الاثنين ١١ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
استعارة البيان وبيان الاستعارة

قصيدة (رحلة صيد بائسة) لفواغي القاسمي

بقلم: فائز الحداد

تشنغل منظومة الشعر في قصيدة(رحلة صيد بائسة) للشاعرة فواغي القاسمي من خلال وخلل بنياتها التشاكلية على ترسيخ مفضيات البنى الجمالية وتناسقها البيني بانتماء الجزء للكل والكل للجزء، تعاكسا وترادفا، وهذه سمة القصيدة الحديثة المكتنزة للبعد المرئي وغير المرئي ببوحها، بعيدا عن هيئة شكلها ومايتصل بذلك من شروط وتبعات أخرى.. فمقدار شعريتها هو رصيدها المعنوي الذي بظله يمكن الحكم عليها بانها بلغت ذروة الجمال من عدمه، وهذا هو سر خلود القصائد الجميلة عن غيرها، وبخلافه سقطت العديد من مطولات السجع المنظوم وماتت في ذروة (مائها المهين)لاسباب كثيرة، وعدم توفر شروط الشعرية من اهم اسبابها المؤشرة بيانيا في المضمون والبناء.

وعلى اساس هذا الفهم لابد من القول أولا : ان الحداثة في (رحلة صيد بائسة) متوفرة بامتياز انتمائها لقصيدة النثر، وثانيا انها كغيرها من النصوص الأثيرة، لها مايستدعي القرأة المنتجة، فالقصيدة جميلة تمسك القاريء من عنوانها الى آخر حرف فيا.. فالنص الجميل لابد وأن يكون حداثويا معبرا عن موقف انساني كوني، بدلالة شعريته لغة ومعنى.. بناء وجمالا، دالته بأنه خارق لمقننات الزمن ورافض للمقيدات الآسرة، فسره في سحره وسحره في سره المتخارج على نمطية وأشكالية المعلن، لأنه يبطن المعنى أكثر مما يظهر.

يستأنف النص انطلاقته الشعرية في مضمار مفتوح،وباستهلال وصفي يضع الوحدة والعزلة كدلالة سيميائية تفصح عن ديمومة المعاناة التي تحكم انفاس مخاطبها المعرف (بالوحدة) وما يتصل بها من عتمة الانعزال، وما لها من وقع ثقيل على نفسه المحبطة :

وحيدا..

في ليل حيرته الذي لاينتهي

وكي تتوضح مقاصد الوصف التعبيري لمعرفها، تتقصد البوح بأطراق السرد المشعرن بشخصنة الذات، وما تفضي الى أنواتها الاخرى وما يلفها من انكسارات حادة تعبر عنها مفردات صيغت بانتقائية ذكية بايقادها شرارة (التسهيد) تفصلها مفردة قاتلة (لايجيء). ولو جمعنا تلك المفردات لانتهت الى معنى دلالي تبادلي، يشحن المقطع الأول باضافات جمالية جديدة، ولو أجتزأناه لأعطى معنى يتفرد به من دون حاجة الى بنياتها في التكوين الأول.. ولاختيار المعنى المولد الجديد من رحم المعنى الآول تمثيلا لا اجمالا، يكون النسق المفرداتي على غير ماجاء به (يسهدها... المتوثب، المتثائب، المثقل)... لهذا جاء السرد الشعري كضرورة وبخلافه لاعتاص المعنى بضبابية غير زاكنة تفقد الشعر قيمته التي يستهدفا..

حين العين، يسهدها الانتظار

والقلب المتوثب للقاء

لايجيء..

حتى المقهى المتثائب

على زاوية الشارع

المثقل باقدام الخليقة..

ولأن البوح قائم بتواتر متصاعد وأريد له ان يكون مفصحا بأشاريات تعود بالمعنى الى حاضنته الأولى يكون (المقهى) الوعاء الذي تجتمع به كل متناقضات العرض بدلائل الوحدة في (ليل وسادة الليل)، فالمقهى (وحده) من :

يتلمس وسادة الليل، ليثوي

تاركا اياه..

(و... ماذا بعد ايتها الشاعرة). وماهذا الجمال في هذا القطع المتعمد بقصدية مبطنه لمعنى تأويلي قائم، بدلالات تتشظى باتجاهات محسوبة بدقة الامساك بعنان القصيدة وكي تكون.. (تاركا اياه) قناة توصيل شعرية لاستمرار البوح الجديد وسبقى (وحيدا، لايجيء، تاركا اياه)... لنقرأ :

يرسم حلم التفاصيل

التي لاتكتمل

ونبيذ الرغبة المشتعل

في غيوم رأسه

يتطاير في سماوات العروج

ولنتأمل هنا عند منعطف (حلم التفاصيل) المتعلق (بالوحدة والليل) فلقد منحته فواغي أجنحة من نيران الشك صوب (طيف) مبهم لتؤكد فصيلة دم الشعر القائم على الشك، صوب يقين يتقصاه كحقيقة.. الحقيقة التي لايبلغها الا بشك مضارع اخر.

فاجنحة الموصوف (وحيدا) ستسقطه الشاعرة من على فرسه الغائرة برحلة صيده البائسة بانكسارات حادة على حافة الحلم وتسوسه الى خيبة اثغاثة الى (مقام طيف لايتحقق)، فنبيذ الرغبة لم يبلغ رشده الا في هذا التطاير في (سماء العروج)، فلماذا مفردة العروج الحقتها في السماوات.. هذا مايلخص سر (النبؤة) وتفردها عند الشاعر في التعرفة والتعريف فهو من النوادر، والنادر دائما من تجده نادرا معبرا عن سحره في قوة الجمال الذي يبثه شعرا في الحضور والاستحاله، فالشعر يدخل القلوب دون ترخيص أو مكس ودون آسافين مانعة.. وحتى الكارثي فيه يعبر عن جمال غير مرئي وأن كان يشي الى الذوات المقموعة والمهددة بعوامل خارجية مفروضة ومفترضة تهدد المرء في ادق تفاصيل حياته ولاشأن له أو قوة كأضحية.

أن الانطباع كرأي ومن خلال تشاكل مفاصل (رحلة صيد بائسة) المقطعية والمفرداتية، يجد المرء.. أن الانفعال المتصاعد بوتائر مضطردة يتوافر بشكل ضمني ومعلن احيانا، حيث تتوزع تمظهراته باتجاهات لايمكن اقصاء الترادف فيه لصالح التخالف، والعكس ما يؤكد جدلية البوح ويجسد مدارك الوعي الملم بطباعة الشعر، وبادوات جميلة تتبنى الاداة (اللغة) وتغادرها صوب سماوات المعنى باقصى درجات الاتساع.. فحين تضع فواغي (الفتوحات) مهمازا لغزل مخاطبها فهناك (السنابل) كغنائم....

يغزل جدائلا، من سنابل فتوحاته

يلبسها كعقود من زبرجد الحكايا

لجيد القصيدة..

ان التضارع في اصرار تأكيد صيغة الفعل المضارع، ويتواقت محسوب لزمنية الفعل الشعري يدفعنا لاستخراج افعالها كأركان أساسية لأقامة هرمية النص، انما يقوم على مايقوم عليه ب (يتلمس، يرسم، يتطاير، يغزل) ل (يلبسها كعقود.. لجيد القصيدة).

وعليه اقول : ان النص الجميل لابد ان يكون حداثيا، ويستدعي الماما كبيرا بصياغة افعاله وبناه، وقصيدة النثر خصوصا تؤكد حقيقة مفادها : انها حتى في مباشرتها غيرالمحببة هي غيرها عن الاجناس الادبية الاخرى، والاشارة هنا لا اعني بها الى ضرورة تكريس التكثيف التصويري، انما الى المعنى المجتشد الزاخر بالدلالات التي تستهدفها وتهدف اليها، فحين تضع الشاعرة مفردة (الفتوحات) المتصلة بحالة النزاعات والحروب كاشارة كريهة تفصح عن الا حياة، تدرك تماما ان (الشك الشعري) يتقصاه بولوج نقيضه تبنيا له في التعبير عن الخصب والحياة. ومخاطب فواغي الذي ارادته (, وحيدا) ارجعته الى حيز (التأمل) وبافعال مضارعة مستمرة في القصد الشعري، فهي تواصل بوحها على شفرة الانكسار ذاتها وباستدراك استذكاري يضع الزمن المقصي كمرآة متصدعة لأن (وحيدها) المفترض..

يتأمل تعاريج ولهه وأخاديد شروده

يستنهض زخات عشق

في جوانب القلب المتعب

بحثا عن صيد.. فارغ

فالتداعيات هنا تنحى منحا تشخيصيا سلبياسنجد اصداءها في منحنيات الرفض باكثر حدة في (تعاريج الوله.. او الشرود) فبعد ماكان (يتأمل ويستنهض) لايتحقق له (صيده) كالذي يرمي الشباك ويعود (بخفي حنين) وبتلمس جمرة الفشل لذا يستأثر بالتأر كسبيل أوحد وكرجع تعويضي لما فاته من (نبيذ الرغبة) الخائبة، وما ظل له سوى الكوابيس المستفزة بمردودات الافعال الانعكاسية للذات المحاصرة والمحكومة بالاحباط والخطيئة لذلك هو..

يستل رماحه خطيئته

من جعبة اهتراء راحلت

ال..

انهكها تبعثر الطريق

وخطاه لايستقر بها وقع

وبتعميد استرسال الوصف يتماها المخاطب في رحلة الغيب، وبمآخذة الغائر بوحل الهزيمة، فالحقيقة انكى من حالة القائد الذي يرى حقيقة جيشه ممزقا ورحلة فتوحاته أ, (صيده) بأكف السراب.. لتراه مفعما ب..

شرود العينين القاحلتين

من ندى الحقيقة..

ولكن متى.. في محض سؤال عارض..؟!

حين..

يجدهن.. كما هن

لتتشابه قصائده

فلا يميزهن.. من هن

وعودة على بدء.. ما كان عليه مخاطبة الشاعرة، الذى أرادته ان يكون شاعرا فاشلا، وربما هكذا الحال حين يصاب بعمى الالوان، وليس بمقدوره الافصاح لا في الرؤيا ولا في الرؤية (فلا يميزهن، من هن) وبتأكيد حالة الخواء تلك...

يعاود رحلة صيده

عله تجاوزهن.. اليهن

حيث ليس الا هن

وهنا تكون القصائد استعارة لترميز واضح وبتورية أريد لها، ان تكون كذلك (لكنهن) قوارير موزعات كعذراوات العوانس..

لكنه يعود فارغا

سوى من ذكريات سقوطه..!

وبهذا تلامس (فواغي القاسمي) أسباب البوح بكفاءة الشاعرة العارفة تماما بأسرار القصيدة وتداعياتها كعالم شاسع التي لايبلغها الا الشاعر المطبوع في الاسم وفصيلة الدم.

بقلم: فائز الحداد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى