السبت ٣١ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم عادل الأسطة

علي الخليلي في تداعياته ومكابداته

لو لم يكتب علي الخليلي تحت عنوان كتابه الرئيس: "قصص على مدار قرن، تداعيات التراجيديا، مكابدات السرد" لو لم يكتب عنوانا فرعيا هو: مقالات ورؤى نقدية" لربما ظن المرء أن عليا يقص قصصا ألمت بنا منذ قرن، منذ بداية مأساتنا مع وعد بلفور. ثمة تراجيديا هي مأساة الشعب الفلسطيني، يسترجعها، إذا فهمنا من كلمة تداعيات استرجاعات، وثمة مكابدات في سردها، فأن تسرد يعني أن تكد الذاكرة وأن تعملها، ويعني أن تكابد في هذا وأن تجهد نفسك. ولو لم يكتب علي العنوان الفرعي لربما ذهب المرء أيضا مذهبا آخر يتمثل في أن كتابه مختارات قصصية لكتاب فلسطينيين كتبوا القصة في المأساة الفلسطينية منذ مائة عام- أي منذ أول مجموعة قصصية ألفها خليل بيدس، وهي "مسارح الأذهان" (1924).

يُقصي العنوان الفرعي الذي ذيّل علي به العنوان الرئيس الظن الذي يتبادر للوهلة الأولى ويبعده، فلا الكتاب سرد يقوم به علي، هو الذي لم يكتب القصة القصيرة، وأنجز روايتين هما "المفاتيح تدور في الأقفال" و"ضوء في النفق الطويل"، ولا هو مختارات قصصية ينجزها كما أنجز مختارات شعرية. وعلى الرغم مما سبق فإن عليا يقص ويسترجع ويكابد أيضا. يقص حين يعيد قصّ ما قصه غيره، ويسترجع نصوصا قصصية وروائية قد يكون النسيان طواها، ولا يتذكرها إلا المتخصصون، ويكابد حين يقرأ ويكتب وينشر ويصغي إلى آراء قد تتفق مع ما ذهب إليه وقد لا تتفق.

وليست هذه هي المرة الأولى التي يكتب فيها علي الشاعر المقالات النقدية. لقد أنجز، في بداية حياته الأدبية، دراسات نشرها في كتب تناول فيها التراث الشعبي من أمثال وحكايات، وعرف من خلالها دارسا للتراث وباحثا فيه، وستؤثر هذه الكتابات والدراسات عليه روائيا وناقدا. فمن قرأ روايته الأولى "المفاتيح تدور في الأقفال" (1981) لاحظ حضور المثل الشعبي فيها حضورا لافتا طاغيا ما كان ليكون على تلك الشاكلة لو لم ينجز علي كتابه "التراث الفلسطيني والطبقات". ومن تابع بعض كتبه النقدية لاحظ أنه حين درس الرواية درس التراث فيها، ومن هنا اختار لأحد دراساته عنوانا هو "الورثة الرواة".

وقفة أمام المقدمة:

يكتب علي لكتابه مقدمة عنوانها "متعة إعادة السرد". والعنوان يعيدنا ثانية إلى ما ذهبنا إليه آنفا: إنه لا يسرد شخصيا بل يعيد سرد قصص كتبها غيره على مدار مائة عام- من خليل بيدس حتى مشهور البطران. ويرى في ذلك متعة. وكلمة متعة مهمة ودالة، ذلك أنها تقول لنا إن مقالاته ليست مقالات نقدية متخصصة تخلو من عنصر المتعة، وليست مقالات أكاديمية تمتاز بالصرامة والجدية. السرد متعة، وإعادة السرد أيضا متعة. وربما تذكرنا ما كتبه خليل بيدس في المقدمة التي كتبها لمجموعته "مسارح الأذهان" (1924) عن فن الرواية، وبم يجب أن يمتاز الروائي وما هي السمات التي يفترض أن تتوفر فيه. "الروائي يكتب للعامة، ويكتب أيضا من أجل التسلية..". وما دام علي يكتب لقاريء الصحيفة، وهذا ليس متخصصا في الأدب غالبا، فإنه لا يتنازل عن شرط المتعة.

سأقف أمام فقرتين مهمتين في المقدمة. يقول علي: "لست ناقدا، ولكنني استمتع بقراءة الروايات والقصص، إلى حد الرغبة الملحة في إعادة سرد ما أقرأه منها، هل تكون هذه الإعادة شكلا من أشكال النقد الأدبي، لست أدري. ولا أبحث عن دراية أصلا".

يقر علي بأنه ليس ناقدا، فما يدفعه للكتابة ليس الرغبة في أن يصنف ناقدا، هو الذي يرغب في أن يكون شاعرا ودارسا للتراث بالدرجة الأولى. إن ما يدفعه للكتابة هو بحثه في الأساس "عن وعي متجدد "متعة متجددة" للحركة الروائية والقصصية، مرحلة إثر أخرى.

ربما تساءلنا هنا عن مفهوم النقد. ربما تساءلنا أيضا إن كان هناك مفهوم واحد نهائي.
سأشير ابتداء إلى نقد يعرف باسم النقد التأثري، وهذا النقد، في أبسط معانيه يتمثل في أنه نقد ينظر في العلاقة بين النص والقارئ، والأثر الذي يتركه الأول في الثاني. وازدهر هذا النقد ما بين 1885 و1914، ولم ينتهِ، فما زال له سحره الخالد، ولم يتخل عنه أكثر النقاد صرامة. هذا النقد، كما يراه بعض أعلامه، انطباعات أمينة دونت بعناية. يقرأ الناقد كتابا ما ويدون ملاحظاته حوله ويسجلها، ولا يلتفت إلى منهج يطبقه، منهج يدرسه ابتداء ثم يختار نصوصا ليدرسها اعتمادا عليه. وهذا ما فعله علي، فلم يدرس فن الرواية، ولم يدرس المنهج النفسي أو الاجتماعي أو البنيوي، ليختار واحدا منها، يتعامل مع النصوص اعتمادا عليه.

وربما لا أجازف إذا قلت إن ما كتبه علي يندرج تحت النقد التأثري، وإن أفاد أحيانا من مقولات ماركسية، ومن الدراسات السيميائية، بخاصة حين كتب عن العناوين. وعلي واحد من كتابنا الذين التفتوا في العام 1992 إلى دراسة شعيب حليفي المنشورة في الكرمل حول النص الموازي، فقرأها وتأثر بها، وكتب مقالات عابرة عن العناوين في القصص والروايات. بل والتفت إلى الأغلفة، ويبدو أن دراسة حليفي، منذنشرها، أخذت تلازم عليا، حتى لو لم يعد إليها ثانية.

الفقرة الثانية التي أود الوقوف أمامها هي:

"ومع أنني أتحدث عن قصص على مدار قرن، إلا أن هذا الحديث لا يعني أدنى شمول تاريخي لكل أو معظم ما صدر من قصص وروايات خلال هذا الامتداد الزمني الطويل. وهيهات لأحد مثل هذا الشمول، وإنما هو الانتقاء بالضرورة، أو بالصدفة، وفق ما وقعت يدي عليه".

هنا يقر علي ويعترف علنا بأنه يختار من النصوص ما وقعت يده عليه، فهو ليس دارساً أكاديميا متفرغا ليدرس النصوص كلها أولا، ثم يختار منها ثانيا معتمدا على أسس معينة يبرزها لنا. وهكذا يقدم اعتذارا أوليا لأولئك الكتاب الذين لم تدرس نصوصهم، فلا أحد بقادر على دراسة كل ما صدر، نظرا لكثرته.

طبعا كان يمكن للمرء أن يتساءل: لماذا تناول علي هذا الكاتب وأغفل ذاك، ولماذا تناول هذا العمل لهذا الكاتب وأغفل عملاً آخر له، ولكن سؤال المرء هذا سرعان ما يستبعد، فالكاتب أوضح منذ البداية أنه كتب عما وقعت عليه يده بين السنوات 1997 و2007.

إن الدارسين العرب والفلسطينيين الذين درسوا القصة الفلسطينية القصيرة والرواية الفلسطينية غالبا ما حددوا الفترة التي درسوها، لأنهم يدركون ما يدركه علي: وهيهات لأحد مثل هذا الشمول. ومن هنا قرأنا دراسات عديدة، نادرا ما تجاوز أصحابها فترة زمنية طويلة تقارب المائة عام، يدرسون فيها القصة القصيرة والرواية.

إغفال الدراسات والقراءات السابقة:

يلاحظ قارئ مقالات علي الخليلي أنها قراءات لا تعتمد على دراسات سابقة أتت على النصوص التي يكتب عنها، والنصوص هذه ليست كلها إصدارات جديدة كان علي أول من كتب عنها. ثمة نصوص أشبعها الدارسون قراءة وتحليلا، وهي التي صدرت قبل العام 1990. حقا إن النظريات النقدية الحديثة، ومنها التفكيكية، لم تغلق القراءة، فقالت إن قراءة النص لا تغلق أبدا، وأن قسما منها، مثل نظرية التلقي، ذهبت إلى أن المنعطفات التاريخية تمنح النصوص معاني جديدة، إذ يمكن أن تؤول تأويلا جديدا لم يلتفت إليه السابقون، إلا أن قراءة الدراسات السابقة، فيما أرى، مهمة، فقد يفيد منها المرء، وقد يلتفت إلى أشياء وتأويلات لا يلتفت إليها القارئ حين يعتمد على قراءته وحده. وهكذا فإن قراءات الخليلي التي قدمها دون أن يفيد ممن سبقه، تحقق معنى التأثرية بالكامل: اللقاء الساذج والمباشر بين النص والقارئ، والأثر الذي يتركه الأول في الثاني.

إن الخليلي هنا لم يكن ناقدا أكاديميا، أو دارسا أكاديميا، فلو كان كذلك لالتفت إلى الدراسات السابقة، وقرأها، وقد يتفق معها، وقد لا يتفق، وقد يؤيدها وقد ينقضها، أو قد يؤيد بعض ما ورد فيها وقد يعارض بعضه الآخر، وربما كان تنازل عن بعض الكتابات.

وربما يكون ما فعله ذا جدوى، فقد يأخذ به الدارسون ممن يذهبون مع ما ذهب إليه أصحاب نظرية التلقي، ويقارنون بين ما توصل إليه، وما توصل إليه السابقون، ليلاحظوا- أي أصحاب نظرية التلقي ومن يسير في فلكها- أن قراءة نص واحد في زمنين مختلفين قد تؤدي إلى قراءتين مختلفتين، وان قراءة قارئين مختلفين لنص واحد قد تؤدي إلى قراءتين مختلفتين، فكيف اذا قريء النص الواحد في أزمنة مختلفة كانت فيها منعطفات كثيرة، وواقعنا يحفل بهذه.

يقرأ علي قصة سميرة عزام " لأنه يحبهم "، وقد قرأها قبله كثيرون، ومنهم الناقد الفلسطيني يوسف اليوسف، ولكن علياً لا يشير إلى تلك الدراسة، وربما لا يكون اطلع عليها. إن كتابته قد تحفل بضرب من التكرار، وقد تكون مختلفة جزئيا، وقد تكون مختلفة كليا، وحين يقرأ ناقد ما كتبه اليوسف والخليلي فقد يقول إن ما كتبه الثاني ضرب من التكرار، إذا تطابقت القراءتان، وقد يرى تطابقا جزئيا، وقد يرى اختلافا كليا، وفي الحالة الأخيرة يقدم خدمة كبيرة لأصحاب نظرية التلقي ومقولاتهم.

انطباعات أولية قبل الولوج إلى النص:

يغلب على ما يكتبه علي الخليلي في مراجعاته للقصص والروايات تدوين الانطباعات الأولية التي يثيرها الكتاب في ذهن قارئة –الخليلي- هنا قبل الولوج إلى عالم النص وتبيان موقف الخليلي منه. وغالبا ما يوضح الخليلي صلته بصاحب النص ومعرفته به وصلته بنصوصه السابقة، وربما اتصل بالمؤلف وسأله بعض أسئلة، وشكره على الإهداء، واستفسر منه عما يقصده بالعنوان وما شابه.

النقد هنا لا يتمحور حول النص، ولا يطمح الى ان يكون نقدا علميا يدرس القصة أو الرواية وفق خصائصها الفنية التي توصل إليها النقاد. إن هذا يغيب تقريبا عن نقد علي الخليلي، وبالكاد يعثر المرء على مصطلحات فنيّ القصة والرواية فيما يقرأ. وسيقرأ المرء عما خلف الأثر في نفس الناقد، وعن الظروف المحيطة بالنص أكثر بكثير مما يقرأ نقدا فنيا.

ربما يتوقف المرء، على سبيل المثال، أمام ما كتبه الخليلي عن مجموعة محمود شقير "صورة شاكيرا ". لملاحظة ما سبق في ص 77 من الكتاب نقرأ ما يلي، وعفوا لطول الاقتباس:

" أهداني زميلي القاص محمود شقير نسخة من مجموعته القصصية الجديدة، الصادرة حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت سنة 2004، تحت عنوان " صورة شكيرا " وقبل أن أقرأ ما كتب من كلمات الإهداء في رأس الصفحة الأولى، وربما قبل أن أشكره أيضا على توفير هذه النسخة لي، من بين ثلاث نسخ فقط، وصلت إليه متسللة مع زميل آخر، من بيروت إلى رام الله، عبر الحصار الإسرائيلي المفروض على فلسطين كلها، سألته بدهشة واستغراب عن هذا العنوان " صورة شاكيرا ؟! ماذا يعني؟ وكيف؟ وهل هي المغنية " شاكيرا مثلا؟ ولماذا؟ وما علاقة قصصه التي يكتبها وينشرها تحت سقف الاحتلال الإسرائيلي بها، وبصورتها؟ ضحك الزميل والصديق القديم محمود شقير الذي ذوّب عمره، منذ أكثر من ثلاثين عاما، بإنتاج عشر مجموعات قصصية، وخمس روايات وعدة مسرحيات...... ".

نقد ضروري:

يلاحظ من يتابع حركتنا النقدية ضعفها في متابعة الإصدارات الحديثة والكتابة عنها، فكثيرة هي الكتب التي تصدر دون ان تنال حظوة الكتابة عنها، وتمر مرور الكرام فلا يحفل بها من خلال خبر موسع ولا من خلال مراجعة نقدية صحفية، فلا الأساتذة الجامعيون، إلا أقلهم، يمارسون النقد، ولا الكتاب أنفسهم، إلا ما ندر، يتابعون كتابات بعضهم. ويكاد علي الخليلي، مع أسماء نقدية أخرى قليلة مثل سامي مسلم، يكادون يقومون بمهمة تحتاج إلى نقاد كثر، وبالتالي فإن ما يقوم به علي ضروري ومهم، لصاحب الكتاب أولا وللقارئ ثانيا، فالأخير قد لا يجد وقتا لقراءة كل ما يصدر، وقد لا يملك مالا لاقتناء الكتب أيضا، وهكذا يتعرف، من خلال النقد الصحفي الذي يمارسه علي، وزملاؤه، على الحركة القصصية والروائية والشعرية أيضا.

نقد لا يخلو من لذة:

في كتاب " تطور النقد الأدبي الحديث " ل (كارلوني وفيللو) صفحات خصصت للنقد التأثري، وإشارة إلى ارتباطه بالصحافة. ويأتي المؤلفان على الفرق بين النقد الصحفي والأكاديمي، ويقران بأن الأخير مهم، إذ قد يعطي العمل الأدبي حقه، وقد تكون دراسة واحدة جادة أفضل من مقالات كثيرة سريعة عابرة تتكون من انطباعات. لكنهما يقران بأن النقد التأثري لا يخلو من لذة ومتعة لا يوفرهما النقد الجاد الصارم. وإذا ما قارن المرء مثلا ما بين نقد كمال أبي ديب في كتابه " جدلية الخفاء والتجلي: دراسات بنيوية في نقد الشعر" ونقد على لاحظ اهتمام الأول بالتفاصيل، وخلو نقده من الإشارة إلى تأثير النص عليه، خلافا للثاني الذي ما من مراجعة نقدية كتبها لهذه المجموعة القصصية أو تلك الرواية إلا تحدث فيها عن انعكاس المؤلف عليه، وربما، استمتع القارئ بهذا وظل يواصل قراءة المقالة، لكن مَنْ مِنْ القراء غير المتخصصين يستطيع متابعة ما كتبه كمال أبو ديب؟ أنا شخصيا أتابع عليا فيما يكتبه حتى اللحظة، وليس لي إلا أن أشكره على ما يقدمه من خدمة لأدبنا، بقراءته والكتابة عنه والتعريف به، وشكرا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى