الخميس ٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم يسري عبد الله

غواية المصالحة في (فتنة اللحظات الأخيرة)

ثمة محاولة إبداعية للقبض على تيمة إنسانية بالغة الثراء تتجلى في سعي (الراوي) في نص (فتنة اللحظات الأخيرة) للإمساك بتلابيب اللحظات الأخيرة لرحيل (الأب) الشخصية المركزية داخل الرواية - سواء على المنحى الرؤيوي أو حتى على المستوى التقني- ، حيث يعتبر هذا الأب مروياً عنه و مروياً له في الآن نفسه...
إننا في (فتنة اللحظات الأخيرة) بإزاء نص روائي يتسم بالاكتناز، يتجلى كدفقة واحدة، يسرد فيها (الراوي/الابن) تلك العلاقة المراوغة القائمة بينه و بين (المروي عنه/الأب)، حيث يمكننا وضع هذا النص بين قوسين كبيرين، تنبئ عنهما القرينة اللفظية الواردة في مفتتح الرواية (أبي أريد أن أتعرف عليك؟) ثم في نهايتها (أبي هل تعرفت عليك)؛ لكن ماﺫا فعل (يوسف فاخوري) بين هذين القوسين الكبيرين اللذين أتحدث عنهما في سياق رؤيتي التأويلية للنص و المتكئة على أساسات من النص ذاته.

يمارس الكاتب هنا لعباً روائياً يستقطر من خلاله فكرة (الأبوة) و يستحلبها، بل و يديرها على أكثر من جانب، في مطارحة بارعة لهذه الفكرة بتجلياتها المتعددة: (الأب/ السلطة، الأب/الدفء،الأب/الناموس).

يضعنا (فاخوري) في مفتتح الرواية أمام (حكاية) يصطنعها بذكاء، عن رجل تحدى (الطوفان) و نجا منه، و بداخله نقطة ضوء، إن هذه الحكاية التي يصطنعها الكاتب في بداية النص تمثل الإطار المرجعي للرواية، إنها تشير إلى أجواء النص بعد ذلك و تتماس معها، حيث يصبح الإلماح إلى ذلك الجانب الأسطوري في الحكاية إرهاصاً بأن (المروي عنه/الأب) سيتسم بسمات تتجاوز تقليدية البشر و عاديتهم، خاصة أن الكاتب قد صنع حالة من التوازي بين رجل الطوفان في الحكاية الواردة في مفتتح الرواية، و صورة (المروي عنه/الأب) الذي يمثل مركز الثقل في الراوية بعد ذلك، فكلاهما (رجل الطوفان، الأب) قد خرج من وسط الأنواء، و ظل يحمل بداخله نقطة ضوء؛ "كان وجهك صهلة فرس احتبست في الأفق. و كان يشبه وجه رجل الطوفان، إن إنطوى على مرارة خيبات لم تقدر على كسرها فاحتبست مغلقة على صديدها انعكست على روحي ظلالاً".

يقوم هذا النص على فكرة الثنائيات المتقابلة (الأب/الابن)، (الموت/الحياة)، بل بدت بارزة أيضاً في ثنائية (الحضور/الغياب) التي وسمت (الأب،المروي عنه و المروي له في آن) و قد أسهمت هذه الثنائيات المتعارضة في الإبانة عن (رؤية العالم) لدى يوسف فاخوري.

و تتعدد التقنيات المستخدمة داخل هذه الرواية مثل استخدام المونولوجات الداخلية التي تتسم بالحيوية لاحتوائها على موتيفات متعددة من جهة، و لاستخدام تقنيات أخرى بداخلها من جهة أخرى، فالكاتب هنا يوظف (السؤال) كتقنية فنية تحمي المتلقي من أسر الوقوع في فخ اللغة و استغراقها له.

هناك أيضاً حالة من حالات التداخل الزمني داخل النص؛ إذ يتسم النص بالمراوحة بين الإخبار بصيغة الواقع و العودة عبر الفلاش باك، كذلك هناك استخدام لتقنية الاستباق، فضلاً عن وجود أزمنة فارقة داخل الرواية (هزيمة 1967) حيث يشير عبرها (الراوي) إلى المناطق المفصلية في حياة (الأب).

ثمة استخدامات لعدد من مفردات الطبيعة (الريح\الأنثى\التمثال) التي تتمتع بحضور خاص، يكاد يكون مشكلاً لهذا الكائن الإنساني (الأب) المتخذ طابعاً أسطورياُ.

و تلعب اللغة في هذا النص دوراً متعاظماً، و هي ليست معبرة عن منحى كلاسي بالغ السموق فحسب، بل إنها تعمل كدوال مشحونة بشحنات عاطفية و فكرية معاً، يهيمن على الرواية أيضاً مد شعري لا يبدو عبر الاستخدامات المجازية المتعددة للغة فحسب، بل كذلك عبر تركيب الجملة، فعند حديثه عن محنة (الأب) بعد هزيمة 1967 يقول الراوي: (مهزوماً ذهبت/ مهزوماً عدت)، فتقديم الحال هنا يضفي هذه الدلالة الشعرية البارزة في الجملة السابقة، هذا فضلاً عن توظيف آليات البلاغة القديمة داخل الرواية: "لإنك مهزوم منذ زمن سحيق. هزمتك جحافل سكنت روحك و زحفت بها من سالف العصر و الأوان- و شائه تاريخك كما هزمت أجدادك. صرت بوتقة للهزيمة، و سقطت نظرة عينك في مرجلك. مازال المماليك ينهبون بؤبؤ عينيك؛.."

و تبقى جملة (فيما بين حبو و كبو ينحصر معنى ما بين قوسين) بمثابة (الجملة المفتاح) داخل الرواية إذ تحيلنا إلى ذلك الزخم الحياتي الذي صبغ حياة (المروي عنه/الأب).
و بعد... في (فتنة اللحظات الأخيرة) يتعاطى الكاتب فكرة قارة في الوعي الإنساني (الأب) و يخضعها للمراجعة النقدية المستمرة، و هي المراجعة التي لم تستمر على طول النص حيث ينتهي النص نهاية تصالحية تنبئ عن ثمة تواؤمات قائمة بين (الراوي/الابن) و (المروي عنه/الأب)، حيث نصبح بإزاء محاولة للتعرف على ملامح (الأب) من قبل (الراوي) الذي يبدو أن غواية (المصالحة)- ربما بفعل الموروث- قد اجتذبته إليها (أبي هل تعرفت عليك)..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى