الاثنين ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم عادل الأسطة

في حضرة محمود درويش

متى التقيته أول مرة؟ كنت أكتب عنه وأكتب عنه، دون أن يكون بيننا أية صلة. في جريدة الشعب، يوم كنت محررا أدبيا فيها، نشرت مقالة موسعة عن قصيدته "بيروت". التاريخ 1/10/1981. سأسأل نفسي يومها السؤال التالي: لماذا نقف أمام هذه القصيدة؟ وسأجيب: عدا الجمالية الشعرية، فإن حالة مرضية يمر بها الواقع الفلسطيني في المناطق المحتلة هي التي دفعتني للكتابة عن هذه القصيدة، وهي ظاهرة التشتت والانقسام، وهذا ما عبر عنه درويش داعيا إلى الوحدة ضرورة أولى في المواجهة".

وفي الكاتب المقدسية، في 1983 نشرت دراسة موسعة عن "مديح الظل العالي". هل كنت أمتلك وعياً نقدياً يومها؟ ربما كان الشاعر الكبير يجعل كتابتي ذات جدوى. وسأواصل الكتابة عن قصائد "ورد أقل" في العام 1986. سأكتب: مفردات جديدة.. قاموس جديد. أعود لأحرر صفحاتها الثقافية ثانية. وكنت أقرأ قصائد درويش، وأشعر أنه يكتب من دمه، هو الذي تعلم الكلام كلّه ليكتب كلمة واحدة هي: الوطن. هل أخطأت حين أصدرت كراسي: هواجس عن الأدب الفلسطيني واتفاقية السلام (1993)، هل أخطأت حين نعت درويش بأنه شاعر وطن لا شاعر فصيل؟ أحيانا أعد "ورد أقل" ذروة أعمال درويش الشعرية؟ وسأعود إلى بعض قصائده لأدرسّها ولأدرسَها، وسأكتب تحليلا مفصلا لأربع منها سأنشرها في الأسوار، في هذه السنوات. (عدد 24، عام 2002).

متى التقيته أول مرة؟ الشاعر الذي أنجزت عنه غير دراسة، وكتبت عنه، ذات نهار، حين اتهمه بعض مدرسي الجامعة بأنه شاعر غامض، كتبت مدافعا: ليس دفاعا عن محمود درويش، علما بأنني أنجزت دراسة أتيت فيها على ظاهرة الحذف في أشعاره، الشاعر الذي أنجزت عنه غير دراسة، يعود إلى رام الله. وسأجد نفسي أسأل عنه. سأعرف أنه نزيل فندق، فقد عاد للتو من المنفى. أزوره فيستقبلني في بهو الفندق، وأشرب الكوكاكولا معه، وسيخبرني أنه سيغادر إلى عمان، فلا أثقل عليه، ولا يطول اللقاء. يقول في المقابلات التي تجري معه أنه خجول، فهل أنا مثله، ولهذا لا أثقل عليه؟

في 9/5/1996، في مبنى وزارة الثقافة في رام الله التقيته ثانية. كانت الوزارة عقدت لقاء بينه وبين الكتاب، وكنت أحد المدعوين. كنت أجلس على الطرف المقابل له، وإلى جانبي المرحوم خليل السواحري. هو يتحدث ويتحدث، وأنا أصغي، وسأحاوره يومها، وكان إلى جانبه القاص يحيى يخلف. سأسأله عن "عابرون في كلام عابر" التي كُنتُ ترجمت دراسة مطولة عنها أنجزت بالألمانية. هل كنت قاسيا معه؟ وهو هابط على درج مبنى الوزارة أعطاني إشارة بأنه ليس غاضبا.

في مبنى جريدة الأيام، وأنا أزور الصديق أكرم هنية، يخبرني أن درويش في الجريدة، يعكف مع الكاتب زكريا محمد على متابعة أحد أعداد الكرمل. أقول لأكرم: سأهديه نسخة من كتابي: "ظواهر سلبية في مسيرة محمود درويش الشعرية"، ويبدي أكرم امتعاضه. كيف يمكن أن أهديه نسخة من كتاب فيه دراسة قد لا تروق له؟ لم أكن ماكرا، فالدراسة محكمة وتتبع منهجا قد لا يروق للشاعر، وسأهديه النسخة.

بعد عودته سالما معافى من العملية التي أجريت له في العام 1998 سأزوره في السكاكيني، في مكتبه. سأحاوره ساعة ونصفا، دون أن أدون الحوار، وسأعده بزيارة ثانية. كان شاحبا ذابلا، فآثار العملية ما زالت واضحة. ولن يمر أسبوع حتى أزوره ثانية. حين يعلم أنني في المبنى، وكان في مكتبه، يتنحنح إشارة إلى أنه موجود، إشارة إلى أنه ينتظرني. سأسلم عليه، وأجلس في حضرته. هل قال لي يومها، وأنا أسأله عن مسودات قصائده، شيئا لافتا؟ هل سألني عن السبب؟ هل تساءل: أتدرس شعري أم مواقفي السياسية؟ أظن ذلك. ولم أعد أزوره.

في صيف العام 2000 سأنجز عن "جدارية" إحدى عشرة مقالة موسعة، في الأيام وفي الشعراء. وحين يقام له حفل توقيع لها، تدعوني وزارة الثقافة فأذهب، ولم آخذ معي نسختي ليوقعها. كان في مكتبه، في السكاكيني، وكنت والقاص محمود شقير في الحديقة. دعاني القاص لأصعد معه، كي نجلس مع محمود. لماذا لم أصعد؟ لا أدري.

كان يفترض أن أجلس معه، وأن أسأله عن رأيه في مقالاتي عن نصه. هل انا خجول لدرجة كبيرة؟ ألهذه الدرجة لا أحب أن أفرض نفسي على الآخرين؟ حين يهبط الدرج حتى يوقع نسخ جداريته يراني فيحييني. لم أحدثه. لم يحدثني، ولأنني أقيم في نابلس، لا في رام الله، أغادر مع حلول المساء، ولا أذهب معه إلى مطعم ما، أصغي إلى رأيه فيما أكتب عنه. وستصدر مقالاتي في كتاب، يُهدى منه عشر نسخ، لا أدري ماذا فعل بها. لقد أهداه بيت الشعر النُسَخ هكذا عرفت من الشاعر محمد الريشة.

وجاءت الانتفاضة. لم أعد أزور رام الله، ولا أرد على طلب مركز السكاكيني بأن أكون عضوا فيه. هل كان هو الذي اقترح اسمي لذلك أم الصديق أكرم هنية؟

ولأنني كنت أقرأه، أحيانا كثيرة، وفق إفادتي من المنهج الاجتماعي، فأنظر في ماضيه الشعري وأقارن هذا بحاضره، فقد توقفت مطولاً أمام مقطعه في "حالة حصار" (2002): إلى ناقد:

"[إلى ناقد: لا تفسر كلامي
بملعقة الشاي أو بفخاخ الطيور!
يحاصرني في المنام كلامي،
كلامي الذي لم أقله،
ويكتبني ثم يتركني باحثا
عن بقايا منامي.." (ص25)

في الانتفاضة الأولى كان الفول يرمز إلى فتح، والحمص إلى حماس، والشاي إلى الشيوعيين، ولهذا لم أشتط كثيرا في التأويل ولم يستعص علي المعنى.

وأما قوله بفخاخ الطيور، فواضح. كأن الناقد مثل صياد العصافير ينصب لها الفخاخ.

رؤيته لآخر مرة كانت في السكاكيني في 14/8/2000، وإن كنت أراه من خلال أشعاره، ما من ديوان صدر له، بعد جدارية، إلا أنجزت عنه دراسة مطولة. "حالة حصار" و"لا تعتذر عما فعلت" و"كزهر اللوز أو أبعد". حتى كتبه الأخرى مثل "في حضرة الغياب" و"أثر الفراشة" كان لها نصيب كبير في الكتابة عنها.

هل كان نصه على قدر كبير من الجاذبية؟ لو لم يكن، على الأقل لي أنا، لما كتبت عنه.

محمد الريشة وغسان زقطان قالا لي: يقول لك محمود كفى كتابة عنه. لم يقل لي هذا مباشرة. وما كنت أرسله إلى الأيام عن نصوصه كان جزؤه ينشر، فاضطر إلى نشر الدراسة كلها في مجلات أو في مواقع أخرى؛ في "الأسوار" في عكا، وفي "ديوان العرب" في أمريكا، وفي مؤسسة فلسطين للثقافة في الشام.

هل أنا نادم على بعض دراساتي؟ هل سبب بعضها له وجع القلب؟ في إحدى قصائد "كزهر اللوز أو أبعد" يكتب:

" لا أعرف الشخص الغريب ولا مآثره..
رأيت جنازة فمشيت خلف النعش،
مثل الآخرين مطأطي الرأس احتراما. لم
أجد سببا لأسأل: من هو الشخص الغريب؟
وأين عاش، وكيف مات [فإن أسباب
الوفاة كثيرة من بينها وجع الحياة]

إن كنت نادما على شيء، فأنا نادم على أنني لم أزره، ولم ألتق به مطولا. كان الآخرون يعطونني الإشارة لزيارته. كأنما كانوا يقولون لي: إنه يرحب بك، كما رحب بك من قبل. كانوا كلما رأوني يتنحنحون. تلك إشارته، ولا أذهب. لماذا؟

يوم جنازته لم أذهب. اكتفيت بمشاهدتها من على شاشة التلفاز. اكتفيت بقراءة قصيدته: "لا أعرف الشخص الغريب". هل كنت أعرف محمود درويش أم أنني لم أكن أعرفه. ولأنني أعرفه، من خلال شعره جيدا، فلم أذهب إلى جنازته. شعره كوّن شخصيتي وصاغ وجداني وغدا جزءاً من حياتي ووظيفتي ومكتبتي. لقد ارتبط اسمانا معا بغير كتاب، بغير دراسة، بغير مقالة. من سيقنعني، إذن، بأن محمود درويش مات؟ من؟

يوم جنازته لم أذهب، فهو القائل على لسان الشهيد:

الشهيد يحاصرني: لا تسر في الجنازة

إلا إذا كنت تعرفني/ لا أريد مجاملة من أحد

هامش: ملاحظات

أتابع، حتى اللحظة، ما يكتب عن رحيل الشاعر المرحوم محمود درويش. أقرأ ما يكتبه محبوه وكارهوه. ما يكتبه الإسرائيليون. هل أريد أن أكتب عنه، متبعا منهج (سانت بيف) الناقد الفرنسي. كان هذا صانع الصور، وكان منهجه يقوم على أساس جمع المعلومات عن الشخص المنوي دراسته، جمع المعلومات من الأصدقاء والأعداء، من أهله وأقاربه وأساتذته وتلاميذه، حتى إذا ما اكتملت المعلومات رسم لصاحبها صورة. ولم يكن (سانت بيف) يهتم بالنصوص قدر اهتمامه بأصحابها وربما أتذكر، وأنا أقرأ ما كتب عن درويش، بيت الشعر العربي القديم:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولكنّ عين السخط تبدي المساوئا

كثيرون هم الذين أظهروا لدرويش صورة إيجابية، وقليلون هم الذين أبدوا له صورة سلبية. وربما تذكر المرء سطره الشعري: يحبونني ميتا ليمدحوني، فبعض مادحيه، ولا أقول كلهم، كانوا في حياته، هاجموه وأساؤوا تأويل نصوصه، وحملوها ما لم يقصده الشاعر، وأظنني يومها كتبت: بطن الشاعر... بطن القاريء. وبعض مادحيه لا ينطبق عليهم قوله: يحبونني ميتا، لأنهم أحبوه حيا وميتا، وحزنوا لرحيله.

سألتفت إلى كتابات لا تدخل رأس عاقل، كتابات كتبها حاقدون لسبب معروف: قصائد الشاعر. فبعض الإسرائيليين ما زالوا يتذكرون قصيدته: عابرون في كلام عابر، وبعض الحمساويين، لا كلهم، ما زالوا يتذكرون قصيدته: أنت، منذ الآن، غيرك. لا الأولون ولا الأخيرون، غفروا للشاعر، فكتب الأولون: الشاعر عدوا، وكتب الأخيرون ذاكرين قصصا خرافية، مثل إن الشاعر كان يشرب الخمر، وتكون فاتورته- أي الخمر- عشرة آلاف دولار يوميا.

وسألتفت أيضا إلى كتابات أراد أصحابها مدح الشاعر والإحسان إليه، فأساؤوا له. مثلا بعض المقالات التي أتى أصحابها فيها على تعامل الشاعر مع النقد والنقاد. هل تعالى درويش على النقاد؟ هل ازدرى كتاباتهم ووضعها في سلة المهملات حقا؟ إذن لماذا كتب قصيدة: إلى ناقد في "حالة حصار" وقصيدة "اغتيال" في "أثر الفراشة"، وفي الأخيرة شكرهم على سوء التفاهم، ومضى إلى قصيدته الجديدة؟ الشاعر حاضر في غيابه، وسيظل.

هامش 2:موت الشاعر.. موت الشعر

قبل أن يموت محمود درويش كنت أفكر في كتابة مقالة عن طبعات أعماله الأخيرة، لأقارنها بطباعة أعمال روائية بارزة هي أحلام مستغانمي، يحدوني في ذلك سؤال يدور على لسان بعض النقاد، وهو: هل انتهى زمن الشعر وحلت الرواية محله ليغدو زمننا زمن الرواية؟

كان الناقد المصري الدكتور جابر عصفور أصدر كتابا عنوانه "زمن الرواية"، وكنت قبل ثلاثين عاما تقريبا قرأت مقالا نشرته مجلة عربية تصدر في باريس يقولُ كاتبه فيه إنهم في فرنسا يدقون آخر مسمار في نعش الشعر هناك. وكانت أمسيات محمود درويش، ومثله أمسيات نزار قباني ومظفر النواب، ترد على تلك التساؤلات. رحل محمود ورحل نزار- وظل مظفر، ولا ندري ما الذي سيحدث في أمسيات الشعر بعد رحيله؟ هل سيكون عدد حضورها قلة لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة؟

حين يمعن المرء النظر في الصفحة الأخيرة من كتاب درويش "أثر الفراشة" (2008) يلحظ أن أعماله الأخيرة الصادرة عن دار رياض الريس لم تصدر منها سوى طبعات قليلة، ثلاث طبعات من "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" وطبعتين من "سرير الغريبة" و"جدارية" و"لا تعتذر عما فعلت" و"كزهر اللوز أو أبعد". طبعا علينا ألا ننسى الطبعات المزورة، ولا أدري عددها. وحين يمعن المرء النظر في الصفحة الأخيرة من روايات أحلام مستغانمي يلحظ أنها تجاوزت العشرين طبعة. فهل يعزز هذا رأي القائلين بأن زمننا هو زمن الرواية؟

أنا شخصيا كنت أشتري مجموعات درويش لحظة صدورها فورا مهما ارتفع ثمنها، وسرعان ما أكتب عنها، وغالبا ما كنت، في مقالاتي الصحفية، أستشهد بأسطر منها، بل وغالبا ما درسته في الجامعة، ولكن هل علاقتي بالشعر العربي والشعراء الآخرين تشبه علاقتي بشعر درويش؟ لا أظن ذلك.

حين زرت عمان في المرة الأخيرة، نهاية أيار، عدت بخمس عشرة رواية وديوان شعري واحد. اشتريت الروايات وأهديت الديوان، ولم أعد أشتري دواوين الشعر. بل إنني لم أعد أدرس الشعر، إلا نادرا، في الجامعة. هل السبب يعود إليّ شخصيا أم إلى أن فن الشعر بدأ يذوي، وفن الرواية بدأ يزدهر؟ وماذا سأفعل بعد رحيل محمود درويش؟ هل سيموت الشعر بموت الشاعر؟ آمل أن يُخيّب شاعر موهوب ظن المتسائلين، وإن كنت أعتقد أن ظاهرة درويش، مثل ظاهرة المتنبي، لا تتكرر كثيرا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى