الأحد ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠٢٤

حينَ تصفعُ اللّغةُ وجهَ الحضارةِ

شيم محمد العبدو

في البلادِ الّتي أشاخَها صِباها:
التّاريخُ عالِقٌ بينَ حَوافرِ الوهمِ وبين أسنانِ الطّغاة..
الموتُ لا زالَ يُمَجِّدُ ضحاياهُ ويسخرُ من نفسِهِ حتّى التّعب..
ورجالٌ يمرِّرونَ الشّعاراتِ الوطنيّةَ بين المنابرِ
كما يُمرِّرُ صبيةٌ كرةً بينَ الأقدام..
في البلادِ الّتي أشاخَها صِباها:
الهواءُ نعشُ الفراشاتِ الّتي تحلمُ بشرانقِ الضّوءِ،
وطقطقةِ الرِّياحِ الّتي تلفُّ الأجنحةَ بالعطرِ والنّشوة..
الشّعرُ يُجازِفُ بالشّمسِ والأشجارِ العالية واعترافاتِ الأبديّة،
ولا يَصِل..
أسلاكُ الفراغِ المُمَدَّدةُ بعشوائيّةٍ بين الأفواهِ الأليفةِ
تشنقُ الميتافيزيقا عن غير قصدٍ..
في البلادِ الّتي أَشاخَها صِباها:
الصّوتُ طاحونةُ البرقِ وسكّةُ الصّواعقِ،
وقبرٌ احتياطيٌّ لصاحِبه..
الأيادي كفّارةٌ عن الوداعاتِ واختناقِ المطرِ بينَ الأبوابِ والغياب..
الوجوهُ تذاكِرُ النّسيان وأحذيةُ اليقظة..
وأحزانُنا كما أسماءُ مدنِنا؛ عريقةٌ عريقة..
تحترقُ البلادُ، ولا يخرجُ سالماً منها إلّا الأساطيرُ..
تلتهمُ الثّرواتُ والنّبوءاتُ البلادَ،
ولا يخرجُ سالماً منها إلّا الأساطيرُ..
ينتحبُ شبحُ البلادِ على البلادِ،
فلا يُعزّي بها إلّا الأساطيرُ..
تستطيعُ الأساطيرُ الدّفاعَ عن نفسِها عكسَ ما كانوا يعتقدون،
ولا يبقى للبلادِ من أحدٍ يُدافعُ عنها أو تدافعُ عنه..
كانَ جدّي يُعلّمني كيفَ أحشو الضّحكَ بالبكاءِ،
وكالحلّاجِ كانَ يقطفُ التّينَ ورائحةَ عبورِ المسيحِ الطّازجةَ
ويرقصُ يرقصُ..
كانَ جدّي يعلّمني كيفَ أُسلّي الحياةَ،
وأُؤنِّبُ الفجرَ حينَ يُماطِلُ في حضورِ الصّلاة..
كان يُعلّمني أن أُجاورَ نفسي لا أن أسكنَها
وأن أُطالبَ يدي قبلَ أن أطلبَ من الله..
ودونَ أن يدريَ
كان جدّي يُعلّمني كيفَ أُفرّقُ بينَ الأبيضِ والأبيض
وكيفَ أشقُّ بالبخورِ وسورةِ مريم بطنَ الوقتِ المنتبج..
لِمن تركْتَ عنبَ الكلامِ الحلوَ يا جدّي؟
لِمن تركتَ القِبلةَ في الدّارِ القديمة،
والغناءَ حينَ تتعبُ القصائدُ؟
لِمن تركتَ النّزهاتِ حولَ الفيضِ
وخنجرِ إلكيا الّذي يُميتُ أو يُحيي، ولا يطعنُ؟
لمن تتركُ الزّيتونَ الّذي يتنبّأُ بالينابيعِ القادِمة،
ويحفظُ أسماءَ أيّامِ الأسبوعِ في الأزلِ،
ويُخفي عنّا القّيامة؟
لِمن تتركُ الصّباحَ النّزقَ وفنجانَ القهوة
ولفافةَ التّبغِ الّتي تُسيءُ فهمَ أصابعكَ كلَّ مرّة؟
ولِمن _يا جدّي _ تتركُ تلكَ الحكمةَ
الّتي تُضيءُ الصّدى والظّلالَ؟
هل للغابةِ أن تدلّني إلى نومِ اليمام؟
إلى الأزرقِ الّذي يُبدِّلُ ذاكرتَهُ كلَّ بُرهتين،
فلا تفترسُهُ البداياتُ أو النّهايات؟
إلى الحجَرِ الّذي تعثّرَ بالنّداءاتِ البائدة،
وتركَ على معصمِ الرّياحِ نقشاً سرياليّاً؟
إلى الغُصنِ الّذي يصقلُ الضّبابَ ليلاً،
ويُحصي قشورَ الشّمسِ المُلقاةَ على أوراقِ الشّجرِ نهاراً؟
هل للغابةِ أن تدلّني إلى صهيلِ اللّغةِ الأولى،
والمرأةِ الّتي غطّتِ الرّعشةَ البِكرَ بثدييها؟
إلى الخلودِ الّذي لا يعبأُ بخلودِهِ،
ولم يفتأْ ينحتُ الأنهارَ ويُراهنُ على براءةِ الأشواك؟
إلى ذلك الانسجامِ بينَ المخاضِ والفكاهة؟
إلى الجمالِ الّذي لا يجرحُهُ سواه؟
إلى العُشبِ الّذي يعفي الفصولَ منَ التّلاحق؟
إلى لحمِ المسافاتِ الّذي يبتلعُهُ العدوُ السّريعُ نحوَ اللّاشيء؟
إلى ما قبل الدّوبامين الذّكيّ، إلى ما قبل الحضارة؟
على الخيالِ أن يبقى الابنَ العاقَّ للّغةِ
وعلى اللّغةِ أن تُطيعَ عقوقَ ابنِها لتكتشفَ أبوّتَهُ..
تزدادُ كتلةُ المجازِ في زفيري ويصيرُ الزّمنُ رخويّاً
كلّما حملقتْ في لامبالاتي نافذةٌ مغلقة،
وأنا أُصِرُّ على الشّرودِ
بينما تغطسُ قدمايَ في أغنيةٍ
وترجُّ بَصري صفعاتُ لونٍ لامرئيٍّ..
مَن مِنّا سينجو من المصائدِ دونَ أن ينصبَ أيّةَ مصيدة؟!
مَن مِنّا سيغفرُ لأحلامِهِ دونَ أن يُعاقِبَ نفسَهُ؟
مَن مِنّا سيكفُّ عن شَطْبِ خُطاه المثقوبةِ،
ويقتنعُ أنّها طَفرةٌ فنّيّةٌ لاواعيةٌ في الوعيِ البشريّ؟!
من مِنّا سيُصالِحُ عُريهُ:
يَنبشُ المرايا،
ولا يتجاهلُ انزلاقَ اللّمسِ
فوقَ الكلماتِ المُحرَّمةِ وسوائلِ الكينونة؟!
أَلِأنّني أعرِفُكَ جيّداً أجهَلُك؟!
وهذا الّذي تنقعُ دموعَكَ فيه
أَحُزنٌ قديمٌ هو أم ضراوةٌ مُؤَجَّلة؟!
ثمّ لماذا تُجيدُ استفزازي هكذا؛ تماماً كما أُحبّ؟!
إنّكَ لن تفهمَ خوفي على أنّهُ شكلٌ من أشكالِ استمناءِ العاطفةِ
حتّى تُقيمَ مساماتُكَ في كلِّ سنتيمترٍ من جسدي،
وتعرفَ كيفَ تُروِّضُ وحشيّةَ أمومتي!
يبدو لي أكثرَ إيروتيكيّةً من انغرازِ عضوينا في اللّذةِ والألمِ
ذلك الغموضُ الّذي ينفخُ كعاصفةٍ في الرّغبةِ
لتنجوَ من السّؤالِ وتتورَّطَ بنفسِها..
ذلكَ الغموضُ الذي يدفعُ اللّيلَ
ليُقوِّسَ نسيجَ الصّمتِ على باطنِ فخذٍ،
ويتركَ الصّرخةَ تتَعرَّقُ على باطنِ الفخذِ الأخرى..
تُغرِّدُ الدّماءُ بينهما، وتنتفضُ سكاكينُ الهمسِ حولَهما
حينَ تستدعي يدٌ يدَها لتعصرَ النّارَ
وتفركَ أشعّةَ الماءِ المُبقَّعِ بالملحِ واللّهاث..
"كأنّنا حينَ نُحبُّ نتخفّفُ من كلِّ انتماءاتِنا
أو نختزلُها جميعاً في الجنس!"..

شيم محمد العبدو

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى