الأربعاء ٧ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم يسري عبد الله

شجرة جافة للصلب بين التجريد وانتقالات السرد

قبل محاولة الولوج في جوهر المجموعة القصصية (شجرة جافة للصلب) للقاص الواعد (هاني عبدالمريد)، ينبغي بداية الوقوف أمام هذا العنوان المخاتل، لا باعتباره عتبة مهمة من عتبات تأويل النص القصصي فحسب، بل كذلك لما يتسم به من مراوغة يشير عبرها القاص الي حادثة نصية داخل احدي قصص المجموعة، حيث تصبح (الشجرة الجافة) أداة الصلب التي يستخدمها (بوكا) مع المختلفين معه: "سيبكي ، ويتوسل .. ويدرك أنه ميت لا محالة .. يطالب بأى عقوبة، سوى رمي العنق .يرفض الرامي ،ويأخذه إلى شجرة جافة ، ملطخة بالدماء . يشد وثاقه إليها، يستسلم ، ويطلب فقط رمي العنق من الخلف ، كي لا يرى الموت عندما يخترقه " فالشجرة هنا تتجاوز اذن دلالتها المباشرة، لتصير علامة¬ وفق التحليل السيميولوجي¬ دالة علي القهر والقمع. ومن الملاحظات المهمة في نصوص (هاني عبدالمريد) انه يستخدم في عناوينها أبنية لغوية ذات طبيعة خاصة، فمجموعته السابقة حملت عنوان (اغماءة داخل تابوت)، والمجموعة التي بين ايدينا الأن (شجرة جافة للصلب)، وروايته التي كتبها حملت عنوان (عمود رخامي في منتصف الحلبة)، وما بين هذه العناوين التي يطرح عبرها (هاني عبدالمريد) عالمه الابداعي يوجد تماثل كبير علي مستوي البنية اللغوية حيث تبدأ جميعها باسم نكرة، يصبح خبرا لمبتدأ محذوف، والبدء بالنكرة يراد من ورائه التعميم (وفقا لمواضعات البلاغة الكلاسيكية القديمة)، وهذا التعميم يقترب الي حد ما من تجريد الأشياء، لتتجاوز دلالاتها اللغوية المحدودة، محلقة في فضاء الدلالة، طارحة تمايزا من نوع خاص.

يصدر القاص مجموعته بمقطع للشاعر الكبير محمد الماغوط:

كنت أود أن أكتب شيئا
عن الاستعمار والتسكع
عن بلادي التي تسير كالريح نحو
الوراء
ومن عيونها الزرق
تتساقط الذكريات والثياب المهلهلة

وهذا المقطع يعد في ظني جزءا من بنية النص السردي، حيث يعبر عن فضاء نصي يقارب الفضاء القصصي المطروح داخل النص، والمتماهي مع فكرة اطراح المقولات الكبري جانبا، وهو الاطراح المخاتل في ظني، حيث إنها تملك حضورها الفاعل عبر عناصر ذاتية وهامشية داخل النص.

في قصته الأولي داخل المجموعة (شراسة لاتسيء للبعض) يمارس الكاتب ما يسمي باللعب مع الأسطورة، حيث يطرح (أسطورة التكوين) لا عبر رؤية سابقة التجهيز، ولكن من خلال ممارسة رؤيوية وتقنية دالة، يدين من خلالها السلطة الأبوية والممثلة في (بوكا) القاهر لشعبه، والملقب بالعارف الأول، ورأس الحكمة، وهذا الاستئثار المعرفي والسلطوي يجعله يمارس نسقا استبداديا يحول دون افلات الشخوص من اسر المواضعات السائدة، ولذا فان محاولة (المروق) الوحيدة التي تمارس في القصة الأخيرة من المجموعة (تبدو خطئية) تقابل بصلب صاحبها عبر شجرة جافة، وكأن بناء دائريا¬ علي مستوي التقنية¬ يهيمن علي المجموعة؟ وفي الآن نفسه فان هناك علي مستوي الرؤية¬ حالة من الدوران حول حلقة مفرغة تفضي دوما الي انكسار المغامرة الانسانية في محاولتها لمجاوزة الأطر السائدة.

وفي قصته (لكني قلت مباشرة) تصبح الجملة الاعتراضية هي القصة ذاتها، وبذا فان الهامش (الجملة الاعتراضية) يتحول الي متن القصة الرئيسي، والدال علي تلك البنية الحكائية التي يتكيء عليها النص القصصي، وما بين جدل الهامش والمتن يطرح القاص رؤيته الابداعية المشكلة لخطاب قصصي يتسم بقدر كبير من الرغبة في البوح، ومطارحة الأفكار داخل النص، حتي لو اتسمت القصة بوجود صوت واحد فحسب (هو صوت الراوي)، بيد انه يأخذ في تقليب الأفكار علي نحو بالغ الدهشة.

وفي قصته (محاولة¬ في الغالب¬ فاشلة) يطرح الكاتب خمس حالات انسانية معبرة عن هذا الانكسار وذلك التمزق الذي يصيب السارد/ البطل، وعلي الرغم من تعدد المحاولات الفاشلة للسارد/ البطل، بيد أن القاص يجعلها محاولة واحدة كما يبرز عنوان القصة، وذلك لكونها تعبر عن نسق إنساني واحد/ مأزوم في الغالب.

وفي (كادر يتسع قليلا) يصبح الانتقال السردي الذي يحدث في نهاية النص، كاشفا عن القاتل الحقيقي والمسئول عن تغييب وعي المجموع، فالوفود النازلة من الطائرات هم القتلة الحقيقيون، والكادر يتسع هنا بالفعل لا ليشمل مجرد حكاية بسيطة عن فيلم بوليسي يطرح واقعا افتراضيا، يتم فيه البحث عن القاتل، بل يصبح هذا الكادر معبرا عن واقع معيش يتم فيه تدجين المجموع، وتبدأ اصابع الاتهام في التحول الي ادانة المؤسسة، مما يمنح النص بعدا أكثر عمقا.

وفي (انحناءة السيد الجديد)، يتبادل الممثلان الوحيدان علي خشبة المسرح دورا السيد والخادم، في اشارة دالة الي فكرة الترابتية المهترئة، وعلي الرغم من الرغبة العارمة التي يبديها كلاهما في البداية، بيد أنهما لايستطيعان التواؤم مع هذه الوضعية الجديدة المربكة للطرفين وبذا تبوء محاولة الخروج علي السائد بالفشل مرة جديد، ويتماس عبدالمريد هنا مع ثنائية ادريس الشهيرة (السيد والفرفور) في مسرحيته المهمة (الفرافير)، مع اختلاف السياقات والمسارات بالطبع: وفي قصة (طفح جلدي) يحدث انتقال سردي بالغ العمق، فمن الحكي عن شيخ الحارة الذي يكنز الأموال، وعن ابنه الذي اشتري كل ما طالت يداه ’من توفير مصروفه’، الي اقدام السارد علي الحكي عن نفسه بجسارة، وكأن القيد الذي كان يلجم لسانه قد زال، حيث لم يعد مسوغ للمداراة، بعد ان رأي هذا الاجتراء العفن الذي يمتاز به شيخ الحارة وابنه: وقد تبع هذا الانتقال السردي الدال انتقالا علي مستوي التقنية القصصية، بدءا من حدوث تداخلات في زمن القص تتراوح بين الماضي والآني، ووصولا للغة القصصية التي صارت اكثر حميمية وبوحا في نهاية القصة :" الآن من الممكن أن أعود لأحكي عن طفولتي .. حينما كنت أسير خلف بنات المدارس لأفعل بهن أشياء وقحة. .أحكي عن عجرف كلبي الصغير الذي اغتصب طبق لحم كامل من عند جارتنا السمجة- بخلاف صاحبة النهد- فأعطى لأمي الحق في نفيه و حشو فمي بالشطة. و قد أعود أيضاً إلى الحديث عن نهد جارتنا، عيون حبيبتي، أبي، صحبة ليل القاهرة".

لقد بلغ القاص في مجموعته حدا من التجريد، صنعه بمهارة، لذا فلم يكن معنيا مثلا برسم شخوصه رسمنا دقيقا، يتم فيه التركيز علي قوي الشخصية الثلاث (البيولوجية والسيكولوجية والسسيولوجية)، حيث انهم (الشخوص) يستخدمون لترميزات اكثر مغزي وعمقا.

وعن لغة المجموعة القصصية، فهي تبدو¬ في ظني¬ شديدة الايجاز والتكثيف، حاملة قدرا من الاكتناز، وقد اسهم هذا التكثيف اللغوي في صنع حدث قصصي لايحمل اي ترهل في البناء الفني، وهو ما يمنح هذه المجموعة القصصية¬ صغيرة الحجم، عميقة المغزي¬ خصوصية مائزة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى