الخميس ٢١ آب (أغسطس) ٢٠٠٨

في بطن هذه الأرض ما يستحق الحياة

بقلم: أحمد الخطيب

صفة الإنسان فيه تكتسب المعنى، وما سواها من صفات تطلق على الرجال العظماء لا تصلح لمحمود درويش فهو جمعها كلها حتى بت أخاف أن أنسى إحداها فلا أوفيه حقه، وتكون الحقيقة ناقصة غير مكتملة...

محمود درويش الإنسان الذي ما بين "سجّل" ولاعب النرد" بنى لنا حضارة كاملة، وشيّد لنا صرحاً نتكيء عليه حين تحنينا عواصف الجهل وركيك القوافي...

وليس أبهى واعظم من مقطع قصيدة واحدة له يختصر الدنيا بكلمات نعجز أن نجاريها..

فهو المتيم والمتمم ما مضى...وماذا عنا وعن مستقبلنا، من يصوغه لنا الآن نحن اليتامى بعدك يا محمود..؟

وحاء الحديقة والحبيبة حيرتان وحسرتان...فمن هما وما هما يا محمود ذهبت قبل أن تحل لنا اللغز..حياتك..

وميم الأخرى المعد المستعد لموته...فلماذا لم تعددنا إن كنت تعلم...؟ الموعود منفياً مريض المشتهى...

واو الوداع الوردة الوسطى ولاء للولادة أينما وجدت ووعد الوالدين...

ودال الدليل الدرب دمعه دارة درست ودوري يدللني ويدميني...

بات اليوم يدللنا ويدمينا كلنا...

وهذا الاسم لي...وبات اليوم لنا الكل وأنت الكل الذي ما جزأه الرحيل..

ولأصدقائي أينما كانوا...لنا أينما كنا...؟

ليتني أتشرف أن أكون من بين من قصدتهم في الكلمات الأخيرة..

عرفتك ولكن ليس كما ينبغي، وجالستك ولكن أقل بكثير مما ينبغي ,

وقدستك بأقل مما ينبغي، وحاولت أن أصلك وحاولوا ولكن هل ينبغي؟

فالنبوة رسالة ووحي ومن يملك أن يستخار أو يختار؟

وأنت الرسالة والرسول...

يا نبي الشعر...يا آخر الأنبياء هل قتلناك؟ كما قتلنا غيرك...

مشيت, هرولت، ركضت وصعدت إلى أن أدميت وأغمي عليك ولكنك لم
قل لنا أنك مت، فهل هي غيبوبة يا لاعب النرد..؟رد..؟ لم لا ترد؟

أم هل هي قصيدتك الأخيرة التي سافرت إلى اللامكان واللازمان لتكتبها فكانت بلاغتك القصوى، حين تمنح الحزن فرصة الانتصار، وتمنح للموت الحياة..

اشعر أن كل ما أكتب ليس سوى هدراً للغة وللمعنى، وقد غاب عنها معناها وفارسها الحاضر والماضي..

فيراعي اليوم أعجز من أن يكتب رثاءً لحي سيبقى يخجل من دمع أمه حتى ما بعد بعد الغياب....

غريب هذا الشعور بأنك لم تمت وأن الشواهد التي بقيت تشير إليك تحكي قصة سرمدية , وترينا صورتك متحركة لا تتوقف ولا تغيب تتكلم تلقي الشعرزنابقاً حيناً وقنابلاً حيناً آخر, تحضر بين الفينة والفينة حتى في منامانتا كأننا لا نصدق أو أننا فعلاً لا نصدق وحق لنا أن لا نصدق، والأبجدية تضحك هناك من عل تقهقه أن فارسها لا يمكن أن يموت..

يا إعجازنا البشري أنت دليل وجودنا..

أنت الدمع الذي مر واستقر..

أنت الأمل الذي حاك أحلامنا زهرة زهرة..

وسطر تاريخنا شجرة شجرة..

وفي الختام هل قتلك ذلك الرقم السحري..

سنين ميلادية خرقاء، تمر ولا تمر: دموع وشموع... كان يجب أن تكون أطول..

يجب الذي يجب..

هل صدفة يهزمنا نفس الرقم مرتين؟

أم هل قتلتك أحلامك الوردية التي اخترعتها في مختبر القصيدة ولم تنل سوى اعتراف البسطاء والعظماء والحكماء والشعراء..

بالأمس كان "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"

وغداً سيصبح"في بطن هذه الأرض ما يستحق الحياة"

******

"أهمس قبل أن أكتب أنني أخاف أن يقرأ النص فيلسوف القصيدة وطبيب الشعرالعربي الحديث فلا يعجبه وخصوصاً أنني أعلم يقيناً أن النصوص تتقزم أمام ما يكتب نبي النصوص وفارس الكلمات محمود درويش"

لافتة كبيرة على أبواب حيفا "هذه المرة" : نرحب بالفلسطينيين العائدين من المعركة...تعلن حيفا كالشفق المغني عند النصف من تموز، احتفاءً بمحمود درويش العائد بنظارة طبية وحقائب، ليرنو إلى صورة أمّه وينشد "عذراً يا كفر قاسم" :

حيفــــــــا
إنني عدت من الموت لأحيا، لأغني
فدعيني أستعر صوتي من جرح متوهج
وأعينيني على الحقد الذي يزرع في قلبي عوسج
إنني مندوب جرح لا يساوم
علمتني ضربة الجلاد أن أمشي على جرحي
وأمشي..ثم أمشي
وأقاوم....
فأهلا بك أيها المقاوم بين أهلك وفي بيتك الذي احتضنك حتى عندما غاب حضورك أو حضر تغيبك..
أهلا بك في أرض البرتقال الحزين، ليفرح بقدومك ولو لساعتين،أو شروقين..
لقد عودتنا أن تغيب وعودناك على أن ننتظرك مهما طال غيابك يا عندليبنا المهاجرنحو الشوق..
أمواج البحر بدأت تعد الساعات المتبقية على قدومك يا نهر حريتنا المتدفق..
والكرمل بدا كمن ينظر من فوق الرؤوس مفتشاً عنك ليشمخ بصوتك الصداح
وحيفا لبست أجمل الثياب لتلتقي حبيبها الذي مع عشق بيروت وشآم،
يهمس :ما الحب إلا للحبيب الأول
تعود اليوم وفي عودتك رمزية الحق فلا تعتذر عما فعلت
فأنت أكبر مما يفعلون أو لا يفعلون...
المارون بين الكلمات العابرة
الذين حملوا كتباً وانصرفوا
وقصفونا بالتصريحات البعيدة المدى
ليجرحوا ذاكرتنا وليقتلوا حبنا لك
وعشقنا لعروبتك، لشهادة ميلادك، للذاكرة
أهلا بك يا محمود
يا قمحنا
يا ملحنا
يا جرحنا..يا قصيدتنا السرمدية
أنت + حيفا =أنت
 
أنت منذ الآن أنت...
بقلم: أحمد الخطيب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى