الاثنين ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
يا قديستي الحلوة
بقلم محمود فهمي عامر

قراءة نقدية في قصيدة حميد عدنان

خالدة تلك القصائد التي تحمل أنفاسها بعيدا؛ لتعبر بلغتها الثالثة عن كل مدينة أوحبيبة أوصاحبة لا تموت، خالدة تلك القصائد الصامتة التي لا تباشرك باسم ولكنها تعبر عن كل الأسماء، خالدة على الرغم من كيانها المغمور في عالم أدبي لا يعرف فن التقميش، ويستسهل بضاعة أدبية تحمل ماركة عالمية بقشورها البالية، تاركا صناعة محلية عالمية لن تبور.

وعلى المتذوق الفني دور كبير في قراءة النصوص الجيدة وعرضها دون العودة إلى سجل الأحوال المدنية وبريده الشخصي، وعليه دور آخر في أن يقول كلمته في تلك النصوص التي لاقت شهرة لأنها خرجت فقط عن شاعر ربما عرف بقصيدة أوقصيدتين، ووجد دورا للنشر وجماعة ما صدقوا القراء فيما زرعوا.

لقد قرأت في دنيا الرأي يوم الثلاثاء 14 – 4 - 2009م قصيدة للشاعر حميد عدنان بعنوان (يا قديستي الحلوة)، وهي قصيدة تحمل طابع العالمية بكل مقاييسها الفنية، وتصلح لكل احتفالية ومناسبة خاصة أوعامة، وأنا اخترت أن تكون قصيدتي لهذا العام في احتفالية القدس عاصمة الثقافة 2009م، وإن لم يذكر الشاعر اسم القدس أوفلسطين في كل قصيدته، ولكنه الشعر بدفقاته الخالدة وبتجربته الصادقة يناجي كل ميل في القراءة والفهم فيرضيه، وهوشعر جديد حر لا يسير على بحور الخليل الصافية والممزوجة، ليؤكد حقيقة وجوده الشعري، وإن أنكرها الملتزمون بالوزن العروضي، أوأخرجوها من دائرة مفهومهم الضيق للشعر المحصور في اشتراك العضوية في نادي الوزن، هوالشعر عندي جنين يتنفس من غير صفار بعد مخاض التجربة الشعرية بطريقته الفنية التي تقتضيها الضرورة الفكرية المرافقة للحالة النفسية بشرارة الاستجابة الأدبية.

ومع عنوانه النزاري، وبدايته الأولى التعظيمية (سيدتي)، وانطلاقته بدرامية أوجست سترندبيرج في مسرحية الآنسة جوليا في ليلة منتصف الصيف أوليلة عيد القمر، نؤكد خطاب الشاعر الشامل لكل قديسة وسيدة تستحق هذا اللقب، وتستحق أن نحتفل بها، فربما كانت القدس، أودمشق، أوالقاهرة، أوبغداد، أوعمان، أوالرباط، أوالأم، أوالحبيبة المجردة من كل رمز، أوما شئت من المسميات تجد القصيدة في ثنايا هذه المعاني المختارة لتلك الشاعرية الحالمة:

سيدتي
هذا العيد سأكون شاعرا
لأحتفي بك عندما تغيب الشمس
ويزين القمر وجه السماء

نعم هي تلك الحقيقة الصادقة بعفويتها الشعرية المتسائلة في جوها الاستنكاري لكل ريح ساخرة لا تعزف لحنها إلا في حضرة محبوبته التي لم يجد في معجم رضاها ومواساتها وحبه الماضي والحاضر والمستقبل لها إلا أن يقول في حضرتها:

كيف أمنع الريح من العزف بسخرية
على أبجديات شعرك؟
لن أهدي إليك وردة
لأنها ستموت في المساء
ولا قصيدة
فالقصيدة كلام ينسل من ثنايا الصمت
وأنت صمت لا يليه كلام

ويعود الشاعر حميد عدنان في مقطعه الثاني ليبرز بتشخيصه ملامح سيدته القديسة التي لا يؤثر في صفاء وجودها وبهائها شيء مادي؛ لأنها قبس من السماء المحفوظ بعناية إلهية لا يشوه وجودها عمل بشري:

سيدتي
فيك قبس من السماء
على بهائك تمر سحابة
وفجأة يعود إليك الصفاء

وفي هذه الرمز(سيدتي القديسة) الخالدة بسحر وجودها الإلهي، وجودٌ مصدريّ في مجرى غيرها من الرموز التي تنشد موسيقا جبران في الحياة المتفائلة بخلود اللحن الصادق فيها:

تعلمت من جمالك
أنك سر بقاء الورود
وسحرك سحر للوجود
عندما يهب نسيم الأيام
من أعلى شرفة في ذاكرتي
تستيقظ الحياة

ويرفض الشاعر في ظل احتفاليته النزارية بمحبوبته الإلهية أن يكون تقليديا أوزعتري الوجود والرائحة حتى في أجمل معاني التقليد المتمثلة بطقس الوردة التي لا تمل الحبيبية التقليدية من تكرار حضورها في كل مناسبة، فحبها استثنائي وهديته استثنائية:

لن أهدي إليك وردة
فأنت وردة أجمل من كل الورود
وعيب أن أقدم زعترا
لإلهة لا تموت...
فكري مليا يا سيدتي
إن عشت ستين عاما
فسأهدي إليك ستين وردة
سأكون شاعرا وأقول لك
كل ورود الدنيا لا تكفي
لتكون قربانا إليك
يا قديستي الحلوة
فاسمحي لي أن أحتفي بك
على طريقتي...

ويجدد الشاعر ولاءه وانتماءه لمحبوبته في احتفاليتها الذاتية، ويترك شاعريته على فطرتها مستعينا بعندليب روحه الذي ينشد جمالها بلحن تعرفه ويعرفها؛ فينصت في حضرة النشيد المولود على عتبات وجودها العبق بأصالتها وقدسيتها وتطلعاتها المستقبلية مع كل عام جديد:

في كل عيد
سأكتفي بتجديد الولاء
وسأرنوإلى العندليب
ففي غنائه قبلة إليك
وسأنصت للقصيدة التي تولد
على جبين نظراتك وأريج شفتيك

هذه هي سيدته المقدسة التي أحبها حبا صوفيا، وعاش أجواءها التقليدية وطقوسها، وتغنى بملامحها الخارجية، قد عادت إليه في عامها الجديد بوجه رمزي جديد تحسس خلاله مواطن الجمال الحقيقية فيها، تلك الملامح التي تجاوزت حدود الذات المكانية وكلاسيكية الجسد؛ لتستقر روحا مقدسة في صومعته الجديدة التي انصرف إلى عالمها، واعتزل الاحتفال بغيرها:

أنا راهب لم يعد يتعبد كما كان
لقد غيرت المكان بالمكان
وتركت الزمان للزمان
كي أعيش في هذا العالم
على إيقاعات همس الجمال

ويمضي الشاعر متعمقا في رحلته الذاتية مع حوائجه النفسية الجديدة التي لم يعد فيها طقسيا في خدمة محبوبته الاستثنائية؛ ليؤكد فلسفته الشعرية الجديدة التي لا تخضع لبرمجة الشعائر التقليدية، أوكذبة الحياة كما عبر عنها هنريك إبسن في بطته البرية، وهوبذلك ينتقد كل احتفالية لا تتجاوز حدود المكان أوساعة الاحتفال حتى تغيب عاما كاملا لتعود من واقع إرشيفنا القديم لها باهتة لا أثر لها في الآخرين، ولا نقدم لها شيئا في إبراز هويتها وحقها المشروع في البقاء دون فاصل زمني ما بين العام والعام:

لقد تعبت من طقوس
تحول القلب إلى جدران
والحب يولد ليدفن قبل الميعاد
لقد أخذت حصتي من الألم
وغادرت معبدي
لأبحث عن حصتي الأخرى
من الألم الجميل
لم أعد أطرب للطقوس
لن أقطف وردة من هذه الأرض
لن أشتري زهرة
أوبستانا من زنابق
سأحتفي بك على طريقتي
في الزمن الذي لا أعيشه
وسأكتب أجمل ما عندي على جبينك

ويستعين الشاعر بالأجواء الأسطورية الحربية، ورمزية الدموع والأسى والنكران، وثنائية الموت والحياة؛ ليقف حائرا أمام سيدته القديسة الصامتة، وتلك الأطماع التخريبية المحيطة بها، والتي تسعى إلى مصادرة حلمها في البقاء فريدة في عالم الجمال الروحي، وحلمه في التواصل مع ملحمة حبها كما أرادها في تناسخاته المتواترة والقائمة على التنوع والتغيير:

أنا حائر أمام السؤال
لماذا تنحني الأمواج
أمام قدميك؟
يا عروس البحر
لا تقتربي من الشاطئ
فكل الشباك ألقيت في اليم
منذ الأمس
ولا تغني عندما يمر ايليس
دعيه يبحث عن مدينته الخالدة
ويكتب حبه على أسوار التاريخ

ويظهر الشاعر بعد ذلك أمام قديسته الحلوة وسيدته في كامل أبهته الأسطورية ليكون بطلا طرواديا أوإلها من آلهة الحب يدافع عن حريتها ووجودها الروحي الذي ارتضته جمالا لها من براثن التقليد الجسدي الممل في حضرة الاحتفال بها:

يا سيدتي
سأرافق سندباد
في رحلته القادمة
أرغب في ركوب الموج
والغوص في أسرار البحار
لا أريد أن أجمع ثروة
مثلك يا سندباد
لا أريد أن أعتلي عرش بابل
مثلك يا بلقيس
أريد أن أفك شفرة
الجمال الذي في عينيك
أريد أن أعرف
ما الذي يموت في الحياة
ويبقى سرا في شعرك...؟
أريد أن أغازل
كل نسيم يذكرني بصمتك
يا قديستي الحلوة
لماذا ألقوا بشباكهم
وهم يعلمون أنك تسبحين في الماء؟

ويختار الشاعر أن يختم قصيدته بتكرار المقطع الذي أعلن فيه فلسفته الشعرية في التعامل مع محبوبته، وهوتكرار استعان به للخروج من أجواء قصيدته الدرامية التي أخذ حصتها منها، أوربما هي استراحة المحارب لجولة قادمة يواصل خلالها اكتشاف المزيد في جمال قديسته الخالدة:

لقد تعبت من طقوس
تحول القلب إلى جدران
والحب يولد ليدفن قبل الميعاد
لقد أخذت حصتي من الألم
وغادرت معبدي
لأبحث عن حصتي الأخرى
من الألم الجميل...

هكذا مرت هذه القصيدة الصامتة دون إعلان حقيقي لسيدة الشاعر القديسة، وبقيت رمزا ذكيا تحاكي كل رمز يستحق الخلود ويعاني هبة الجمال الإلهي، واستحقت بهذا المرور الفني، الذي أجبرنا الشاعر أن نخوض رحاها النفسية وتطلعاتها الروحية المتناسخة بحاسته السادسة، أن تكون خالدة في عالم التعاطي الثقافي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى