الثلاثاء ٢١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨

كلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَه

بقلم: أكرم علي حمدان

أنظرُ في أحوال الناس فأحتارُ في أمرهم، وأتعجبُ من شأنِهم، وأرى فيهم معنى قوله تعالى: "ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا": جحافلُ من البشر، كلٌّ ماضٍ في طريق ارتضاها لنفسه، فهذا مولعٌ بالقراءة لا يرى في الدنيا فائدة غيرها، وينظر لمن لا يقرؤون على أنّهم مساكينُ ضائعون، لا يعرفون بواطنَ الأمور ولا خفايا الأشياء، وذاك رياضي لا يرضيه سوى رياضته، ويرى أن من حُرمها حُرم الخيرَ كلَّه، لأنه في نظره لا يدرك معنى الحياة؛ وعنده أن صاحب الكتب والقراءة مهلك نفسه فيما لا طائل تحته، يرمي الناس بالجهل وهو أجهل الجاهلين. هذا تاجر يشتري ويبيع، يعقد الصفقات ويجني الأرباح، تسيل في يديه الدنانير، ولا تخلو جيبه من النقود، فغيره في نظره مسكين وإن علا قدره، لأنه لم يبلغ مبلغه من الذكاء في اقتناص الدراهم وتجميع الأموال. وذاك مشغوف بالنقاشات السياسية والمماحكات الكلامية، يُشقق القول، ويحلل المسائل، ويستنبط الأدلة، ويولّد الآراء، ولا يصرف جزءاً من وقته إلا في سماع نشرةٍ، أو قراءة تحليلٍ، أو تأييد نظرةِ موافق، أو نقض رأيِ مخالف. ولو شئتَ ألا ينقضي عجبُك، فتأمل أحوال الناس وما هم فيه من شؤون، فإنك سترى العجب العجاب في هواياتِهم ورغائبهم وما يُسِّرَ كلٌّ منهم له.

من الناس من يُسّخّر كلَّ ما يملك من طاقة في سبيل كسب المال، لا يبالي أمن حلالٍ أم من حرام، ومنهم من يُرضيه القليلُ ولا يحركُ نفسَه الكثير، فيعيش على ما قُسم، ويقبل بما أعطي، يرى حوله من هم دونه في العلم والعقل والموهبة وقد أَثْرَوا واغتنَوا، وهو غارق فيما هو فيه من أمر، يعالج موضوعاً من الموضوعات، صارفاً إليه همه، مضيعاً فيه ساعات عمره، مقنعاً نفسه أنه صاحب رسالة في هذا العالم لا بد له من تأديتها والقيام بحقها.

وليس لقومٍ في هذا على قومٍ مَزيّة، بل الناسُ فيه سواء، على اختلاف أشكالهم وألوانِهم، وتباين لغاتِهم وأقطارهم، وتنوع عرقياتِهم وجنسياتِهم. فالبشر يبقَون بشراً، أنى وجدوا وحيثما حلوا، لهم رغبات وأهواء، ونزعات وتطلعات، يحبون ويكرهون، يوالون ويعادون، يغارون ويُنافسون، جبلت نفوسهم على حب الخير لذاتِها، وجلب النفع لها، كما جبلت على حب التملك والسيطرة والاستحواذ على ما تشتهيه من متاع، وترتاح إليه من رغائب.

هذا بلزاك، الروائي الفرنسي الكبير، يترك باريس غاصةً بالمارة شوارعها، ملأى بالأنوار طرقاتها، يأتيها الناس من كل مكان يسيحون بين أرجائها، ويقطفون من ثمرات فنونها وآدابها، ويأوي إلى بيته في تلك الضاحية منها، فاراً إلى أوراقه وأقلامه وشموعه، يفرغ ما سجلته عيناه وحفظته واعيته من مشاهد وشخوص، خالعاً على كل منهم اسماً من عنده، يبث فيهم حياة من حياته، وروحاً من روحه، ليخرج على الناس برواياته التي تمتعوا بها على اختلاف أعمارهم وأقدارهم، لا يبالي بما يناله من تعب ووصب، وما يظهر على سحنته من هزال وشحوب، كأنه مسخر لإمتاع فرنسا بما يجري به قلمه من وصف عامة الناس على اختلاف طبقاتهم وأعمالهم، نائياً بنفسه عن فلسفة المتفلسفين من أدباء عصره، وتأنق المتأنقين، كجوتييه وهوجو ولامرتين، فيبقى يعاني من وطأة الدين وقسوة المرابين، الذين غذا رواياته وقصصه بوصف شحهم وحرصهم، فأضحك الناس منهم ومتعهم. هذا الرجل العظيم كان ميسراً لهذا الأمر، كأن عصاً تسوقه، أهلك نفسه "ليخلق هذا الخلق العظيم، أضناه طول السهر وأضعفت عينيه الكتابة على ضوء الشموع: كان في شبابه بديناً فأصبح وقد أشفى على الخمسين هزيلاً ناحلاً كأنما قد نيَّف على التسعين، وخبا نور عينيه، وكانتا رسول الحياة إلى نفسه، بِهما كان يكتب"، ومنهما يستملي، حتى جاءه الموت وهو في الحادية والخمسين من عمره، فألقى عصا التسيار في هذه الحياة تاركاً ثروة من الروايات عملاقة خَلّد بِها ذكرَه، ووهب نفسه عمراً بعد عمره.

ولئن كان بلزاك قد خاض في غمار الدنيا، وجاهد ليصل فيها إلى حياة مترفة يتحرر فيها من أعباء الحياة وأثقال المعيشة، وإن لم يحالفه الحظ وخانته الأقدار، فإن هناك من لم يعبؤوا بصخب الحياة حولهم، وآثروا أن يقضوا أعمارهم في صمت، باحثين عن غاية أفنوا فيها أعمارهم ولم يأخذوا منها شيئاً لأنفسهم، ولكنهم أضاؤوا الطريق لمن جاؤوا بعدهم، فكانوا الشموع تحرق نفسها لتضيء لغيرها، وهم مع ذلك كانوا في غاية القناعة والرضا، مطمئنة بذلك نفوسهم، راضية قلوبُهم.

أتَرى معي ذلك الخُصَّ المتواضعَ الصغير، قابعاً في تلك الناحية من البصرة؟ من يا تُرى يقيم فيه؟ هلم بنا إليه لنرى! أتَعْلَم؟ إنه الخليل! الخليل بن أحمد الفراهيدي، علامة زمانه في العربية، وشيخ النحاة وأستاذ سيبويه! قابع هناك في ذلك الخص الحقير والناس يتأكلون بعلمه، زهد في الناس، ورغب عن الدنيا، وانقطع إلى كتبه وكراريسه؛ يأتيه رسول سليمان بن علي وهو يومئذ والي الأهواز يلتمس منه الشخوص إليه وتأديب أولاده، فيُخرج إليه خبزاً يابساً ويقول له: ما عندي غيره، وما دمت أجده فلا حاجة لي في سليمان، فيقول الرسول: فماذا أبلغه عنك؟ فينشئ الخليل يقول:

أبلغ سليمان أني عنك في سَعة
وفي غنىً، غير أني لستُ ذا مالِ
 
سخى بنفسي أني لا أرى أحداً
يموت هزلاً ولا يبقى على حـالِ

وما دمنا ذكرنا الخليل، فلنذكرِ ابنَ منظور، صاحب لسان العرب، سلّطه اللهُ على المطولات من الكتب يختصرها، حتى قال فيه ابن حجر: "كان مُغرى باختصار الكتب المطولة: اختصر الأغاني والعقد والذخيرة ونشوار المحاضرة ومفردات ابن البيطار والتواريخ الكبار، وكان لا يمل من ذلك، قال الصفدي: "لا أعرف في الأدب وغيره كتابا مطولاً إلا وقد اختصره، وأخبرني ولده قطب الدين أنه ترك بخطه خمسمائة مجلدة""، وسبحان من ألهمه هذا الأمر ويسره عليه، فقد ظل كذلك حتى عَمِيَ في آخر عمره.

ومَن صاحبُ هذا المتجر الكبير الواقع في ذلك الشارع التجاري من مدينة الكوفة؟ فيه الأقمشة الممتازة والملابس الفاخرة، من كل صنف ولون؟ أتُصدق ما تسمع؟ إنه أبو حنيفة النعمان، صاحبُ المذهب، أجل! كانت له تجارة رابحة أخذها عن أبيه، ولكن الله أراد له شيئاً آخر، فقيض له عامراً الشعبي يكتشف حدة ذكائه ورجحان عقله وسرعة بديهته، ويدرك بفراسته ما سيكون له في الفقه الإسلامي من شأن، ويرى حراماً أن تضيع هذه المواهب بين جدران دكان! فيوجهه لدراسة الفقه، ويوصيه بمجالسة العلماء والنظر في العلم، فيبرع فيه وتنتهي إليه الرئاسة في الفقه بعد موت شيخه حماد بن أبي سليمان، ويغدو أفقه أهل عصره، وصاحب أكبر مذهب فقهي في زمنه!

وأبو علي الفارسي كان متضلعاً في النحو حتى انتهت إليه الرئاسة فيه، وكان يحب كل ما له صلة بالنحو والنحويين، حتى إنه أوصى بثلث ماله، وكان ذا مال، لنحاة بغداد والوافدين عليها ، إلا أنه لأمر ما كان مولعاً بقتل الكلاب! لا يرى كلباً إلا ويطارده ويريد قتله، وقد قرّع مرة تلميذه ابن جني لأن كلباً فر منه يوماً كان أبو علي يريد قتله، فقال له مغاضباً: اذهب، مدبر في النحو مدبر في قتل الكلاب. وليست بين يدي نسخة الأستاذ النجار من كتاب الخصائص لأنقل لك القصة كاملة، فسبحان من ييسر الناس لما يحبون.

ومن الناس من صرف همه لإتقان فن من الفنون الجميلة، فوهب نفسه له ووقفها عليه، حتى تفوق فيه وأتي بالبديع المعجب، هذا حامد الآمدي شيخ الخطاطين وسيد من خط بالعربية في العصر الحديث، وهب نفسه للخط العربي، وظل يجري به قلمه وقد ناهز التسعين من عمره، لا يَكَلّ ولا يَمل، بل يُبدع في كل ما يكتب، كأنما يَنْفُثُ إذا خطَّ بأقلامه في عُقَد السحر، أو يُنَضِّدُ بوصلِ حروفه عقودَ الدُّر، يرحب بجميع من يقصدونه لتعلم الخط عليه، يجيز من يستحق الإجازة منهم، حتى تخرّج عليه مئات الخطاطين من شتى الأماكن والبقاع، وسلم الراية من بعده لمن ساروا على طريقه، كالشيخ حسن جلبي الذي خلق ميسراً لهذا الفن أيضاً، إذ حبب إليه وهو في نعومة أظفاره: أمتع ساعة لديه ساعة يقضيها متأملاً مجموعة من أمشاق الخط العربي، أو إعداد قلم ودواة للشروع في تنميق لوحة، حتى غدا أستاذ الجيل الجديد في هذا الفن.

بل إن عائلة بأكملها سخرها الله لحفظ هذا الفن وإحيائه من جديد، وهي عائلة أوزجاي التركية، أو مثلث الإتقان التركي، محمد وعثمان وفاطمة التي عكفت على إتقان الزخرفة الإسلامية، حتى بلغت في ذلك غاية المنتهى، وجاءت بما يكاد يشبه الخيال في الدقة والإتقان. ولك أن تتخيل لوحة من عمل أحد أخويها وقد شملتها زخرفة أبدعتها أنامل هذه الفنانة العظيمة، وأشهد أن مشاعري كانت تهيج إلى درجة ذرف الدموع وأنا أتأمل إبداعات هذه الأسرة الكريمة، من لوحات وزخرفات وأمشاق، فسبحان من بيده خزائن الأرزاق!

وفي الفن والموسيقى لمعت أسماء أعلام في الشرق والغرب، كانت الموسيقى حياتهم، مَن لا يعرف بيتهوفن الذي ظل يلحن حتى بعد أن أصيب بالصمم! ومن يجهل الأخوين رحباني، عاصي ومنصور، اسْمعْ ذوّاقةَ الموسيقى العربية، محمد عبد الوهاب، يصف عاصياً، فقد عاش معه نحو ستة أشهر من عام سبعة وستين، وكان على صلة يومية به في بيروت، يقول: لاحظت كيف كان عاصي الرحباني يعيش للفن وللفن فقط! شهدته يؤلف على البيانو أو على البزق، ويدير التمارين، ويقود الأوركسترا، ويلحن. وأدهشني فيه أنه كان يلحن كل الوقت: يلحن وهو يأكل، ويلحن وهو واقف، ويلحن وهو جالس، ويلحن وهو يلحن. يعني أن حياته كلها كانت تلحينا. لذا لم يعرف في حياته كلها إلا الفن، كان رجلاً أخذه الفن واشتراه، وهو ارتضى أن يبيع نفسه للفن.

وعمل عندي في البيت نجار حاذق ماهر بالنجارة، يذكرني بنجار بديع الزمان في مقامته المضيرية، نشأ مع الأخشاب، ورضع حب النجارة مع اللبن، حتى صارت النجارة شغله الشاغل، فوهب لها نفسه حتى برع فيها، يتعامل مع الأخشاب كأنها أحياء من الأحياء، يعرف أنواعها وأوصافها، ويعدد خصائصها ومزاياها، لا يلذ له حديث كحديث النجارة والتفنن فيها، ولا يطربه منظر كمنظر باب صنعته يد الإتقان، أو شباك عالجته أنامل فنان، حتى إنه يستل أمثاله من واقع عمله: تأخر علي يوماً فعاتبته، فقال معتذراً: سأل الخشبُ المسمارَ يوماً: لماذا تدخل في أحشائي إلى هذا الحد؟ فرد المسمار: لو رأيت الضرب على رأسي لعذرتني.

وأهل التصوف، وإن كانوا يبغون غاية واحدة في نِهاية المطاف، قصدها تزكية النفس والقرب من الحضرة الإلهية، وصرفوا لهذا الأمر هممهم، وشغلوا به أوقاتَهم، إلا أنّهم تنوعت في ذلك مشاربُهم، واختلفت طرقهم، فمنهم من كان مشربه مشرب الزهد، كالحسن البصري وبشر الحافي وشيخ الطائفة الجنيد وأستاذه الحارث المحاسبي الذي كان يقول: من أراد أن يذوق لذة طعم معاشرة أهل الجنة فليصحب الفقراء الصادقين. ومنهم من اغترف من مشرب العرفان كأصحاب التصوف الفلسفي كالحلاج وأبي يزيد البسطامي وابن عربي والسهروردي والشيخ الرئيس ابن سينا، ومنهم من اتخذ المحبة مشرباً له، وهؤلاء انشعبوا شعبتين، فمنهم من كان مشربه محبة الله تعالى كرابعة العدوية وابن الفارض والحلاج، ومنهم من أُشرب محبة الرسول، صلوات الله عليه وسلامه، كالبوصيري صاحب قصيدة البردة الشهيرة. وقد عبر كل قوم من هؤلاء عما كان يعتلج في صدورهم من مشاعرَ وأحاسيس، فصنعوا أدباً مستقلاً خلد على التاريخ واستمتعت به الأجيال. ولطالما تمتعت روحي بشعر هؤلاء، بل لقد كانت تستعبر مني العين لما أقرأ قول الشاعر في تصفية النفس من كل ما سوى الله تعالى:

تقول نساء الحي تطمع أن ترى
محاسن ليلى؟ مُتْ بداءِ المطامــعِ
 
فكيف ترى ليلى بعين ترى بِها
سواها وما طَهَّرْتَها بالمدامـــعِ؟
 
وتطمعُ منها بالحديث وقد جرى
حديثُ سواها في خُرُوق المسامعِ؟
 
أو قوله في القناعة بما عند الله وعدم مد العين إلى ما سواه:
 
إذا أنعمت نُعْمٌ عليَّ بنظرةٍ
فلا أَسْعَدَتْ سُعدى ولا أَجْملت جُملُ
 
وهو قريب من قول رابعة:
 
إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التراب ترابُ
 
وكقوله:
 
كانت لقلـبي أهواء مفـرقــة
فاســـتجمعت مُذْ رأتْك العينُ أهوائـي
 
فصار يَحْسُدني من كنتُ أحسده
وصرتُ مولى للورى مذ صِرتَ مولائـي
 
تركتُ للناس دنيـاهم ودينهـم
شغلاً بذكرك يـا ديـنـي ودنـيـائـي

ومن عجيب تسيير الله كلاً لما خلق له أن صرف همة نفر من المستشرقين للعكوف على دراسة التصوف الإسلامي وتحقيق كتبه، والتعريف بأعلامه، ودراسة طرقه ومذاهبه، ولمعت لهم في هذا الفن أسماء كنيكلسون ولويس ماسينيون الذي استهواه هذا الفن حتى استهلك كثيراً من وقته مع أنه كان مشغولاً بأمور كثيرة منها عمله مستشاراً لوزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، وراعياً روحياً للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر.

وكما كان هناك مستشرقون توفروا على دراسة آداب العرب وعقائدهم وبلغوا في ذلك شأواً بعيداً، فقد سخر الله طائفة من المسلمين لدراسة علوم هؤلاء، ولا سيما التوراة والإنجيل، فصار هذا شغلهم الشاغل، نذكر منهم الشيخ رحمة الله الهندي صاحب كتاب إظهار الحق، وهو أشهر من أن يعرف، ثم الشيخ أحمد ديدات رحمه الله، وكذلك الأستاذ أحمد حجازي السقا الذي كان أعرف بالتوراة والإنجيل من كثير من علماء النصارى واليهود، وألف كتابه الشهير البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل.

انظر كم ترك علماؤنا الأوائل من العلوم، في كل علم وفن ومطلب، كتبها النساخون في أزمان متفاوتة، وأماكن متباينة، بخطوط يدوية، منها ما يقرأ ومنها ما يحتاج إلى الساعات الطوال لفك أسراره وحل تعقيداته. أما كان يمكن أن تذهب طيّ النسيان، وتسطوَ عليها عاديات الدهر فتهلكها؟ لكن رحمة الله تداركتنا بأن صرف الله لها في هذا الزمان نفراً من علماء العصر، توفروا عليها وشغفوا بتحقيق نصوصها، والمقابلة بين مخطوطاتِها، ونفي الخبث عنها. وهذا عمل جدُّ شاقّ، لكنهم كانوا به فرحين، وعليه صابرين، ألقى الله في قلوبِهم حب هذا الفن، ويسر لهم سبيله، وعلمهم أسراره، فتراهم عليه صبحَ مساءَ عاكفين، يسافر أحدهم عشرين مرة من أجل الحصول على مخطوطة، فِعْلَ محقق الجزء الثلاثين من كتاب الوافي بالوفيات للصفدي.

رحم الله عبد السلام هارون، كاد يصيبه العمى من كثرة ما نظر في مخطوطات الأولين، وحقق منها ما تنوء بحمله العصبة: حقق كتاب "الحيوان" في ثمانية مجلدات، والبيان والتبيين في أربعة أجزاء، وكتاب "البرصان والعرجان والعميان والحولان" و"رسائل الجاحظ" في أربعة أجزاء، وكتاب "العثمانية". وأخرج من المعاجم اللغوية معجم "مقاييس اللغة" لابن فارس في ستة أجزاء، واشترك مع أحمد عبد الغفور العطّار في تحقيق "صحاح العربية" للجوهري في ستة مجلدات، و"تَهذيب الصحاح" للزنجاني في ثلاثة مجلدات، وحقق جزأين من معجم "تَهذيب اللغة" للأزهري، وأسند إليه مجمع اللغة العربية الإشراف على طبع "المعجم الوسيط". وحقق من كتب النحو واللغة كتاب سيبويه في خمسة أجزاء، وخزانة الأدب للبغدادي في ثلاثة عشر مجلدًا، ومجالس ثعلب في جزأين، وأمالي الزجاجي، ومجالس العلماء للزجاجي أيضًا، والاشتقاق لابن دريد. وحقق من كتب الأدب والمختارات الشعرية الأجمعيات والمفضليات بالاشتراك مع العلامة أحمد شاكر، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي مع الأستاذ أحمد أمين، وشرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري، والمجلد الخامس عشر من كتاب الأغاني لأبي فرج الأصبهاني، وحقق من كتب التاريخ جمهرة أنساب العرب لابن حزم، ووقعة صفين لنصر بن مزاحم، وكان من نتيجة معاناته وتجاربه في التعامل مع النصوص المخطوطة ونشرها أن نشر كتابًا في فن التحقيق بعنوان: "تحقيق النصوص ونشرها"، فكان أول كتاب عربي في هذا الفن يوضح مناهجه ويعالج ما له من مشكلات.

وفؤاد سزكين في هذا الباب أعجوبة من أعاجيب الزمان، فقد قام وحده بما تعجز عن القيام به مؤسسة كاملة، من خدمة التراث والبحث في تاريخ العلوم العربية والإسلامية، إذ قضى في ذلك نصف قرن من الزمان لم تفتر له همة ولم تَخُرْ له عزيمة ولا انفرط له رباط.

ولو تركت هذا ومضيت قليلاً، رأيت أناساً أولعوا بتربية الكلاب والاهتمام بِها والإنفاق عليها، وآخرين شغلهم التنقيب في الآثار، وتجشموا في سبيل ذلك المشاق وأعباء الحل والترحال، فيما شغف سواهم جمعُ النقود القديمة وطوابع البريد، أو اقتناء الأنتيكات والأثريات، فلا تراهم إلا في سوق قديمة، أو دكان عتيقة، ينظرون إلى ما يعرض عليهم نظرَ الظمآنِ إلى الماء، والجائعِ إلى الطعام، يرون سجادة عتيقة فتتلمظ لها شفاههم، وتدور في حناجرها عيونُهم، ثم لا يستطيعون إخفاء ما يجدون من إعجاب، حتى يدفعوا فيها أضعاف ما يدفع غيرهم فيما هو أفضل منها بمرات. أما هؤلاء فقد انصرفوا للأجهزة الإلكترونية لا يكاد يخفى عليهم من أسرارها ودقائق صنعهتا شيء، إن دخلت بيوتَهم وجدتَها مبعثرة في كل مكان، على الأرض وبين الرفوف وفوق الطاولات، أجهزة وأمتعة وآلات. وأولئك لا هم له إلا التأمل في الكواكب والنجوم ومعرفة أسرار الفضاء وأنباء الأفلاك، يستنطقونَها ما لا تفوه به الألسن، أو تعرفه الكتابات، يقتنون المناظير وآلات التقريب، ويقرؤون المجلات المتخصصة والتقارير، يمرض أحدهم لو فاته منها عدد، فأخبارها عنده أهم الأخبار، يحرص عليها بليله والنهار.

ورهطٌ كأنما خلقوا ليعيشوا في البحار لا على اليابسة، لا يخرجون من البحر إلا ليعودوا إليه، بينهم وبين مائه صهر ونسب، من طَريِّ لحمه يأكلون، ومن طاهر مائه يغتسلون. ونفرٌ عاشوا مع النباتات، واهتموا بأنواع الأعشاب والزهور، أَكَلَهم الحرصُ على معرفة أشكالها وألوانِها وفوائدها ومضارها، فالحدائق بيوتُهم والرياضُ مسارحُهم، تراهم في طلبها رائحين غادين، لا يكلون في سبيل ذلك ولا يملون. ههنا قوم شغفوا بالمعادن الثمينة والأحجار الكريمة، لا يرون في غيرها للكسب سبيلاً، وهناك جماعة استهوتْها الكتبُ وجمعُها، فصارت شغلهم الشاغل وهمهم القاتل، فهم فيها بين مشترٍ وبائع، ومؤلفٍ وناشر، أكثر حديثهم في هذا الميدان، يتفاخرون باقتناء أقدم الطبعات، وأدق التحقيقات، وينفقون في سبيل ذلك أغلى ما يملكون. وبين هؤلاء وأولئك طائفة زُيّن لها القرآن، فتبارت في حفظه ومعرفة قراءاته، وبالغت في تجويده والتغني بتلاوته، وشغلت بمعرفة مخارج حروفه وصفاته، يغضب أحدهم ويثور لو خالفه غيره في ضبط مخرج الضاد، أو صفة السين، مما الناس عنه غافلون وفيه زاهدون. رحم الله الشيخ أبا العينين شعيشع وأضرابه ممن لم يخلقوا إلا ليقرؤوا القرآن ويجودوه. وهؤلاء رهطٌ حُبب إليهم الحديث، حتى عرفوا بأهل الحديث، أفنوا أعمارهم في جمعه وتطريقه ومعرفه متونه وأسانيده، فعرفوا طبقات المحدثين، وحفظوا أسماء الرواة، وعرفوا ما لهم وما عليهم، وما قاله أهل الجرح والتعديل فيهم، وجمعوا في ذلك فأوعَوا، فمنهم من ألهمه الله فيه فهماً حتى تجاوز نصه إلى فحواه، فاستخرج منه العبر والدلالات، ونفع به وانتفع، ومنهم من قصر في ذلك وجعل الحفظ همه، والترديد هجيراه، حتى انتقدهم المنتقدون، فقال فيهم جعفر السراج:

إذا كنتم تكتبـــون الحــد
يث ليلاً وفي صبحكم تسمعون
 
وأفنيتم فيه أعمــــــاركم
فأي زمـان به تعملــون؟

أدرت التلفاز يوماً فاتفق أنْ كان فيه مقابلة مع الدكتور صلاح نيازي يتحدث فيها عن ملحمة جلجامش، وهي ملحمة سومرية مكتوبة بخط مسماري على مجموعة ألواحٍ طينية، لا يسمع بِها إلا المختصون، أو من كان قريباً من المختصين، لكن الدكتور كان يتكلم عن عمله فيها وهو في غاية الانتشاء، ومنتهى السرور، وكأن الأرض أطّتْ يوم كُتبت جلجامش وحق لها أن تئطّ!

بل من الناس من حبب إليه القتل وسفك الدماء فلا يستطيعون العيش إلا باطشين جبارين، مثل تيمورلنك وهتلر وشارون، وعدد من السفاحين الذين حُفِرَتْ في سجلِّ الإجرام الأسود أسماؤهم، كفريتس هارمان الذي قُتِل في ألمانيا بحد السيف وأخذت الجامعة مخه لتجري عليه الأبحاث والدراسات، نظراً لطبيعته الإجرامية التي فاقت كل تصور! وهكذا دواليك...

وهل تظن أن صفحات مقالة كهذه تتسع لذكر صنوف الناس وما يسر كل منهم له؟ إنك إذن لمن المخطئين! فسبحان من يسر كلاً لما خلق له، ونسأله أن ييسرنا لما فيه خير الدارين، والعاقبة للمتقين.

بقلم: أكرم علي حمدان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى