الأحد ١٨ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم فؤاد وجاني

كرة قدم لكل مواطن مغربي

الكرة... آه من تلك الجلدة المنفوخة بالهواء المدورة التي ملأت القلوب وشغلت العقول وأفرغت الجيوب... تتعدد أنواعها، فمنها مايُصفع بالكف، ومنها مايُضرب بالمضرب، ومنها مايُقذف بالعصا، ومنها مايُنطح بالرأس، ومنها مايُركل بالقدم... كلما رأيت شكلها تذكرت، دون نقطتين، تاء التأنيث العربية المربوطة البائسة المهجرة... يبدو أن للأشياء الحية والجامدة المدورة تأثيرا على الأبصار والهوى والهمم... لم لا، فالأرض مكورة، والشمس مدورة، والقمر والمجرات والأكوان كلها دائرية، ورؤوسنا مكورة... وأشياء أخرى كثيرة نراها حولنا... حتى الطواف بالكعبة دائري، والساعة دائرية، والزمن دائري... لقد تسربت كرة القدم إلى عروق الناس فجرت فيها مجرى إبليس في الدم، وجمعت وفرقت مالم تجمعه وتفرقه اللغات والعادات والأديان في الكرة الأرضية، فعشقها الناس حد الثمل بل الخبل، حتى أنك لو جمعت مرادفات العشق العربية التي تزيد عن الخمسين ماكانت لتوحي بمدى وله ومبلغ تتيم الناس بكرة القدم.

تغار منها النساء على رجالهن رغم أنها جلدة قبيحة صماء بكماء خرساء جامدة، تُركل فلا تشتكي، وتُعشق فلا تهيم، وتُكلم فلا تجيب. إنها ضرة لاينفع معها صبر ولايجدي معها جدل... في البيت كرة، وفي المقهى كرة، وفي الشاشات كرة... والحديث كرة... والصمت كرة... وكثيرات هن النساء اللواتي يعشقن الكرة أيضا... الأطفال يلعبونها بقامات أجسامهم الصغيرة... والمسنون بأجفان عيونهم المتجعدة.

لاشك أن كرة القدم من الألعاب المسلية والهوايات الرياضية الجميلة بل من الحرف والصناعات العالمية، بها الأبدان تصح، والأنفس تتسلى، والقدرات تزهو، والحرف تنمو. لكن، هناك استثناء تعداده أشخاصا بالملايين لاتهمهم كرة القدم، ولاتحرك فيهم ساكنا، ولاتبعث فيهم ميتا. هم أناس يجرون وراء لقمة العيش، ويلهثون وراء سد الرمق بدل الملاعب الخضراء المعشوشبة وشاشات التلفاز الملونة.

الحاج فرحان واحد من أولئك المستثنيين الساكنين في مدن الصفيح خارج ضواحي مدينة الدار البيضاء بجوار الفقراء والمساكين، حيث الآلاف ممن لهم الله وحده ولامسكن لهم. سقف بيته من القصدير وأرضيته من التراب. في فصل الشتاء يحضر الحاج فرحان وعائلته الحاويات الفارغة لتلتقط ماء المطر المتسلل من شقوق القصدير بينما ترتعد فرائصهم من الزمهرير وتتجافى جنوبهم عن المضاجع رعشا. أما في الصيف فيتحول الصندوق الذي يعيش فيه إلى نفحة من نفحات نار جهنم في الدنيا.
بعد بزوغ شمس كل يوم يتوجه الحاج فرحان إلى السوق ليبيع النعناع حتى يعيل بالحلال عائلته المكونة من خمسة أفراد: زوجة وطفلتان وولدان عاطلان عن العمل. أنفق الحاج فرحان عمره وصحته وماله وسعادته في تعليم ولديه، تخرج واحد منهما من الجامعة بدرجة مهندس، أما الثاني فقد تخرج من معهد التدريس ليواجها معا مصيرهما المحتوم كما مئات الآلاف من الكوادر العلمية من الشباب المعطلين عن العمل في المغرب. كلاهما قد أعفيا لحيتيهما ليس تدينا بل لأنهما لايجدان مايشتريان به موس حلاقة.

الحاج فرحان مغربي أبا عن جد، بل إن أباه كان من المقاومين أيام الاستعمار الفرنسي، ولازال الحاج فرحان لحد الآن يقاوم... ويقاوم... ويقاوم عدوا أشرس من الاحتلال الفرنسي...عدوا لدودا اسمه الفقر.

"شكرا لله على النعناع"، هذا مايردده الحاج فرحان عند عودته من السوق في غسق الليل وقد أنارت البشاشة ناصيته وكوخه المظلم. فعلا، إنها معجزة تستحق الشكر. لقد استطاع الحاج فرحان رغم ضيق اليد وقتر الجيب وعسر الأيام تعليم أولاده الأربعة وإعالتهم وتتمة فريضة الحج.

لم يشاهد الحاج فرحان الحزين كأس العالم الأخيرة رغم حبه لكرة القدم... يتذكر تارة حين كان يلعب مع أقرانه في الصغر، ويتحسر على لاعبي الستينات والسبعينات من القرن العشرين، وكيف كان لاعبو كرة القدم يلعبون بقلوبهم قبل أرجلهم، وكيف تدمع عيونهم كلما علت راية المغرب في بلاد الخارج.

الحاج فرحان الحزين أكثر حزنا الآن...ليس لأن حكومة المغرب الحالية برئاسة المدرب الوزاري ورئيس الوزراء مستر عباس الفاسي لم تجد دواء لمعضلات دور الصفيح والبطالة والرشوة والسرقة والظلم والشطط في استعمال السلطة والدواوينية والتفنن في إذلال المواطن والتعسير وقلة الدين والحياء وقمع حرية التعبير والرأي والتظاهر المسالم -وحاشا لله أن تكون من الفاعلين – فحسب، فقد اعتاد على تلك المفردات في قاموسه اليومي البائس... بل لأن الجامعة المغربية لكرة القدم برئاسة علي الفاسي الفهري (ابن أخت رئيس الوزراء عباس الفاسي، وشقيق وزير الخارجية الطيب الفاسي الفهري، وبعل وزيرة الصحة ياسمينة بادو، وهلم جرا !) ستدفع لمدرب بلجيكي يدعى ايريك جيريتس مئتين وخمسين ألف يورو شهريا من المال العام لتدريب المنتخب المغربي !!!!!!

الأجر المذكور يغطي التدريب فقط ولايشمل مصاريف إقامة عائلة المدرب البلجيكي وتأمينها الصحي وتنقلاتها ورفاهيتها، كما لا يشمل نفقات كلبه الضخم "جورج" الذي يصر على مرافقته خلال التداريب والمباريات.

"اللهم إن هذا منكر، مئتان وخمسون ألف يورو شهريا كافية لإعداد مئات من المدربين المغاربة في أفضل المدارس الكروية العالمية... مئتان وخمسون ألف يورو شهريا يمكنها أن تبني أحياء سكنية لمن يفترشون الأرض ويلتحفون السماء مثلي... مئتان وخمسون ألف يورو يمكنها أن تشغل أبنائي وبعض الكفاءات من العاطلين..."، أفصح صارخا الحاج فرحان الحزين حين صعقه الخبر في حر الصيف وهو المغربي الذي يحارب ظلمة الليل وضوء النهار ويبيع النعناع الأخضرليكسب ثمن الخبز الحافي.

لا ومئتان وخمسون ألف لا... يا"مواطن"... يامغربي...حسابك غلط في غلط... مئتان وخمسون ألف يورو شهريا سوف تسحب من خزينة الشعب وسوف تنزع من جيب المواطن لتملأ كرة بالهواء... مئتان وخمسون ألف يورو ليشاهد أمثالك كرة القدم وينسوا فقرهم ويأكلوا الهواء... وسيحرص المال العام المغربي على رفاهية الكلب البلجيكي أيضا...

عمت هواء... يامواطن... يامغربي... في وطنك المغرب... ماأطول نفسك...!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى