الأحد ٧ نيسان (أبريل) ٢٠٢٤

كأني سألتفتُ الآن لي

أحمد نمر سليمان الخطيب

كأنّي سألتفتُ الآنَ لي
قَبْلُ ما كان يسعى إليَّ أحدْ!
وما مرَّ بي عابرٌ كان يدفنُ أيامهُ في البراري
وما عادني عابرٌ
حين حطّ الرِّحال على جملةٍ
لا متونَ لها في القواميسِ،
أو صورةً مِنْ جفاء المددْ!
سألتفتُ الآن نحو الرصيف الذي باعني فجأةً
قبل خمسين عامًا
ولم يستعدَّ لعودةِ روحي
ولو ما مررتُ، هنا فجأةً، قربَ باب الطفولةِ
أو زرتُهُ، فجأةً، حين حطَّ
على القلبِ دُهْنُ الجسدْ!
ذهبتُ أعدُّ الخطى، قال لي صاحبي
إذ تعلّمَ فقهَ المداواةِ:
لا تَنْعَسِ الآن، بعد الإصابةِ، في حِجر بيتكَ
أو في ظلال الغبارِ، تمرُّ على رسلها
صورةُ اللاجئينَ،
فهَبْ أنَّ ليلَكَ بالذكرياتِ شَرَدْ!
فماذا ستفعلُ بالريح وهي تخطُّ الحوارَ الأخيرَ
على شجرٍ ناقصٍ دون وعيكَ
أو دون قمصانها؟!،
وما الريح إلا سؤالُ الكَمَدْ!!
على باب مدرسةٍ في المخيمِ
كان الصبيُّ المُدلَّلُ يسعى إلى بركة الماءِ،
لا ماءَ في شاطئ الصفِّ
لكنها غلظةٌ في تعاليمِ "قولوا نشيدَ الصباح"
ولا تنفروا من فظاظةِ هذا البلدْ!
وحيث المرايا هنا في الممرِّ اللصيقِ ببيتيَ خضراء
كان الفَراشُ يرفرفُ فوق الجدائلِ،
يا ريحُ نامي على جمرة الخوفِ، لا توقظيها،
ففي البالِ أغنيةٌ عن هواء الأبدْ
وكنتُ أغازلُ آخرَ ما ظلَّ من ضحكاتِ الصبايا
ولي أنْ أقول لصاحبِ دربي: توقفْ
أما آنَ أنْ نستظلَّ بهذا الجسدْ؟!
تعلَّل بالدرسِ، قالَ
ولمّا تقاصر عنا المكانُ،
رأينا النساء يكركرنَ بالضحكِ:
لا تنبشا لوحةً من رَمدْ!
وفي لحظةٍ من سخاءِ الأيادي على النارِ ليلًا
تبعثرَ ظلٌّ أمامي،
وكان أبي لا يريدُ من الدرسِ
غيرَ احتسابي على العِلْمِ
قالت لهُ، في المساءِ، "مُنيرةُ"، خِفَّ عن الطفلِ
ما زال غضّاً طريًّا يراقبُ طيرَ الرَّشَدْ
وفي الصفِّ كان المعلِمُ يصفعُ خدَّ الصبيِّ
لأنَّ الصبيَّ أرادَ لكل الهوامشِ
أن تختفي من رسومِ الزبدْ!
مررتُ بها بعد خمسين عامًا
وقلتُ لعابر هذي الطريق: لماذا
يرفرفُ هذا الكنارُ على سورها
وقد كان قبلُ عزوفًا عن السُّورِ،
أينَ الحديقةُ، أشجارها؟!
قالَ: صار المغنّي يغني بلادي، بلادي،
وفي الليلِ يحملُ أشجارها
كي ينامَ الصغيرُ
وقد أثلمَ الجسمَ داءُ البَرَدْ!
مررتُ بها بعد خمسين عامًا
وحيدًا، ولي كان بضعًا وسبعين شعبةْ
تُفسِّرُ أحلامنا إذ نسيرُ إلى ثورةٍ،
قد فككنا الحبالَ الكثيرةَ عن حارس الأمنياتِ،
ولم نستطعْ فكَّ حبل المسدْ!
مررتُ بها قبل بضع دقائقَ
كانت تؤشّرُ لي باتجاهِ النشيد الأخير،
فقلتُ: وهل كان يعبرُ مثلي وحيدًا
إلى مربط للنجاةِ
وهل أوصل الحربَ للِسلْمِ
أم صارَ في السِّلمِ
يغزو الذين تبلَّدَ فيهمْ سؤالُ العددْ؟!
وفي البيتِ شِعْرٌ
ونثرٌ
ومصباحُ ليلٍ طويلٍ
ويخفتُ حين تجيءُ النهاياتُ
أكثرَ خفضًا من الضوءِ
أو حين يعبرُ بي عابرٌ لا يرى
حيلةً للولدْ!
أنا العابرُ الآنَ،
كان لنا دولٌ
ورعاةٌ
وأعلامُ رؤيا
وكانت حدائقُ أحلامنا ساحةً للحَسَدْ!
وتلكَ منازلهم في العراءِ
ولم يحضروا في الصباح جنازة جاري
ولم يقطفوا من جرار الرصيفِ حكايتهُ
قال لي صاحبي
وابْتَعَدْ!
في عيون البكاءِ، وقد أغرقتْهُ،
فعلَّلَ ذلك بالحادثاتِ، أكان لهُ
أنْ يظلَّ وصيفًا لأقرانهِ،
أم ترى سوف يغزو قبائلهم
ثُمَّ لا ينتمي لحوار الثقافاتِ، لا يرعوي
إن أطلَّ برأس الجنازةِ
في عنفوان السَّندْ!
سأدعو له في المساءِ كثيرًا
كثيرًا، ونحن يتامى الحقيقةِ، والانطواءِ،
كما نحنُ، والانكفاءِ إلى جدرٍ هالكةْ
سأدعو على جيشهم بالهلاكِ
وأبحثُ في شارعٍ فائضٍ بالغيابِ
عن اللغة الشائكةْ
وإنْ يمَّمَتْنا الجيوشُ، على رسلها لا تمرُّ،
فما من سماءٍ هنا في البلادِ القريبةِ من حلمنا،
سوف تهطلُ بالردعِ،
أو بالرصاص المخبَّئ في سترةٍ حالكةْ
ولكننا سوف نحرقُ وسمَ الجيوش المزيّفَ
حتى تمرَّ القصائدُ
أو أنْ تمرَّ الرجولةُ من دمِنا باتجاهِ الطفولةِ
تلك التي شيَّعتْ حُلْمنا في البراري،
لكي نسلكَ الطُّرقَ السالكةْ
سأدعو لهُ
غير أني يقينًا سأهتفُ للماء
حين تطيح بنا حادثات الغيومِ، لكي
يهدأ الموجُ، يا بحرُ
كم سوف يمضي من الخوفِ
في خيمةٍ لا ترى غير عودتنا
ظافرينَ بأغنيةٍ لا تنام
على وتر القارعةْ؟!
سأدعو لهُ
غير أني يقيّدُني حارسٌ في الممرّ اللصيق ببيتي
تقيّدني موجةٌ لا ملاذ لها
والذي بيننا، يا أخي، لعبةُ الجزر والمدِّ
بحرُ الذين أغاروا صباحًا على حيِّنا،
والطريق لها خلوةٌ
إنْ تهادى المُعلِّمُ في حصّة الانتظارِ!
سأدعو لهُ
إنَّ زلزلةَ الأرضِ
بعضُ اليقين الذي تركتهُ على ساحة الحربِ
جدَّتنا السابعةْ!
كلُّ شيءٍ تعدّى حدوس الطفولةِ
إلا محلّ الفلافلِ،
دكانُ عدنان كان لصيقًا بباب المدارسِ،
بيتُ العجوز التي لم تنم
وهي تبحث عن طفلها في الشوارعِ،
أمُّ البنات التي أحصَنتْ فرجها
حين عادتْ مِنَ اللائذاتِ
ولكنهنَّ اغتوينَ كثيرًا بكهفِ الحكايةِ،
قُلنَ لِمأمور هذا الفصيل الذي
كان يجمعُ بين الشتاتِ وبين القرابةِ:
أين الولدْ؟!
وما الشعر إنْ لم يكنْ واشِمًا يدَهُ
عند كلّ منحدرٍ بين بيتي
وباب المدارسِ
لا زرقةٌ في العيونِ،
ولا هاجسٌ يرتعِدْ!
وكان هنا في الصباحِ
على شجرٍ طائفٍ بالجدار حمامٌ
ويهدلُ إنْ أفزعتهُ الفخاخُ
وكان إذا ما رآني يرفرفُ،
ثلثُ الجناحِ تطايرَ من فِتيةٍ لا خلاقَ لهمْ
وكنتُ كثيرًا أطاردَهم حين أقدُمُ
أو حين أضغطُ هذا الزَّندْ!
وها أنذا بعد خمسين عامًا
أراها على عجلٍ،
ثمّ إنْ فاض دمعي، أودِّعها،
ثمَّ مثل الكناري، أحجُّ إلى ماء نفْسي
وأرفعُ أشجارها فوق كتْفي
ولا أبتعدْ!

أحمد نمر سليمان الخطيب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى