الأحد ٢٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
الكاتب الحقيقي لا يكتب إلا رواية واحدة فقط في حياته

رشيد بوجدرة ...في حوار هاديء...على غير عادته

حاورته فضيلة بودريش - الشعب الجزائرية

يتحدث الروائي الجزائري الكبير رشيد بوجدرة بصراحة كبيرة وبتواضع شديد عن الواقع الثقافي الجزائري فيناقش صميم القضايا الثقافية الراهنة، ويظهر كناقد لاذع يسلط الضوء بذكاء على التغيرات والتطورات التي تعرفها الساحة الثقافية الجزائرية، يلامس الإيجابيات ويكشف النقاط السوداء، بل كان يتجاوز المشهد الثقافي الوطني ويحلق عاليا نحو القضايا الاجتماعية، فيغازل المرأة، ويدير ظهره للانتخابات التشريعية، ويعترف لجميع قرائه أن الجزائر بكل سلبياتها.. إيجابية..

لم يتردد كعادته في تحديد موعد إجراء المقابلة التي يفضلها دائما بمنزله المرتفع في الطابق الثاني عشر بأعالي شارع محمد الخامس.. لا شيء تغير منذ خمس سنوات تاريخ آخر زيارة وآخر مقابلة أجريتها معه في خضم صدور روايته /الجنازة/.. مكتبته عامرة تطلّ على العاصمة الساحرة والتي يتقاطع بياضها بزرقة مياه خليجها.. يستميلك إليه بهدوئه المعتاد وتلقائيته التي يدلل عليها لباسه الرياضي.. لم تكن الساعة والنصف التي جمعتنا به كافية لطرح جميع ما كنت أحمل من استفهامات وأدركت أنني أزداد فضولا ولا يمكنني أن أنهي مقابلتي مع هذا المبدع السخي ولو في ظرف يوم أو يومين.. تكرم بإحضار كوب من عصير البرتقال وبدأ حديثنا..

 صدر لك مؤخرا مولود روائي جديد انتقيت له من الأسماء فندق سان جورج.. لماذا اخترت أن يكون هذا المولود باللغة الفرنسية، بينما تميمون باللغة العربية؟ وهل هو تخندق في معسكر قد يسميه البعض /فرنكوفونيا/؟

 رشيد بوجدرة: لا.. لا يعجبني التخندق ضمن المعسكر الفرنكفوني، ولا أحب أن أكون في رواقهم لأن حبي وولائي الحقيقي هو للغة العربية، وما أرغمني على العودة للكتابة باللغة الفرنسية جبن الناشرين الجزائريين الذين رفضوا خلال الفترة الأمنية في سنة 1994 نشر رواية /تميمون/، فاضطررت إلى نشرها في ألمانيا لدى صديق ألماني مجانا، وقمت بإدخالها في الحقائب عبر باريس لأوزعها مجانا في الجزائر، وعندها قررت إبرام عقد آخر مع دار نشر فرنسية تدعى /غراس/، وتعد رواية /سان جورج/ آخر رواية في الارتباط، أي الرواية السادسة في العقد بعد خمس سنوات من صدور /الجنازة/، علما أن بدايتي كانت باللغة الفرنسية وعندما انتهى عقدي مع دار النشر الفرنسية سنة 1983 أصدرت /التفكك/ وهي أول رواية كتبتها باللغة العربية حيث لم أكتب بعدها بالفرنسية إلا بعد سنة 1994 عندما واجهت صعوبات ونفور من نشر رواية /تميمون/ ومناورة الكثير من دور النشر الوطنية، لأن الآلة الإرهابية الدموية كانت آنذاك في أوج هيجانها.. لكنني لا أنكر أنني لو لم أكتب باللغة الفرنسية لاستحال أن يصدر لي إبداع واحد بسبب الرقابة السياسية والدينية والإدارية والجنسية، لأن الرقابة في العالم العربي كانت آنذاك مدججة بأيد حديدية ومقص صارم، وكان صعبا أن يقبل ناشر في المغرب أو لبنان بالنصوص التي كتبتها، لذا أعترف بالجميل.. بجميل النشر لدور النشر الغربية.

 قلمك بروحين.. ينساب بروعة للإبداع بلغة الضاد وطيع وراق عندما تكتب بلغة فولتير.. فما سر تفضيلك أحيانا لغة على لغة، وأين يجد بوجدرة نفسه طلقا يبدع بحرارة وصدق أكثر؟

 مازالت اللغة الأم العربية بالنسبة لي لغة العشق بالمعنى التصوفي، ويربطني بها حنين قوي ومبهور بقوتها لأنني أتمكن عبرها من خرق النص العربي عن طريق اللغة الشعبية، لأنها لغة شعرية وجميلة، وفوق ذلك معبرة تنساب في رقة وعذوبة، وتلامس اللامعقول، ويستحيل في كل هذا أن أوظف اللغة الشعبية الفرنسية، وأعتبر أن اللغة العربية لغة محدثة ومدهشة في تركيبتها، فأنا مبهور بها، رغم ما تحمله اللغة الفرنسية من جماليات، إلا أنني انطلاقا من موقف سياسي أحرص على الإبداع بالعربية، والمستقبل لها.

 رغم أنك عشت فترة من الزمن خارج الوطن إلا أنك بقيت وفيا لمناصرة كل ما هو جزائري، إذن كيف كنت تستطيع أن تعيش بعيدا عنه؟

 لدي قناعة أن الجزائر بجميع سلبياتها إيجابية، وعندما أكون بعيدا عنها ـ بالجسد فقط ـ فهوسي بالجزائر كبير، ولعلمك غبت خمس سنوات فقط في المهجر: سنتان قضيتهما بفرنسا وثلاث سنوات بالمغرب بسبب ارتباطي بعقد عمل مع دور النشر الأجنبية، وعدت سنة 1975.

وفضلت خلال الأزمة الأمنية ملازمة منزلي وعدم مغادرة الوطن انطلاقا من حبي الكبير للجزائر، وربما السر في أن جيلنا المخضرم عاش ثورة التحرير المجيدة وذاق نشوة الاستقلال، حيث كنت ضابطا في جيش التحرير وساهمت في عملية تهريب الأسلحة من إسبانيا وكانت تحضرني دوما صورة والدي في السجن وأنا لم أتجاوز الـ 12 سنة، وأقول إن جيلي عاش تلك الوطنية النابضة.. وعندما أكون أتناقش مع الجزائريين أتناقش معهم بحرارة عن قضايا الوطن، أما قضايا الفرنسيين أو الإنكليز وما إلى غير ذلك فلا تهمني.

 المتتبع لإبداعاتكم يلاحظ أنكم في فترة الأزمة الأمنية كنت تنتج بغزارة أما اليوم فقد تغير إيقاع الكتابة لديك.. ما سر ذلك؟

 في البداية كنت أكتب رواية كل ثلاث سنوات، وعندما تدهورت الأوضاع الأمنية في الجزائر، غيرت الوتيرة وقررت الكتابة كل سنة كرد فعل سياسي وأدبي، واليوم أنوي كتابة رواية كل خمس سنوات.

 لماذا هذا التغيير المفاجئ؟

 أظن أنني كتبت كل شيء حيث أنتجت 17 رواية من بين 24 إبداعا، ولا أرغب في تكرار نفسي لأنني مقتنع أن الكاتب الحقيقي لا يكتب إلا رواية واحدة فقط في حياته، رغم أنه لا يعترف بذلك، فعندما كنت شابا أظن أنني قلت كل شيء، فنجد نفس الروح ونفس الإسهامات، لأن الكاتب له قاموسه الخاص، ويوظف كل ما هو محدث في الرواية، وأتذكر عندما كلفت بإلقاء كلمة تأبينية عن محمد ديب بالمكتبة الوطنية الفرنسية، قمت بالبحث في مؤلفات ديب، فكانت كثيرة ومتشابهة، لأنها بلغت 82 إبداعا وأعتبره إنتاجا كثيفا.

 لماذا ارتبط اسمك واشتهرت برواية /الحلزون العنيد/؟

 صحيح رواية الحلزون كان لها صدى إلى جانب رواية ألف عام من الحنين وتميمون، وربما الحلزون نجحت أكثر في المغرب العربي وترجمت إلى 32 لغة واقتبس نصها في مسارح العالم على غرار المسرح الفرنسي والأمريكي.. وأعترف أنها على مستوى المقروئية نجحت كثيرا، وربما لأنها لامست معاناة المواطنين كونها جاءت لتكشف جانبا من تفشي شأفة البيروقراطية، فبطل القصة مبحر في كواليس البيروقراطية، لكن في الحقيقة هو إنسان طيب، وفي آخر الأمر فهي تبقى رواية فقط وليست نصا سياسيا.

 كيف تقيم ساحات الإبداع الجزائرية من الأقلام الشابة اليانعة التي اكتوت بلفحات الإرهاب الدموي؟

 مازال المشهد الإبداعي لم ينجب عملا كبيرا يحدث القطيعة والشرخ، لكن لا أنكر وجود بعض الأقلام الجميلة في الشعر، وحتى رواية /المتاهات/ لـ /احميدة لعياشي/ كانت ناجحة وأعتبرها نوعا من القطيعة، لكن للأسف لم يستمر احميدة في هذا الرواق وسرقته الصحافة من الرواية، ومع ذلك أقر أنه يوجد بالجزائر نخبة راقية تكونت في المدارس الجزائرية ـ رغم ضعف هذه المدارس ـ ولا نبالغ إذا قلنا إن هذه النخبة تفجرت من العدم.

وأشير إلى أنه رغم عيشنا ركودا ثقافيا وحضاريا وسياسيا، إلا أنه أحيانا كما يقولون تنبت في الصحراء نبتة خضراء ويولد قلم جميل.. وأضيف أن القطيعة الإبداعية تكون في الرواية والسينما، فعلى سبيل المثال جاء محمد ديب ومولود فرعون، ثم ظهر كاتب ياسين، وأحدث القطيعة والشرخ برائعة نجمة، ثم بعد حوالي 12 سنة جاء بوجدرة وأحدث القطيعة الثانية مثل كاتب ياسين، لأنهم كتبوا ضد الاستعمار، بينما كتبت في القضايا الراهنة للجزائر، لأننا جيل أكثر تحررا، ولأن قضية المرأة والجنس ليست مطروحة في تلك الروايات، ورغم أن رواية نجمة جاءت تحفة إلا أن المرأة فيها شبه خيال وليست إنسانة.. والجنس والجسد والسياسة في رواياتي معطى من معطيات الحياة، ولا أوظفها لسبب استفزازي، لأنها أمر طبيعي إذا قمنا بتركها على الجانب نكون قد كرسنا جزء كبيرا من الرقابة الذاتية، يعني أنني الروائي الأول الذي اخترقت أعماله الثالوث المحرم، أما القطيعة الثالثة، فتجسدت في جيل خلاص وواسيني والزاوي، لأنهم أحدثوا نوعا من التغيير، وأعتبرهم أكبر قطيعة لطاهر وطار، لأنهم تحركوا بصورة مستقلة وكانت لديهم استقلالية أكبر في الإبداع.. أما عربيا فما زال لم يبرز عمل إبداعي كبير يحدث القطيعة والشرخ مع أعمال أدونيس والغيطاني ماعدا ظهور عمل أو عملين جميلين.

 على ذكركم الطاهر وطار.. هل ما زالت خلافاتكما قائمة أم تمت تصفيتها؟

أعتبر الطاهر وطار أكبر كاتب كلاسيكي باللغة العربية في الجزائر، ولا أرغب التحدث في موضوع الخلاف، لأن المعارك التي خضتها معه وتحدثت عنها في وسائل الإعلام جاءت فارغة ولا جدوى ولا فائدة من إثارتها.

 نعود إلى الأعمال الإبداعية.. في رأيك ألا تعد أعمال أحلام مستغانمي نوعا من القطيعة؟

 رغم أن أحلام مستغانمي ظاهرة إلا أنها لم تحدث الشرخ، فعلى سبيل المثال ذاكرة الجسد تبدو فيها متأثرة بالأدب السوري واللبناني والمصري، لكنها حشرت ضمن خندق الجنس، وإن كانت روايتها في الحقيقة عشقية غرامية خالية من الجنس، كما وظفته أنا في رواياتي، ما عدا العناوين عندها فهي تحمل جانبا من ذلك، ولعلمك قرأت ذاكرة الجسد قبل 20 سنة عندما كانت مخطوطا.

 يبدو من خلال أعمالك أنك متأثر بالمرأة لدرجة التعاطف مع الجنس اللطيف ما سر ذلك؟

 للأسف مازال موقف الرجل من المرأة متحجرا ومتخلفا بسبب التخلف الذهني والاقتصادي لأننا مازلنا تحت الصدمة الاستعمارية، رغم أن المرأة في الجزائر متميزة حيث تمكنت بجدارة من اقتحام وولوج جميع المجالات، وهي اليوم تتقدم في هدوء وبكدح لأنها نزيهة، ومتيقنة من نفسها.

 تبدو حركية فعاليات الجزائر عاصمة للثقافة العربية بطيئة نوعا ما، لماذا ما زلنا لم نر لحد الآن تظاهرات كبيرة تلفت اهتمام المثقف وتضفي سحرا على المشهد الثقافي؟

 كنا ننتظر من العاصمة الثقافية مشهدا ثقافيا مثيرا بنشاطات مكثفة، وكان هذا حلم المبدعين والمثقفين بدرجة خاصة، غير أننا في الواقع لم نلاحظ أي شيء مميز أو خارق للعادة، لكن مع كل ذلك ما زالت السنة في بدايتها، ومن الممكن أن تحدث المفاجأة ويتغير إيقاع نشاط السنة الثقافية، من خلال الاحتفالات بكبار الكتاب العرب، لأن كل ما رأيناه لحد الآن عادي جدا ولا يخرج عن نطاق الفلكلور، وحتى تلك القراءات الأدبية ما زالت غائبة من طرف الأدباء الكبار أمثال أدونيس والغيطاني.

ولم ينظم معرض تشكيلي بمستوى عال بأسماء كبيرة مغربية أو تونسية أو عراقية من أصحاب الريشة الجميلة، ولم نر شيئا يبهر، لكن يبقى الأمل قائما، وربما سيتحقق الحلم على مستوى الجودة والكم والكيف مستقبلا.. ويوجد أمر غريب ويتمثل في أن المسؤولين لم يتصلوا بالكتاب والمخرجين والسينمائيين الجزائريين الكبار، ولم يتصلوا بي شخصيا، ولست أدري لماذا والسؤال يبقى مطروحا بدون إجابة...؟

ويبدو أنه يوجد خلل على مستوى التنظيم أو البرمجة خاصة بعد استقالة الأمين بشيشي الموسيقار الكبير وبعده كمال بوشامة...

 خلال السنوات الأخيرة عرف اتحاد الكتاب الجزائريين تململا وتصدعا، هل ترى أن هذا الانشقاق ظاهرة صحية، وما هو موقفكم منه؟

عندما كنت أمينا عاما لاتحاد الكتاب الجزائريين قررنا أن المسؤولية لا يجب أن تتعدى الثلاث سنوات، لكن على ما يبدو هناك جماعة لم تحترم القانون، لكن جاءت فئة من الكتاب ونظمت مؤتمرا قانونيا، والدليل على ذلك أن العدالة وقفت إلى صفهم، والقرار جاء لصالحهم، رغم أن اتحاد الكتاب كان تحت سيطرة مجموعة كبيرة أعترف أن بعضهم هم أصدقاء لي، على غرار السائحي، لكن أظن أنه حان الوقت لترك المشعل للشباب لأن هذا الأخير عندما صار يسير اتحاد الكتاب بعد المحاكمة أضفى لمساته الإيجابية على الإتحاد، حيث بدت مكتبته أكثر جمالا وبدأت أموره تتحسن شيئا فشيئا.

 هل تتفق مع القائل إن الإبداع والفن قوة عجيبة بإمكانها التأثير على المجتمعات وتغييرها؟

 لا هذا غير صحيح على الإطلاق.

 يقولون إن مسرحية نجحت في تفجير الثورة الفرنسية، ألا توافق على ذلك؟

 الفن والإبداع ليس بإمكانه أن يغير في التاريخ شيئا، وإنما التاريخ هو الذي يؤرخ للرواية والمسرحية، والنص الروائي المترجم لم يفجر الثورة الفرنسية، أو البلشفية، وإنما سجل ما كان موجودا في هذه الثورات.

حاورته فضيلة بودريش - الشعب الجزائرية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى