوذي جو وليلى وأم سعد وأم أهارون وغيرهم.. أو أن تحكي حكاية الأمكنة الكثيرة في الرواية.. فالحضور ثر وكثيف ورائع ومندفع إلى الأمام ليكون في الواجهة.. لكن شرط الحكاية في أخذ القدس وناسها إليك، شرط القصة أن تفهم سحر هذه المدينة، نبض الرواية أن تكون جالسا على مقعد في أحد المقاهي لتشاهد بأم العين ما يحدث أمامك من ممارسات يقوم بها البغالة ضد الفلسطينيين بحقد غريب وخوف لا مثيل له.. والمشهد المرويّ في " مدينة الله " أنّ القدس رغم كل ما يحصل ويحدث ستبقى عربية.. فحسن حميد يقنعك بل يثبت من خلال رسائل العاشق فلاديمير أنّ مدينة القدس مشغولة بفرادتها وأنفاسها ونهوضها العربي.. مؤدى الرواية المليئة بما شئت من علاقات وعواطف وأحداث وتداخلات ونبض وأمكنة وموجودات وتواريخ مؤدى يصل بك إلى عروبة القدس ولا شيء آخر.. رواية مشغولة بإتقان حسن حميد وجمالية سرده وتوليفه، لتكون واحدة من الراويات النادرة التي روت القدس بهذا الشغف والجمال والتفوق..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى