الثلاثاء ١ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم عبد المجيد العابد

زمن الصورة

لقد أصبحت الحداثة الإنسانية المعاصرة حداثة للصورة، فالصورة اليوم بكل تمفصلاتها وتجلياتها تطارد الإنسان الحديث في حله وترحاله، فهي تفتح عليه باب منزله دون استئذان عن طريق التلفاز والإنترنيت وغيرهما، كما تقُضه في عمله وفي جميع مناحي حياته المخصوصة والعامة، لذلك أصبح لا مندوحة له من التدبير الفاعل في التعامل معها، حتى يستطيع الاستفادة منها وتطويعها لصالحه دونما تركِ مجال لها لاستعباده، لذلك يفترض في الإنسان العربي اليوم قبل أي وقت مضى التسلح بثقافة بصرية تمكنه من التعامل السيميائي الفاعل مع الصورة في جميع تجلياتها، بدءا بالصورة الفوتوغرافية وانتهاء بالصورة الإشهارية.

لهذه الأسباب وغيرها ظلت الصورة مثار نقاش وجدال دائمين، لما لها من خطر في تشكيل الذهنيات، وكسر الحدود وتنميط السلوكيات والمعتقدات، وتطبيع الرؤية إلى العالم والأشياء لدى المجموعات البشرية المتعددة فكرا وسلوكا وممارسة وثقافة(بالمعنى الأنتروبولوجي لمفهوم الثقافة).إن المقصود بالثقافة البصرية هو امتلاك الميكانزمات التي تشتغل وفقها الصورة من الناحية السيميائية، ولا يتم هذا طبعا إلا بالاشتغال الدائم على البحث في كيفيات تدليل الصور وإيحائيتها التي لا تنتهي، فالصورة ليست معطى جاهزا بريئا، بل هي حمالة أوجه ومائعة المعنى، بإمكانها أن تقول في لحظة ما تعجز آلاف الألفاظ عن البوح به.

تحضر الصورة البصرية عبر عمادات مختلفة تعد اليوم صلب التواصل البصري، فهي أساس العمل السينمائي القائم على التفكير البصري في مواجهة الواقع الذي توهِم به مقتضيات السينما عبر أدواتها الإجرائية التي تقوم على مراحل ثلاث رئيسة، ونقصد بهذه المراحل: مرحلة الكتابة البصرية (السيناريو) ومرحلة التحقيق الفعلي للفيلم (الإنجاز) ومرحلة المونتاج، وتتفرع عليها مراحل جزئية مهمة في الإنتاج السينمائي برمته. وتستطيع الصورة أن تلف هذه العناصر جميعها، كما تحضر الصورة بجلاء في المسرح المعروض، فتجعل منه بوابة للبوح المباشر والتواصل الفعال بين المتفرجين والممثلين حتى إننا أصبحنا أمام نوع جديد من المسرح يمكن نعته بمسرح الصورة، حيث نلفي الاستفادة المثمرة لعناصر الصورة البصرية في الإنجاز المسرحي المعروض، ولا يخلو فن العمارة من الاعتماد البصري في تشكيلات الفضاء لونا وإضاءة وجمالا. إن الصورة اليوم أصبحت بفعل هذا الانفتاح الكبير على معطيات الحداثة تكسر الحواجز بين الفنون فما يمكن قوله عن السينما في الاعتماد على الصورة يقاس على فن العمارة والمسرح والإشهار والخطاب التعليمي والدعاية السياسية والفن التشكيلي...إلخ.

ولعل هذا ما جعل حضارتنا اليوم في مواجهه دائمة مع سلبيات الصورة وإيجابياتها، والعاقل منا من استطاع تنمية حسه النقدي أثناء التفاعل مع الصورة، وذلك باكتساب ثقافة بصرية تعد حصنا منيعا، يجنبه سطوتها ويقيه شرها، كما أن هذا الحصن نفسه بإمكانه أن يجعله يطوعها ويهذبها لصالحه، وليس ذلك بعزيز إذا ما اهتدت مدارسنا في وطننا العربي الإسلامي إلى تحسين مناهجها التعليمية في ضوء هذا التطور الحضاري المبني على ثقافة الصورة، وذلك بإدماج الثقافة البصرية ضمن مقرراتها ونظمها، استنادا إلى تكوينات وتدريبات مستمرة في الموضوع، تجعل المدرسين قادرين على نقل هذه الثقافة البصرية إلى المتعلمين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى