الأحد ٣٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨

صبحـي فحمـاوي في روايـة (عـذبـة)

بقلم: د. حسين جمعة

"من التأني يأتي التأتي" وفي التأني سر الإبداع، ومفتاح النجاح. كنت حاولت قراءة سردية صبحي فحماوي "عذبة" في طبعتها الأولى، إلا أن همتي توقفت في منتصف الدرب، وكأن شيئاً أوعز لي وصدّني عن المحاولة ومتابعة المسير. ولكن "عذبة" في طبعتها الجديدة بدت لي أميز تعبيراً وأكثر مصداقية من سابقتها، وأقرب إلى روح الأثر الفني الناجح... ففيها ينهض صبحي فحماوي بمهمة توثيق حياة التشرد الفلسطيني، وسنوات شتاته بدقة متناهية ترقى إلى مستوى التسجيل الفوتوغرافي الرصين لكل صغيرة وكبيرة اجتازها الإنسان الفلسطيني في رحلته المتواصلة في سبيل الإبقاء على كينونته كإنسان.

بعد ابتلاءٍ امتد أكثر من خمسة وأربعين عاماً، وتوق قائل ودائم للعودة إلى فلسطين، وبعد استيعاب دروس المنافي والاغتراب ومكابداتها، يحزم عماد المنذر أمره، ويركب رأسه ويعاند أقرب الناس إليه، لرؤية وطنه واستعادة أمله الضائع، الذي سلخ عمره قلقاً وانتظاراً لتحقيقه، بعد أن لاحت الفرصة المناسبة لذلك.
يقف المؤلف خلف عماد المنذر ويظلله بعباءته، لكنه يترك له حرية سرد حكايته... أي حكاية الشعب الفلسطيني، بالوسيلة التي يراها مناسبة وتتفق وأهم مدركاته وتجاربه، والتي تجلي عذاباته ومأساة شعبه.

وعماد المنذر بدوره يُخضع قص الأحداث للمونولوج الداخلي، ليضع أمام القارئ مصيره وما تعرض له هو والآخرون من بني شعبه من مآسي ومظالم من شتى الجهات، ويروي الملابسات التي رافقت ذلك، وأين ومتى وكيف جرى كل ما جرى له ولشعبه، لنستبين من ذلك تكوين عقليته وأحاسيسه، وأيضاً شخصيته التي تتبدى في أقوالها وأفعالها وما يمور في وجدانها، وفي كيفية بثها للأحداث ووصفها للوقائع.

في طريق العودة تتدفق الهواجس المقلقة والذكريات الحزينة الكابية بجيشان داخلي عميق تختلط فيها أحلام اليقظة بأحلام المنام، وتتوارد الخواطر متأججة ومتداخلة لتضفي على مناجاة السارد نوعاً من الحوار الداخلي، الموجه إلى حبيبته "عذبة"

"عذبة" قطعة من كيان عماد المنذر، وجزء من إنسانيته ووطنيته وضميره الحي الذي تحدى وحشية الصهاينة وانتصر عليها.. فهي تستحق أن يضحي من أجلها، وأن يبذل روحه في سبيلها لأنها وفلسطين صنوان لا يفترقان، وهي الوحيدة التي يمكن أن يبث لها أحزانه واحتراقاته الداخلية ومعاناته اليومية.

يستوحي عماد المنذر ذكرياته واستلهاماته من تجاربه الشخصية ومن أحاديث والده وروايات أمه ومن مشاهداته وتعالقاته بالمحيطين به وبالوسط الذي يعيش فيه، مما أتاح له إبراز سلوكيات أعداد كبيرة من الأفراد المتفاوتين في الوعي والإدراك، وانجلت التعالقات المعنوية/ الانفعالية في أقوال وأفعال الراوية والشخوص المتكاثرة في النص، مما ولّد العديد من الأصوات، التي تناسلت بحدة، وأخذت تتناغم وتتوحد في الكلام لإشادة هيكل المعمار الفني.. حيث جاء إيراد كل شخصية لغرض محدد، وليضع مدماكاً في نسيج حكاية الشعب الفلسطيني، ليبدو البنيان بكامل مصداقيته.

تتداعى في ذهن عماد المنذر وفي مخيلته أصناف عديدة من البشر، ومن الوقائع ذات الأثر لتمثل أمامنا لوحة بانورامية موسعة لحياة الإنسان الفلسطيني قبل تشرده، ولابتلائه بعد تشتت شمله في الآفاق القريبة والبعيدة، لنكتشف أن عودته إلى أرض وطنه أضحت شبه مستحيلة في ظل الملابسات التي تحيط به والمعوِّقات التي تلتف حول عنقه؛ فلقد سها عما يحاك له وهو في وطنه، ووضعت الحواجز أمامه وهو خارجه، وما من حيلة له أمام ما ينسج له ولمصيره. فالإنجليز بعد احتلالهم لفلسطين عاملوا العرب بقسوة بالغة، وحجبوا عنهم معرفة حقيقة المؤامرة الماثلة أمامهم، والعرب بعد النكبة حَمَوْا حدود الدولة التي لا حدود لها بوسائل أشد قسوة مما كان يفعله اليهود، وهذا ما حدث مع الفتى سامي الشوباشي الذي قفز إلى الجانب الآخر عبر الأسلاك الشائكة ليلتقي مع خالته، فأعاده الأمن الإسرائيلي بهدوء إلى الجهة الأخرى لينال من اللطم والتعذيب ما يفوق التصور، ويتهم بالتخابر مع اليهود، وهذا ما كان قد وقع لعثمان الحليم، الذي سعى إلى اجتياز الحدود لإحضار بعض المخلفات التي تركها في بيته القديم أو بقيت في بيوت الآخرين، ليوضع في السجن ويتعرض لأشد صنوف التعذيب، وما كان يتعرض له اللاجئ الفلسطيني على يد أبي شيرين وغيره يدعو إلى القهر.

ونتيجة لتواصل القمع والاضطهاد تحول الفلسطيني إلى إنسان غُلْف، لا يهمه سوى المحافظة على البقاء، فانبرى يسعى إلى الحصول على ما يقيه من الجوع والعطش، فاستحدث شتى المهن الوضيعة من بيع الحطب وصناعة الأشياء البسيطة إلى الهروب إلى بلاد نفطستان. وهذا ما جرى للراوية نفسه الذي تعلم في مصر وشد الرحال إلى صحرائستان ليصبح معلماً هناك، ولشقيقه عنان المنذر، الذي ارتقى في سلم الجندية في بحرستان إلى مرتبة عالية، وكذلك ناجي السبع الذي أثرى لكنه فقد كل شيء فيما بعد.. وهذا الفقد المادي والمعنوي لاحق معظم الشخوص واستبد بحياتهم، لأن المكان الطبيعي لهم هو بلادهم فلسطين، ومصيرهم متعلق بمصيرها، وحياتهم بعيداً عنها تبقى بلا معنى أو مضمون يذكر ولهذا السبب شد عماد المنذر رحاله إلى وطنه فلسطين محتملاً تهكم وسخرية كل من حوله، باعتبار هذا المسلك ضرب من التطبيع مع العدو الصهيوني، لكنه أهون الشرور.

صبحي فحماوي لا يتفلسف ولا يغلف حكايا شخوصه بالرموز والأحاجي الممتنعة عن الفهم والإدراك، وكل ما يشغله صراع شخوصه مع ظروف عيشهم ومستجدات حياتهم، وهو لا يتوانى عن فضح ما يحيق بهم وبملابسات حياتهم من نكد وسوء طالع وقمع لتطلعاتهم، وما يربط بينهم من تعالقات زمنية وسببية تتضافر فيما بينها لاجتراح الشخصية الفلسطينية الموسومة بطابع سيكولوجي محدد. وتلعب المناجاة الداخلية دوراً تصعيدياً في بناء منظومة الأفكار والأحاسيس التي تجتاح البطل، وهو متجه نحو هدفه السامي، الذي ما انفك يبحث عنه، ونحو هاجسه الذي لم يتخلّ يوماً عن التشبث به.

يدلل هذا العمل على أن صبحي فحماوي يتجاوز ذاته من عمل لآخر، وأنه يمتلك طاقة فنية ومعلومات واسعة وإطلاع فسيح على الثقافات العالمية والعربية تمكنه وبشيء من التأني والمثابرة أن يصنع لنفسه مكانة في عالم الإبداع الفني.

بقلم: د. حسين جمعة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى