الجمعة ١٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم محمود فهمي عامر

صورة البطل

في روايتي: (اللص والكلاب) لنجيب محفوظ و (في بيتنا رجل) لإحسان عبد القدوس

تميّز إبراهيم حمدي بطل رواية (في بيتنا رجل) لإحسان عبد القدوس بفن التعامل مع الناس، حيث كان ذكيًا بمحيطه، يستطيع التأقلم مع كل الظروف المستجدة على الساحة السياسة والاجتماعية، ويحرص على أن لا يظهر مشاعره الداخلية أو همومه السياسية على تقاسيمه الإنسانية، وقد وصف الكاتب تعبير وجهه حين قال: (لا يتغير، تعبير مرح هادئ يجذبك إليه، ويسلب منك قلبك وعقلك؛ فتحبه، وتثق به، دون أن يخطر ببالك أن صاحب هذا الوجه يمكن أن يكون بطلا ص4)، وهو على النقيض من سعيد مهران بطل رواية (اللص والكلاب) لنجيب محفوظ، الذي قبض على ضفيرة نور قائلا بغضب: (ألا تعرفين من يكون سعيد مهران ص97).

وكان إبراهيم حمدي يخطط لكل مهمة قبل القيام بها، ولو استغرق ذلك مدة طويلة، فإذا وجد ما يشير إلى فشل مهمته عدل عنها أو غير خطته بما يتناسب مع إمكانية نجاحها، ويبدو ذلك في قول الراوي: (وبدأ يدرس خططه... عرف جميع الطرق المتطرفة التي تؤدي إلى معسكرات الإنجليز، وعرف موعد عودة الجنود إلى ثكناتهم... وعرف الأسلحة التي يحملونها... عرف كل شيء، وتجمعت لديه كل المعلومات التي يحتاج إليها... ومرت أسابيع طويلة قبل أن يحدد اليوم والساعة... كان يحسب حساب كل شيء بدقة وحرص... كأنه يخدع الموت... وكان يترك فترة طويلة من الزمن بين كل عملية وأخرى... وتمت كلها بنجاح ص11/12)، أما سعيد مهران في رواية (اللص والكلاب) فقد بدت على ملامحه بعد لقائه الأول برؤوف علوان حالة الاستهجان لما وصل إليه من مكانة اجتماعية أو طبقية كان يحاربها ويدعو إلى سرقتها لتحقيق العدالة الاجتماعية، بل وعبر عن ذلك خلال تفقده للأشياء الموجودة في منزل رؤوف علوان، وناقشه في مستجدات حياته الثرية وأموره الشخصية، وخرج من عنده ليعود إلى سرقته في نفس اللية، وليجد رؤوف علوان بانتظاره: (من الغباء أن تجرب ألاعيبك معي أنا، أنا فاهمك وحافظك عن ظهر قلب ص40... نسيت الإحسان وتركزت في الحقد والحسد... اندفعت كالجنون نفسه كما هي عادتك ص43)، واعترف سعيد مهران بقلة حيلته حين قال: (لا آلة معك، ولا بطارية، ولا فكرة سابقة عن المكان ص39)، وهذه الحادثة لم تعطه درسا بضرورة التخطيط ودراسة الأحداث أو مراجعة حساباته قبل الشروع في جرائمه؛ لأنه كان يثق بذكائه وخفة حركته وسرعة بديهته، وهذه النرجسية جعلته يطلب عند أول لقاء بنور في قهوة طرزان سيارة الرجل الغني: (كوني طبيعية جدا، لن يحدث شيء مما تخافين، ولن تتجه إليك الظنون، لست طفلا ص51)، وهو الشعور الذي أملى عليه: (وستفوز بالهرب سالما، كما فزت عشرات المرات... وكما تتسلق العمارة في ثواني... وكما تطير إذا شئت ص60)، وهو ذاته الذي جعله يتعجب من خيانة عليش سدرة ونبوية (وأعجب شيء أني خدعت به، وأنا الذكي الذي يخافه الجن الأحمر، كنت البطل... وآمنت بأنني لو أرسلته مع نبوية إلى الصحراء التي تاه فيها سيدنا موسى لظل يراني قائما بينه وبين نبوية... وهي كيف تميل إلى الكلب وتعرض عن الأسد ص82) ؛ ولهذا لم تنجح كل محاولاته في القضاء على الكلاب.

ومما يسجل للبطل في رواية إحسان عبد القدوس، وكان سببا في احترام الآخرين، ذلك الإحساس بالمسؤولية، مسؤولية استعمال القوة (إنه لا يستطيع أن يقتل من يشاء؛ لأنه ليس قاتلا، ولا يريد أن يكون قاتلا ص6)، وكان يحمل المسدس ويخشى (أن ينطلق من نفسه في أي وجه عابر يمرّ به ص6)، وكان يتدرّب على استعمال السلاح في الصحراء حتى أصبح ماهرًا في إصابة الهدف، وكان إذا أخطأ أثناء التدريب (ينظر إلى المسدس في لوم وعتاب ويقول له: كده برضه يا عزيزة! ثم يبتسم وكأن المسدس يرد عليه: معلش الدور ده يا إبراهيم... وحمل مسؤولية المسدس بأمانة ص7)، وهذه المسؤولية منعته من قتل الأبرياء عندما (كان يعدو بعد عملية الاغتيال... وسمع من يهتف حرامي... حرامي، والناس تتكاثر وراءه... لماذا لا يطلق مسدسه عليهم... لو سقط منهم قتيل واحد لفر الباقون... ولكنه لا يستطيع... إنه ليس قاتلا... إن هؤلاء الناس أبرياء... ليسوا خونة... ولن يقتل منهم واحدًا حتى لو قتلوه ص14)، وهذه المسؤولية هي التي جعلته يتساءل (ولكن كيف يتأكد من أن هذا أو ذاك عميل للإنجليز، خائن لمصر! هناك رجل أجمع الناس كلهم على خيانته، وهو نفسه يتباهى بأنه عميل... وعقاب الخيانة القتل، لقد حكم الناس بخيانته... ووضعت الخطة... خطة اغتيال عبد الرحيم باشا شكري ص14)، وهي ذاتها التي كانت سبب موته في آخر الرواية عندما استطاع الهرب خارج أسوار المعسكر، ورفض كعادته أن يطلق النار على الضابط المصري الذي أطلق النار عليه فـ (سقط إبراهيم على الأرض، وابتسم، وأغمض عينيه، كأنه نام ص253).

هذا هو البطل إبراهيم حمدي الذي لم يتذكر السلاح، ولم يثر دمه الحار إلا بعد أن سال الدم المصري على يد الجنود الإنجليز فقد (لمح واحدًا منهم يخرج مطواة، ويشهرها في الهواء، ثم يغمدها في جبهة أحد الباعة... ولو كانت عزيزة معه لقتلهم جميعا... الكلاب ص9)، وهناك فرق كبير بين كلابه وكلاب سعيد مهران، بين من يقتل الإنجليز وعملائهم، وبين من يشهر سلاحه ليقتل مواطنا بريئا دون أن يتأكد من الشخصية المطلوبة، وهو كما وصف نفسه (وشهد هذا الخلاء مهارتك... قالوا إنك الموت نفسه، وإن طلقتك لا تخيب ص48) إلا أن جميع رصاصاته لم تصب الهدف المقصود، بل زرعها في قلوب الأبرياء، وهو بلا قلب كما قالت نور، ردا على قوله (حجزوه في السجن كما تقضي التعليمات ص57).

إنّ سعيد مهران عندما قتل الرجل الأول الذي ظن أنه عليش سدره، لم يندم حقيقة على ما قام به، ولم يعد إلى ربه مستغفرا تائبا، بل تواصل مع سبل الشيطان في جريمة ثانية، وخطأ آخر، وتكرار الخطأ إصرار عليه، وهو بذلك يقتل الناس جميعا دون أدنى إحساس بالمسؤولية أو بالكبيرة التي تدل على عظم حرمة دم المسلم، وتحريم قتله لأي سبب من الأسباب إلا ما دلت عليه النصوص الشرعية، إضافة إلى أنه كان يدخل الرعب في قلوب الناس، ويسرق أموالهم كما فعل مع (بياظة) الذي انتظره ليلا في طريق الجبل ليستفسر منه بالقوة عن مكان عليش سدرة (لا تتحرك ستقتل عند أول حركة ص105)، وكما فعل أيضا مع صاحب السيارة عندما (لوح بالمسدس قائلا بوحشية: سأطلق النار لأدنى حركة ص52)، ولا يجوز لإنسان أن يدخل الرعب في قلوب الناس ولو كان مازحا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يُروِّع مسلماً).

وأدت المرأة دورا حساسا أثناء وجودها في الروايتين، وبدت عنصرا مؤثرا في سلوك البطلين وتطوير شخصيتهما الروائية، فقد كانت عند إبراهيم حمدي بطل (في بيتنا رجل) من مواطن ضعفه التي يشعر بها، ولم يدرك في بداية حياته قيمتها أو أهميتها، وخصوصا في أعماله الثورية، هذا الشعور الفطري قاده، وهو طالب في المرحلة الثانوية إلى تسمية أول مسدس يقع عليه نظره باسم عزيزة (الذي كان يحمل حبه في صمت كالعاشق الشريف ص7)، وهذا الاعتراف غير المباشر بالمرأة دليل على سمو وجودها في تكونيه الإنساني، وإن غابت عن حياته الأولى في فترات ركودها النفسي؛ لسيطرة الهم السياسي و(عواطفه الوطنية ص7)على قلبه وتفكيره، تلك العواطف الجادة جعلته (جادا أكبر من عمره... ولا يتقرب إلى الطالبات، ولا يلاحقهن كبقية زملائه ص7/8)، وهذا لا يعني كرها لهن في تلك الفترة الزمنية من نضاله، (ولكن ليس لهن أثر في حياته... كانت دنياه خالية دائما منهن... لم يكن له أخت... ولم يكن يعتبر أمه كبقية النساء ص8)، وعندما كان يحاول التفكير في مشاركة إحداهن في العمل السياسي يتراجع قائلا: (لا إنها بنت... وهو لايؤمن بالبنات... أو يشفق عليهن من أن يتحملن مسؤوليات الرجال ص44)، وهذه الهموم السياسية والعواطف الوطنية التي حجبت عنه المرأة جعلته يتجاهل أمرها في خطة هربه: (وقد حسب حساب كل شيء في خطته إلا البنات... لقد عاش طول حياته وهو لا يحسب حساب البنات ص20)، وجعلته يقول مرتبكا حين شاهد نوال: (لماذا يلد الناس بنات! ص21)، وعندما قدّم والد محيي سامية ونوال إليه: (أحس بحرج شديد، بلغ حد الضيق... ليست بنتا واحدة إنهما بنتان... وهو لم يدخل في حسابه البنات... كيف يعيش في بيت فيه بنات ص32)، وكان يشعر (أنه مقيد في هذا البيت أكثر مما كان في السجن... لقد كان حرا في السجن... كان كل من في السجن رجالا... أما هنا فحوله قضبان من البنات... وقضبان في نفسه من الحياء ص41)، و (لكنه سرعان ما عاد إلى فطرته، وأقر بخطئه وضعفه عندما تعرف أكثر على نوال، الأخت الصغرى، التي وجدها تعبر عن أفكاره ص33، وهي كما قال: (فتاة ذكية جريئة يمكنه أن يعتمد عليها ص44)، بل أصبح يشعر بالراحة عندما يسمع صوتها، أو كلما أحس بقربها و(كأنها صديقته الوحيدة في هذه الدنيا... أو كأنه قرّر أن يضمها إلى أصدقائه السبعة الذين كانوا يشتركون معه في عمليات الاغتيال ص42)، وكان كلما (قلب في ذهنه عشرات الخطط التي يضعها لنفسه، وجد في كل منها مكانا لنوال ص44)، وتجلى اعترافه بالمرأة ودورها في الحياة بشتى ألوانها عندما: (بدأ يتابع نوال في نظرات مختلسة ص50)؛ فوجدها تستحق أن تكون رمزا للحرية ص50، والحياة بوجودها لها قيمة ومعنى ص50، وهذا الأمر يقودنا إلى تشبيه حالته مع المرأة كيف كانت؟ وكيف أصبحت؟ بتلك الحالة المبكرة من الرواية التي عبر خلالها عن علاقته بالمسدس أثناء أول تعامل معه: (ارتعشت يده... وجمد إصبعه فوق الزناد... سيسمع دويا هائلا يصم أذنيه... شيء هائل سيحدث لو ضغط على الزناد... وخاف... واحتاج إلى كل إرادته ليتغلب على الخوف... ثم أغمض عينيه وضغط على جفنيه بشدة... واستطاع أخيرا أن يحرك إصبعه ويضغط على الزناد... ولم يحدث شيء... وفتح عينيه وهو لا يصدق نفسه... وابتسم ابتسامة واسعة كأنه اكتشف عالما جديدا ص6).

أما سعيد مهران في رواية (اللص والكلاب) فكان ينظر إلى المرأة من زاوية أخري وحالته مع المرأة على نقيض إبراهيم حمدي، حيث بدأ محبا ومطاردا لها ثم أمسى بعد أن اكتشف خيانة زوجته نبوية كارها للنساء ولا يثق بهن، بل كان يتخيل النساء في صورة نبوية الخائنة، وكلما رأى واحدة منهن لعن في سره نبوية وعليش ص28، حتى تلك المرأة (نور) التي خاطرت بنفسها من أجله، وشاركته همومه، وأحبته دون مقابل، لم تسلم هي أيضا من هذه النظرة السلبية للمرأة عندما كان يقارنها مع نبوية بعد كل لقاء يخلو فيه مع نفسه، وما كانت في حياته إلا فتاة الليل التي تخدم مصالحه الشخصية، متجاهلا مصيرها في مخططاته الإجرامية، مستغلا حبها، ساخرا من مشاعرها، وما اعترف بها في نهاية الرواية إلا لأنها الأمل الأخير في النجاة أو الخلاص من حالة مؤقتة، وهذه النظرة السلبية للمرأة قادته أيضا إلى التفريط بابنته سناء ثأرا لكرامته ورجولته، وتنفيذا لجرائمه، وصرح بذلك عندما قال: (هل أترك أمك الخائنة إكراما لك؟ ص59).

وهذا الوجود الحريري للمرأة في كلا الروايتين دفع البطلين إلى التعاون معها في مهمة واحدة اتفقا عليها من جهة، وعلى أنها الوحيدة القادرة على إتمام المهمة بنجاح من جهة ثانية، هذه المهمة التي تمثلت ببدلة الضابط التي أرادها كل واحد منهما لإنجاز مهمته، ويبدو هنا أن المطارَد يتمنى أن يكون مطارِدا، وهذه البدلة هي التي ستحقق له هذه الغاية الغريزية، وتعزز حريته المرجوة، واحترام الآخرين، وتعويض الشعور بالنقص، هذه البدلة التي ظن البطلان أنهما يستحقانها أكثر من رجال الشرطة، لأنهما يقومان بعمل شريف عجزت عنه الجهات المعنية، والبدلة تستحق رجلا يقدرها بتطهير البلد من الخونة والكلاب.

والجدير بالذكر أن إحسان عبد القدوس خلال روايته (في بيتنا رجل) قدم بطلا متفائلا و (لم يقلل من تفاؤله ما أذاعته الحكومة من تهديد وإغراء للقبض عليه... إن الناس ينقسمون إلى أفاضل وأشرار... ولن يغير التهديد والإغراء من الناس ص39)، هذا البطل الذي جسد البطولة بالمعنى المتعارف عليه حينذاك: الكفاح ضد الاحتلال من أجل تحرير الوطن، قدّم بطولة للصالح العام وللأمة، مضحيا بالأنا الشخصية طمعا بكرامة الإنسانية وحمايتها من الذل والهوان، بينما قدّم نجيب محفوظ بطله في (اللص والكلاب) على أنه ضحية للظروف الاجتماعية،

والآلة الإعلامية، وطالب القراء بالتعاطف معه على الرغم من سذاجته، وطيشه، وقلة حيلته، وشكه، وسخريته، وجرائمه؛ حتى أمسى في نهاية الرواية وحيدًا، وشتان ما بين قتيل طاردته الحكومة على أنه سفاح قاتل، وعاش خفاشا كما وصف نفسه خلال الرواية، وبين قتيل وطني أسس فكرا جديدا للمقاومة والتحدي استيقظت عليه مصر كلها: (إنه يستطيع أن يعوض كل الناس باستشهاده في سبيل الثورة، إنه يحس، وهو مقدم على خطته الجديدة، أنه يدفع الثمن للناس كلهم... إنه يضحي بحياته من أجل الناس كلهم... ما عدا نوال... ص241).

في روايتي: (اللص والكلاب) لنجيب محفوظ و (في بيتنا رجل) لإحسان عبد القدوس

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى